مجلة الرسالة/العدد 305/صلوات فكر
→ هتلر | مجلة الرسالة - العدد 305 صلوات فكر [[مؤلف:|]] |
المدرسة الابتدائية ← |
بتاريخ: 08 - 05 - 1939 |
في محاريب الطبيعة
للأستاذ عبد المنعم خلاف
3 - الاستيعاب
أيدري ناظر في الطبيعة ماذا يحدث أمامه كل لحظة؟
الطبيعة تعمل أعمالها العظيمة المتعددة في كل لحظة. . تدير الأجرام، وتبني الأجسام وتسكب الشعاع، وتسوق الريح، وتوزع الدورات، وتملأ جميع القوالب، وتعطي الإذن والمشورة والرأي لكل شيء. . .
لا اصطدام ولا تناقض ولا فطور ولا صدوع. تجيب كل حي بلسانه وتكلمه وتوصيه وتوجهه وتلد وتدفن وتضحك وتعول. لا تنام، ولا تستريح. قلبها لا يقف عن الدوران والنبض. كل بذرة، كل بويضة، كل ورقة، كل حشرة، كل ذرة تحتاج إلى عنايتها وإرشادها، وهي تعطي العناية والمشورة ولا تخطئ!
من يكذبني فليذهب إلى حديقة الحيوان بالقاهرة أو إلى أي حديقة مثلها، حيث تجتمع فيها نماذج حياة الأرض، ليرى ويسمع (الجوق) ويهو يعزف (أوبرا) الحياة جميعها. . .
إن حديقة الحيوان موضع عناية الله البارئ! إنها عندي معبد أذهب إليه كثيراً بالجسم حين أكون في القاهرة، وأذهب إليه الآن وأنا في العراق بالروح والفكر لأقف مع الأحياء جميعها أمام الله!
إنها معرض دائم للمنتوجات الحية المجموعة من كل مكان في الأرض. إنها حسنة من حسنات الإنسان لولا أنه فعلها غير مقصودة، بل للهو والمتاع بدون فكر وروح. . .
إن الملائكة يتفرجون بها أكثر مما يتفرج الناس. . . ليروا فعل ربهم في غير عالمهم. . . في عالم الطين. . . إنهم يعجبون من تصنيف القلوب والشكول والعقول فيها. . . وإن القلوب والطباع هناك أمرها عجيب. الأضداد والأعداء ينظر بعضها إلى بعض من خلال الأقفاص ويتعجب كل منها من هذا الوضع الشاذ في حياته. وترى تناقصاً بين ما في قلوبها وبين حياتها وهي مجموعة ينظر بعضها إلى بعض نظرات متدافعة من خلال القضبان. .
قف هناك طويلاً وانظر هيآت الأجسام والنفوس المتعددة. . . أنظر نظرات العيون المختلفة وفكر: كم للدنيا من أشكال متعددة عند كل نوع من أنواع ساكنيها. . . أنظر نظرات العيون المختلفة واسمع أصوات الحناجر المختلفة واستحضر روح سليمان بن داود مفهم الطير والبهائم والمردة. . .
أمسح على الجلود والريش والشعر والقشر وشق البطون والجلود وانظر الآلات التي تدور بها هذه الأجسام. . .
افقه شجاعة الأسد وجبن الفأر وحقد الثعبان ووداعة الحمل وشراهة الذئب ومكر الثعلب و. . . قد خلق ربك كل هذا من طين يا أخي! كل قلب من قلوبها يختص بصفة واحدة من الصفات التي جمعها في قلب الإنسان: خلاصة الحياة والأحياء والابن البكر للطبيعة. . .
(حديقة الحيوان) تسمية أولى منها أن يقال (حديقة الحياة)
4 - لمن هذا كله؟
كل يوم تفرش الدنيا بالضياء أمام الإنسان ليسير، وتسدل عليها أستار الظلام لينام. . . وسواء أكان على الأرض قدم تسير أم لم تكن. . . وسواء أكان على المهاد جسم ينام أم لم يكن. . . فإن الآلات الإلهية تدور في دءوب عجيب وعدم اكتراث بالإنسان
فالصباح يشرق على العاهل والباهل والنابه والخامل، والمساء يستر السهران والنائم المكدود، والربيع والخريف والصيف والشتاء تتداوله وجه الأرض؛ يحيا الإنسان ويموت وهي عاملة ناصبة لا تبالي. . .
فالدنيا تدور باطراد ويدور معها كل شيء لا فكر فيه، ولا يتخلف إلا الإنسان فإنه قد يقف في مكانه حقباً تطول، أو قد يدور دورة عكسية إلى الخلف! لأن فيه قوة الاختيار. . .
ويخيل للمتأمل أن الدنيا قد دارت (على الفاضي) كثيراً عندما لم يعمل الإنسان عملاً يقدمه إلى الأمام، وقد ضاعت قوى كثيرة من عمر الزمان سدى. . . ضيعها جهل الإنسان وبطؤه في إدراك وجهة الحياة
فمن المنتفع بالحياة؟ من الذي خلقت له الحياة؟
هو الذي لا يضيع شعاع ضوء من أضواء النهار سدى، ولا قطرة من ماء السماء سدى، ولا بذرة من بذور الأرض سدى، ويحتفل احتفالاً ليرى صنعة الله! هذا الذي يلقي أمامه الإله العطايا فيلقطها في يقظة لينتفع وينفع. . .
هذا الذي عرف قيمة الحياة هبة الله العظمى! وأحسها إحساساً عميقاً وفكر فيها فكراً، وأقبل عليها في شغف إقبال الأطفال على (السينما). . . فرأى كل شيء، وقرأ كل شيء، ووضع قلبه وفكره على كل شيء. . .
هذا الذي يستعمل مواهبه من الله ليريه أثر صنعته العجيبة في الإنسان. . . وليؤدي دوره كاملاً بين الكائنات كما تؤدي أدوارها بقية جنود الله. . .
هذا الذي يفكر ويأكل ويغني ويندب ويضحك ملء رئتيه ويبكي ملء عينيه، ويلد ويدفن ويعمل بيده ويمشي برجله: أعني لا يعطل شيئاً ولا يتمرد. . . هذا الذي لا يغلق حواسه عن جمال دنياه. . . ولا يترك باباً من أبواب المعرفة إلا قرعه ودخل منه إلى سر من أسرار الله. . .
هذا الذي تتمثل فيه مجموعات الأحياء وينطوي فيه العالم الأكبر. . .
كل شيء يؤدي خواصه خلقته وتكوينه إلا الإنسان. فقد شغل عن خاصته التي له وحده وذهل عنها دهراً طويلاً إلا أفراداً قلائل. . .
فتشوا كم من الناس عاشوا كما يريد رب الحياة في النوع؟
مليون؟ ثلاثة؟ ألف مليون؟
يا ضيعة الإنسان إن كانت نسبة (العارفين) منه في جميع الأزمان كنسبة الذين نراهم الآن في زماننا!
كلمة! سوف لا يدخل إلى الله إلا الذين عرفوه وعرفوا سر صنعته هنا. . . أما غيرهم فيذهبون إلى جحيم الحرمان والنسيان. (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون. . .)
5 - صور من الأوهام في الغمام
أمامي الآن في السماء دنيا كاملة من الصور والأشكال. . . نسقتها الصدفة وحبكتها الأوهام. . . كلها من وهمي وليس فيها من الحقيقة شيء. . . لو أرادت عبقرية أي مصور أن تخرج مثلها لعجزت. . . إنها دنيا من همسات الظنون وخافيات الأحلام في نفسي. . .
أنظر إليها ولا أمل كما ينظر الطفل إلى فقاقيع الصابون التي تكون وتنفجر في لحظة، وأجد راحة في نفسي لا تنتهي، ولا عمق لها
إني أجد في الأرض آثار النظام والإحكام والتحديات والقوالب القاسية التي لا تسمح للخيال بالانطلاق وتكوين ما يريد. ولكني أجد في فوضى الغمام ومزج الصور فيه انطلاقاً وحرية في تركيب الصور، وفي ذلك ما يرضي ويشبع حاستي باللانهائية ويجعلني غير خاضع لمنطق الصور الأرضية وأصول التجسيم
فعالم الأجسام والأحجام والصور الحقيقية في الأرض هو عندي روايات تمثيلية يمثلها أناس وحيوانات حقيقية، وعالم أشباح الغمام كعالم الصور المتحركة التي يمثلها (ميكي ماوس) وأضرابه، مما يعطي كل جماد وكل حيوان ونبات روح فكر ورمزية وحركة وحياة
ولو كنت مصوراً لأخذت من تهاويل الغمام في ساعة واحدة آلافاً من (رءوس الأفكار) في أوضاع الأجسام وإخراج البدائع. ولا شك أن هذا هو أصل التماثيل الخرافية الأسطورية التي لم يتقيد صانعوها بما هو كائن حقيقي ولا بالقوالب المعروفة للأجسام. بل ركبوا متناقضات وجمعوا مفارقات وأخرجوها ليرضوا بها نزعات الانطلاق في النفس الإنسانية زمان طفولتها
فيا عالم الانطلاق! أنا أنظر إليك سجيناً بأغلالي وأصفادي مربوطاً بالعقل الأرضي والمنطق الإنساني. . . لم يشبع خيالي تنوع الصور الأرضية ولم أقف عند حد. وإنما في نفسي إدراك عميق تام أن الصور التي عند ربي لا تنتهي
فأطلق اللهم خيالي من العالم (المتبلور) إلى العالم المائع الذي لا أجسام فيه ولا أحجام. . . أطلق خيالي ولا تضيعه! أسعدني به على القيود ما دمت قد حبوتني هذا النزوع الحاد الدائم إلى الرحلة في عجائب ما تصنع وما تستطيع أن تصنع؛ ولا حد لاستطاعتك!
أن عالم الجمال الأرضي لم يملأ عيني ونفسي، ولم يزدني إلا تطلعاً إلى ما عندك مما خفي على قدرتي المحدودة. ولست طماعاً. ولكني أدركت السر الذي خلقت من أجله، فلن أنام عنه بعدُ، ولن أصبر، ولن أميت أشواقي وإطرابي إليه. وأقسم لك بجلال وجهك! إني ما قصرت في السعي لإدراك أمرك ولن أقصر. . . وكيف أخلق هكذا بصيراً ثم لا أسعى لأرى؟ كيف أبصر النجم العالي، والقرار الداني، والعقل الإنساني، ثم أقف عند حد وأتقيد بقيد؟ إن سر أمرك دائماً في أفكاري وفي أحلامي، ولا أملك غيرهما من معنى الحياة. أما نومي العميق الخالي من الأحلام فذلك ما لا أملك من أمري. . .
(بغداد - الرستمية)
عبد المنعم خلاف