الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 307/على هامش الفلسفة

مجلة الرسالة/العدد 307/على هامش الفلسفة

بتاريخ: 22 - 05 - 1939


طريقة الأخلاق أيضاً

للأستاذ محمد يوسف موسى

رأينا عدم غناء الطريقة الاستنتاجية في الوصول إلى مُثُل عليا مرضية من الجميع؛ وهذا ما دفع فريقاً من الفلاسفة للتوجه وجهة أخرى في تعرف الخير والشر والحسن والقبيح؛ هذه الوجهة هي الحاسة الأخلاقية أو الملهمة، حاسة المعرفة المباشرة التي لا تحتاج لنظر واستدلال، بل يكفي أن نلجأ إليها لتهدينا سواء السبيل

هذه رسالة كل فلاسفة أخلاق العاطفة تقريباً كرجال المدرسة الإنجليزية والايكوسية في القرن الثامن عشر أمثال: شاْفِتسْبِرِى، وهَتْشون، وآدم سْمِيثْ. ثم جان جاك روسو الفيلسوف والكاتب الفرنسي المعروف، وشارل جُوسْتَافْ جَاكُوبِي العالم الرياضي الألماني الذي عاش في القرن التاسع عشر

(هتشون) مثلاً يرى أن هذه الحاسة تميز الخير من الشر كما تميز العين الألوان، وتجعل المرء يحس مسرات وآلاماً معنوية خاصة هي نتيجة ما يعمل من خير وشر. و (روسّو) يرى فيها، وبعبارة أخرى يرى في الضمير لأنهما اسمان لمسمى واحد، القوة التي تلهمنا القانون الأخلاقي. تراه يناجيه مناجاة خالدة يقول فيها: (أيها الضمير، أيتها القوة الفطرية الخالدة، أيها الصوت السماوي، أيها القائد الأمين للإنسان الجاهل المحدود - وأن كان ذكيّاً - حراً في إرادته، أيها القاضي الذي لا يضل في تمييز الخير من الشر. . . أنه أنت أشرف جزء في طبيعته، وأنك الفضيلة في أعماله. بدونك لا أشعر بما يرفعني عن الحيوانات ما عدا الميزة التي تجعلني أضل في ميدان الأخطاء، وهي أداة الفهم التي لا قاعدة لها، والعقل بدون مبادئ يسير عليها). أما (جاكوبي) فيقول: (ما هو الخير؟ كل امرئ يملك في قلبه إلهاماً مباشراً به قوة إلهامية تبينه له)

هذا الفهم؛ هذه الطريقة في تعرف القانون الأخلاقي يستحق ما وجّه له من نقد شديد من كبار المفكرين وخاصة الأستاذ العلامة (ليفي بْرِهْلِ مؤلفه القيم (الأخلاق وعلم العادات) حين يقول: (هذا المذهب يفترض أن الطبيعة الإنسانية هي واحدة في نفسها لا يعتورها التغير في جميع الأزمان والبيئات، وأن محتوى الضمير الأخلاقي يكون مجموعاً منسجماً منظماً، ولكنا علمنا سابقاً كيف كان اختلاف الأفكار الأخلاقية شديداً حسب العصور المتعاقبة، وكيف اختلف وتختلف أيضاً الآراء الأخلاقية باختلاف الأمم والشعوب. كيف كان من الممكن إذاً - لو أن هذا المذهب صحيح - أن توحي هذه الحاسة التي لا تضل كما يقولون هذه المبادئ المختلفة أشد الاختلاف بل المتناقضة في بعض الحالات! ثم إننا نحس أحياناً كثيرة تنازعاً وخصومة مؤلمة حادة في ضمائرنا حتى ليكون أسهل على المرء أن يعمل واجبه متى تبين له من أن يعرف بوساطة هذه الحاسة

أنه من المستحيل أن يحدّ المرء نفسه بكتابة الأخلاق تحت إملاء الضمير، وإذاً فلننتقل إلى بحث الطريقة الأخيرة لمعرفة المثل الأعلى الأخلاقي، وهي طريقة الاستقراء، علّنا نصل إلى تحديده على نحو مقنع مرض للجميع

يرى فلاسفة مذهب اللذة الشخصية أمثال (أَرِيستيبْ و (أبيقور اللذين عاشا في القرن الرابع قبل الميلاد، أن الناس جميعاً يتطلبون اللذة في كل ما يعملون كما يفرون من الألم دائماً، على اختلاف بينهم فيما يعنون باللذة وفي تطبيق هذه القاعدة التي هداهم إليها استقراء ما فطر عليه الناس من طباع. كذلك ترى بعض فلاسفة الأخلاق المحدثين يصدرون عن هذا المذهب. هاهو ذا (جرمي بنتام) الفيلسوف الإنجليزي المعروف في القرن الثامن عشر يؤكد بعد استقراء طويل أن جميع الناس تبعثهم المنفعة أو السعادة على أعمالهم حتى في الحالة التي يضحون فيها بعض المنافع أو يقبلون شيئاً من الآلام، لأن ذلك معناه تطلب منفعة أكبر وأفضل. إلا أنه يضيف إلى هذا تأكيداً آخر هو أن اللذة تكبر وتتسع حتى تشمل أكبر عدد ممكن من الناس، وأن سعادة كل امرئ لا تنفصل عن سعادة الجميع. من أجل هذا يجب على الإنسان باسم سعادته أو منفعته الخاصة أن يبحث في أعماله عن (أكبر مقدار من السعادة لأكبر عدد ممكن). وفي القرن التاسع عشر نجد (سْتيوارتْ ميل) يبدأ بحثه بأن جميع الناس يبحثون عن السعادة، فيرى لهذا أن تكون الغاية الإنسانية والمثل الأعلى الأخلاقي هي (السعادة النبيلة التي تأتي من اللذائذ العالية، مثل لذة التضحية في سبيل إسعاد الغير والإنسانية).

حقاً هذا كله مقنع مرض في نتائجه إلى حد ما، وحقائق نفسية لا شك فيها. ولكن بأي طريق وصلوا إليها؟ هانحن أولاء نقبل مؤقتاً فكرة أن جميع الناس يبحثون ويجرون وراء لذاتهم أو منافعهم أو سعاداتهم، غير أننا أن وقفنا عند هذا التحقيق الاستقرائي بقينا دون مستوى الأخلاق التي تبحث فيما يجب أن يكون لا فيما هو كائن بالفعل. وأن أردنا من المرء أن يوازن ويختار بين هذه اللذائذ الخاصة أو العامة أو بين هذه الوسائل والأعمال التي تؤدي اليها، تدخل حقيقة في مملكة الأخلاق ولكن في الحين نفسه تترك مملكة التجارب والاستقراء!

فضلاً عن هذا فأخلاق المنفعة العامة تصطدم بهذا الاعتراض الذي لا محيص منه وهو أننا في عديد من الحالات نجد تعارضاً بين المنفعة الخاصة والمنفعة العامة؛ منفعتي أن يقتتل الناس للدفاع عن حقوقي ووطني وألا أخاطر بنفسي بالدفاع عنهم، وصالحي الخاص أن يكون مال الغير على حبل الذراع حتى انتفع به كما أريد، وأن أقبض يدي وأحفظ مالي فلا أساعد به سواي. وإذاً في مثل هذه المنازعات بين المنفعتين أرى أن أخلاق (مِيلْ) التي تدعو للإيثار تدعوني لجعل منفعتي تابعة للمصلحة العامة ولتضحية تلك في سبيل هذه متى تطلب الأمر التضحية. ولكن كيف يمكن قبول هذه التضحية أي تضحية المنفعة الخاصة في سبيل العامة مع ما سبق أن قرروه من أن جميع الناس يجرون وراء لذاتهم ومنافعهم الخاصة! أليس من التحايل المفضوح أن نضع تحت عنوان أخلاق المنفعة الخاصة أخلاقاً هي الإيثار الصريح؟

ان من التعسف بل من المستحيل أن نأخذ من التأكيد الذي سبق تقريره وهو أن الناس يبحثون وراء لذاتهم أو سعاداتهم انهم يجب أن يختاروا بين مختلف هذه اللذائذ والسعادات وأن يضحوا باللذات الدون التي مرجعها إرضاء عاطفة الأثرة في سبيل الحصول على لذة من نوع أسمى وأعلى يحسها المرء من التضحية في سبيل سعادة الآخرين! ذلك التأكيد الاستقرائي وهذا الاختيار الواجب أخلاقياً طرفان لا يلتقيان على رأي (باسكال).

وأخيراً فكل المذاهب الأخلاقية التي تدخل فيها تجارب الحياة واستقراء ما فيها من البواعث والغايات تتحطم أمام هذه الحقيقة، وهي أن الاستقراء يعرفنا ما كان، بينما تقول لنا الأخلاق ما يجب أن يكون.

هناك بعض الاجتماعيين الأقرب عهداً من سابقيهم عرضوا ضرباً آخر من الأخلاق الاستقرائية، هو أن الأخلاق ترجع أولاً إلى علم العادات الذي مرجعه استقراء التاريخ وملاحظة الحاضر، يتداخل فيها فن عقلي ينظر في الظواهر الاجتماعية والأخلاقية لتعديل ما يجب تعديله منها. هذا هو المذهب الذي عرضه الأستاذ البحاثة (ليفي برهل) في كتابه الآنف الذكر: (الأخلاق وعلم العادات). الأخلاق أعنى مجموع الواجبات التي تفرض على الضمير، لا تستند إلى مبادئ نظرية قامت عليها. إنها عمل، إنها حقيقة؛ عمل اجتماعي، وحقيقة اجتماعية كذلك؟ (إننا لا نعمل أخلاق شعب أو أخلاق تمدن لأنها عملت سابقاً)

إنه بلا شك قد يحصل أن يعارض المرء الحقيقة الأخلاقية بمثل أخلاقي أعلى وصل إليه بالنظر. ولكن هذا البحاثة يجيب عن هذا بقوله: (في الواقع ليس هذا المثل إلا ظهوراً في غير آنه مع بعض التغيير لحقيقة اجتماعية في ماض بعيد أو مستقبل ليس أقل منه بعداً؛ وهذا يكون بالدقة بعض الشيء من هذه الحقيقة التي يجعلونه معارضاً لها).

هذا ملخص ما يراه هذا العالم. فما الرأي فيه؟ موعدنا في بيان ذلك الكلمة الآتية وهي تمام هذه البحوث إن شاء الله تعالى.

محمد يوسف موسى

المدرس بكلية أصول الدين