الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 307/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة/العدد 307/التاريخ في سير أبطاله

مجلة الرسالة - العدد 307
التاريخ في سير أبطاله
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 22 - 05 - 1939


أحمد عرابي

(أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح وأن يحدد له

مكانه بين قواد حركتنا القومية؟)

للأستاذ محمود الخفيف

ولندع الآن عرابياً في رأس الوادي ولننظر ماذا كان من أمر شريف ووزارة شريف. وهنا أبادر إلى القول إن هذه المرحلة من تاريخ مصر كانت أهم المراحل الماضية جميعاً منذ الحملة الفرنسية وأدقها وأبعدها أثراً فيما هي مقبلة عليه بعدها من مراحل.

ظن الناس أن قد انجلت الغاشية على نحو ما صور المستر بلنت ولكنهم لم يكونوا يعلمون أو لم يكن يعلم إلا الأقلون منهم أن وراء هذا الصفو كدراً، وأن سماء السياسة كانت يومئذ كسماء الطبيعة صفت هنيهة لتتلبد بعدها بالسحب المركومة، ولتتلاقى في جوانبها غرابيب سود من الغربان الناعبة فتكون حلكتها وطيوفها بعد هذا الصفة أقبح ما تكون منظراً وأشد ما تكون إيلاماً للنفوس وإزعاجاً للخواطر.

وكيف كان يرجى دوام الصفاء وقد كانت الشباك منصوبة وقد أخذ الصائدون يدفعون الفريسة إليها دفعاً بعد أن أعياهم الأمر فلم يستطيعوا أن يأخذوها بالحيلة أو أن يعصبوا عينيها كما كانوا من قبل يفعلون؟

كيف كان يرجى الصفاء وقد كان الخديو يضمر عكس ما يظهر كأن لم يكفه ما أصاب البلاد من جراء سياسته وتنكره للحركة الوطنية وإيجاده بما فعل الثغرة التي كان ينفذ منها الدخلاء والمتربصون بمصر إلى صميم حركتها وقلب نهضتها؟

وما أشبه توفيقاً في ذلك الموقف، بل وفي معظم مواقفه كما أسلفنا بلويس السادس عشر، ذلك الملك الطيب القلب الذي كان يدفع الثورة في بلاده بمسلكه دفعاً، والذي يعزى إلى سياسته الملتوية المذبذبة أن تنكبت تلك الثورة منهاجها السلمي العاقل واندفعت في طريق جرت فيها الدماء وتطايرت على جانبيها الأشلاء

ظهر ذلك الملك للنواب أول الأمر في جلد الأسد، ثم استخدى بعد وثبة ميرابو، ولكن الشائعات طافت بأهل باريس أن الملك أخذ يستعد ويجمع حوله الجند، فما لبثت أن جرت الدماء في باريس ودك الناس الباستيل رمز العبودية والجبروت؛ ثم رأى أهل باريس بين الدهشة من الملك والزراية عليه والتهزئ به أنه يركب في جماعة من النواب كان في مقدمتهم ميرابو فيزور باريس ويطوف بأنحائها ويمر بخرائب الباستيل مظهراً عطفه على الثورة والثوار، ولكنه يعود بعد ذلك فيأتي من معاني التحدي والنزق ما يجعل الشعب يذهب فيقتحم عليه غرف قصره في فرساي ويعود إلى باريس ليكون رهينة فيها، ويتم الدستور فيرفع إليه فيوافق عليه ولكن ريثما يعد العدة للهرب، ثم يضبط المسكين وقد أوشك أن يجتاز الحدود فيقضي هذا العمل عليه وتمضي الثورة في طريقها مجنونة لا تلوي على شيء حتى تأكل آخر الأمر نفسها

ولقد كان توفيق يسلك تجاه الثورة العرابية مسلك لويس تجاه الثورة الفرنسية مع فارق واحد وهو أن الخديو، كان من ورائه الإنجليز فلما لجأ إليهم توفيق كما هرب لويس لم يقض هذا العمل عليه وإنما قضى على البلاد

تخلص توفيق من رياض وقد كان يسعى إلى التخلص منه، فكيف أراد أن يسلك شريف مسلك رياض ولقد كان الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الاستبداد والديمقراطية؟

لقد عادت الظروف من جديد تبين للخديو بأجلى وضوح أن الطريق الوحيدة هي الانضمام إلى الحركة الوطنية ومشايعتها في صدق وإخلاص، ففي ذلك منجاته من تطرف هذه الحركة وجموحها، وفي ذلك منجاة البلاد من تدخل الأجانب باسم المحافظة على عرش الخديو، ثم من احتلال البلاد باسم القضاء على الفتن والقلاقل

ولكن الخديو تنكب هذه الطريق فدفع تيار الثورة بمسلكه هذا كما كان لويس يدفع تيار الثورة في بلاده. ولقد رأينا كيف آنس الثوار في أنفسهم القوة منذ انضم العساكر إلى الحركة، وكيف فهم الزعماء انهم حصلوا على ما حصلوا عليه عن طريق الإرهاب والقوة، بعد أن عجزوا عن ذلك عن طريق المسالمة والرجاء

ومن عجيب الأمور انه لما انتهت الثورة إلى ما انتهت إليه حمل زعماؤها كل أوزارها وخرج عرابي المسكين بالنصيب الأوفى من هذه الأوزار؛ مع أن الحوادث تثبت عكس ذلك، وهي لو درست على حقيقتها وردت فيها الأمور إلى أصولها لرد ما يعزى إلى عرابي أو أكثره إلى الخديو دون أن يكون في ذلك أقل تجن على هذا ولا أدنى تحيز لذاك

سار شريف على نهج حكيم فأرضى الأجانب بقبوله المراقبة الثنائية، وأرضى الوطنيين بتحقيق الآمال الوطنية، ولكنه ما لبث أن أحس أن هؤلاء الأجانب لا يدعون وسيلة لضم الخديو إليهم حتى لقد ترك شريف بعد مدة وجيزة يعمل وحده، وكأنما وضع الخديو نفسه بنفسه في عزلة

ولو أنها كانت عزلة عن الوطنيين دون اتصال بالأجانب وعلى الأخص بالإنجليز لهان أمرها؛ ولكن توفيقاً قد سبب بعزلته أول الأمر ريبة ومخاوف في قلوب العسكريين؛ ثم تطورت الحال إلى كراهة وأدت الكراهة إلى المقاومة من جديد. ولقد كان أمام توفيق في الواقع هيئتان: الوطنيون برياسة شريف، والعسكريون بزعامة عرابي. وكان يستطيع بشيء من الكياسة والمهارة أن يرضي الوطنيين حتى لا يدع مجالاً لتدخل العسكريين من جديد، ولقد رأى بنفسه ما كان من أمر هذا التدخل بالأمس القريب

افتتح مجلس شورى النواب في يوم 26 ديسمبر سنة 1881 وجاء في خطاب توفيق في حفلة الافتتاح ما يأتي: (أبدي لحضرات النواب مسروريتي من اجتماعهم لأجل أن ينوبوا عن الأهالي في الأمور العائدة عليهم بالنفع، وفي علم الجميع أني من وقت ما استلمت زمام الحكومة عزمت بنية خالصة على فتح مجلس النواب ولكن تأخر للان بسبب المشكلات التي كانت محيطة بالحكومة، فأما الآن فنحمد الله تعالى على ما يسر لنا من دفع المشكلات المالية بمساعدة الدول المتحابة ومن تخفيف أحمال الأهالي على قدر الإمكان، فلم يبق مانع من المبادرة إلى ما أنا متشوق لحصوله وهو مجلس النواب الذي أنا فاتحه في هذا اليوم باجتماعكم)

هذا هو كلام الخديو فهل كانت هذه نياته؟ تلك هي المسألة ونرى أن خير ما نجيب به هو أن نعرض الحوادث التي تلت ذلك ومنها يستبين إلى أي حد كان الخديو ينوي ما يقول

دأب الذين كانوا يعملون من وراء ستار على تخويف الخديو من ناحيتين: ناحية الحركة الوطنية وناحية تركيا موحين إليه في الأولى أن حكم الدستور معناه ضياع سلطة الخديو، وفي الثانية أن تركيا لا ترتاح إلى توفيق وأنها تبيت له ما لا يحب. وغرض هؤلاء الذين كانوا يعملون في الظلام واضح وهو أن يركن الخديو إليهم ليخلص من هذا كله أما عن حكم الدستور فكان ذلك يقتضي حقاً أن يتنازل الخديو عن جانب كبير من السلطان المطلق إلى نواب البلاد وتلك هي المشكلة، وما كانت مشكلة في مصر وحدها، بل لقد كان لها مثيلات في جميع الحركات الدستورية التي شهدها العالم، فما قام الخلاف بين الملكية والشعب في فرنسا إبان ثورتها إلا من هذه الناحية. وما استمرت القلاقل قروناً بين الملكية والشعب في إنجلترا إلا بسبب ذلك. وما استقرت الأمور في الدولتين إلا حينما أثبت الشعبان قوتهما. وإذاً فكان لا بد أن يتفاقم الخلاف بين الشعب والخديو في مصر حتى يثبت الشعب قوته أو يتنازل الخديو عن مبدأ الحكم المطلق، ومن هذا الخلاف كانت تتاح الفرص للأجانب ليسيطروا على الخديو

وأما عن تركيا فقد كان توفيق يستريب ويخاف من سياستها. فكر السلطان أولاً أن يرسل جيش احتلال إلى مصر ليعيد فيها نفوذ الخلافة سيرته الأولى قبل عهد محمد علي؛ ولكن إنجلترا وفرنسا مازالتا به حتى استطاعتا بالسياسة حيناً وبالتهديد من بعد حيناً آخر حتى أقلع عن هذه الفكرة. ولقد أفادتا من ذلك فائدتين: بقاء مركز مصر على ما هو عليه بحيث يسمح لها بالتدخل في شؤونها؛ والتأثير على الخديو بهذا انهما هما الملاذ والسند

ولقد كان الأمير عبد الحليم بن محمد علي في الآستانة يدس الدسائس ويسعى سعياً متواصلاً لخلع توفيق وتولي حكم مصر بدلاً منه، وكانت سيرة ذلك النشاط تزعج توفيقاً وتقلق مضجعه.

وأخيراً أوفد السلطان وفداً إلى مصر برياسة علي نظامي باشا، وقد فعل السلطان ذلك دون علم الدول الاوربية، ولم تعلم بذلك حتى الحكومة المصرية نفسها إلا عندما وصل الوفد

وكان عرابي قد كتب إلى السلطان قبل يوم عابدين كما أشرنا. ولعل السلطان أوجس خيفة من الحركة القائمة في مصر، وظن أنها تنطوي على عناصر استقلالية ترمي إلى خلع سيادة الأتراك. وقد كان عبد الحميد يومئذ يقاوم الحركات الحرة في بلاده ويبطش بالداعين إليها. ولكن الوفد كتب تقريراً عن الحال في مصر جاء فيه على لسان الخديو أن البلاد هادئة ليس فيها ما يخيف. وجاء على لسان رئيس الوفد أن رجال العسكرية والزعماء جميعاً يؤكدون ولاءهم للسلطان، وإنه لذلك يثني عليهم ولا يخالجه شك في حركتهم. ولقد قامت الدولتان بمظاهرة بحرية في مياه الاسكندرية؛ فلما سألتهما الحكومة المصرية عن سبب ذلك أجابتا أن سفنهما تغادر الإسكندرية في اليوم الذي يسافر فيه الوفد العثماني عائداً إلى الآستانة؛ وقد تم ذلك فعلاً حينما غادر الوفد البلاد، ومعنى ذلك أن الحكومتين لن تسمحا للسلطان صاحب الحق الشرعي في البلاد حتى بمجرد النظر في أحوالها، ومعنى ذلك أيضاً أن يزداد تأثيرهما في قلب الخديو فيلجأ إليهما إذا لزم الحال حتى ضد السلطان نفسه!

ورب قائل يقول إن في مسلك تركيا ودسائس عبد الحليم ما يدع الخديو العذر في الاعتماد على الدولتين، ولكن هذا زعم باطل؛ فرجال مصر جميعاً لم يكونوا في تلك الأيام يفكرون مطلقاً في الخروج عن سيادة تركيا، كما أنهم كانوا لا يسمحون للسلطان أن يزيد حقوقه في مصر عن القدر المقرر في الفرمانات. ولنفرض جدلاً أن للخديو الحق في أن يخاف جانب السلطان أفلا يكون بالتجائه إلى الدولتين كالمستجير من الرمضاء بالنار، كما يقول المثل العربي؟ وهل كانت الدولتان تحميانه إلا لغرض؟ وهل كان هذا الغرض إلا رغبة كل منهما أن تحل في مصر محل السلطان؟

إن الحوادث كلها كانت تشير للخديو إلى الطريق الوحيدة التي كان عليه أن يسلكها، ولكنه كما ذكرنا اختار الانحياز إلى جانب إنجلترا منذ حادث عابدين مع تظاهره دائماً أنه يعطف على أماني البلاد، وفي ذلك الخطر كل الخطر وفيه من أجل ذلك مسؤولية الخديو عن اتجاه الحوادث بعد ذلك إلى تلك السبيل التي أفضت بالبلاد إلى كارثة الاحتلال

ونعود إلى عرابي فنقول: إن الحكومة قد استدعته من مقره في رأس الوادي وأسندت إليه منصب وكيل وزارة الحربية؛ وهو يعزو هذا العمل إلى ما بلغ الحكومة على لسان جواسيسها أنه يجول في بلاد مديرية الشرقية فيتصل بالوجوه ومشايخ العرب محرضاً داعياً إلى نشر مبادئه وأغراضه. ويذكر عرابي أنه أنعم عليه وقتئذ برتبة اللواء (باشا) ولكنه رفضها مخافة أن يتهم أنه يعمل لشخصه. ولئن صح هذا وهو ما لا نستبعده، لكان لنا في مغزاه حسنة نضيفها إلى حسنات هذا الرجل؛ حسنة نعتبرها من كبرى الحسنات فإن التهافت على الرتب والألقاب لم يزل حتى اليوم في بلادنا المسكينة داء عياء يتغلغل في نفوس سادتنا وكبرائنا!

ونقول لئن صح ذلك لأن الخبر من جانب عرابي فهو في مرتبة الدعوى! ونقول إنا لا نستبعده مستندين في ذلك إلى شاهد قوي، فهذا الرجل كان بطل الانقلاب يومئذ وعلى يده وصلت مصر إلى ما وصلت اليه؛ فلم يفد من وراء ذلك أية فائدة شخصية. ولو كان في نفسه يومئذ أطماع من هذا القبيل لرأيناه يصل على الأقل إلى مرتبة الوزير، ونقول على الأقل لأنه كان في موقف تحكم فيه من الخديو وفرض عليه الشخص الذي يؤلف الوزارة، وهو موقف يوحي إلى الأنفس الغرور، فلو خالج نفس عرابي يومئذ طمع في جاه أو منصب لما وقف دونه إلى ما يبتغي حائل

ولقد اتصل بعرابي في منصبه الجديد المستر بلنت وطلب صداقته فأجاب عرابي في سرور إلى ما طلب وتصافحا. ولسوف تتمكن بينهما الصداقة وتتوثق عرى المودة سنين طويلة بعد ذلك

وجرى بين عرابي وبلنت في هذا اللقاء حديث أثبته كل منهما في مذكراته وفيه أشار عرابي إلى ارتياحه إلى تخلص مصر من مساوئ حكم إسماعيل ومن دسائس الجراكسة، ولكنه أبدى مخاوفه من سياسة إنجلترا وفرنسا نحو مصر، وعبر عن أمله في أن تعطف إنجلترا على حركة الحرية في مصر وهي الدولة التي تقدر الحرية، وكان عرابي يتوقع العطف من إنجلترا أكثر مما يتوقعه من فرنسا ولا سيما من جانب المستر غلادستون الذي اشتهر بعطفه على الحرية في كل مكان

وليت شعري ماذا يطلب الذين يرمون عرابياً بالطمع والجهل والنزق، أكثر من هذه البراهين التي نسوقها على أنه كان بريئاً من هذا كله؟ ألم يأن لهؤلاء أن يقرءوا سيرة هذا الرجل في غير تحامل عليه حتى يعرفوا لهذا المصري المجاهد قدره وأثره في نهضتهم القومية؟ وهل يوجد في المعايب القومية عيب هو أشد قبحاً من جهل قوم برجالهم في الوقت الذي يرون غيرهم يمجدون ذكرى رجالهم فيوحون إلى الأجيال القادمة معاني الرجولة بما يقدمون لهم من الأمثلة؟

لقد أعجب بلنت بعرابي ووقعت عباراته من نفسه موقعاً حسناً. يقول بلنت في ذلك: (وكان لهذا اللقاء الأول من حسن الأثر على رأيي في الضابط الفلاح ما حملني على الذهاب في الحال لصديقي الشيخ محمد عبدة لأفضي إليه بحقيقة هذا التأثير)

ولقد بلغ من تأثر بلنت أن اقترح وضع تقرير عما أخبره عرابي به ليرسله إلى المستر غلادستون، ثم اشترك مع الشيخ محمد عبدة في كتابة برنامج الحزب الوطني وأطلعا البارودي عليه فوافقهما ثم أطلعا عرابياً عليه أيضاً فأقره وتولى بلنت رفعه إلى غلادستون.

(يتبع)

الخفيف