مجلة الرسالة/العدد 304/رسالة الفن
→ من دخان المجتمع! | مجلة الرسالة - العدد 304 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 01 - 05 - 1939 |
دراسات في الفن:
التمثيل تلخيص الحياة
للأستاذ عزيز أحمد فهمي
ينحو التمثيل في مصر نحوين:
أما النحو الأول فهو صناعة التمثيل، وزعيم مدرستها في مصر الأستاذ جورج أبيض. والواحد من أبناء هذه المدرسة يتلقف الدور الذي يعهد إليه بتمثيله، فينكفئ على جمله وعباراته يدرسها جملة جملة وعبارة عبارة، ويرى أي شيء يقصد إليه المؤلف من كتابة هذه الجملة أو هذه العبارة. فإذا كان المراد بها استفهاماً عرف الممثل الصناع هذا الغرض، وأدرك أن هذه الجملة أو هذه العبارة يجب أن تلقى كما يلقي الإنسان سؤالاً يُشعر بإلقائه سامعه بأنه ينتظر منه الجواب. فإذا كان المراد بالجملة أو العبارة إظهار الشكوى والتوجع أَنَّ وهو يلقيها وأرسل صوته متهدجاً متقطعاً. وإذا كان المراد بالجملة أو بالعبارة إعلان الثورة والغضب استلزم تمثيلها عند هذا الممثل أن يصرخ فيها وأن يزعق، وأن يشير بيديه - إذا أحب - إشارات تتفق في معناها ومعنى الغضب والثورة الذي يعلنه بعبارته أو جملته
وهذا أسلوب في التمثيل كان الفرنسيون يصطنعونه حتى السنوات الأولى من هذا القرن وهي السنوات التي أدرك فيها الأستاذ جورج أبيض أستاذه (سيلفان) الذي تعلم التمثيل على يديه في البعثة التي أوفده فيها الخديو عباس، وهذا الأسلوب فيه عيب هو أخطر العيوب التي ينكب بها فن من الفنون وهو التكلف، ذلك أنك لا تستطيع أن تشاهد ممثلاً يمثل بهذه الطريقة وتستطيع أن تنسى أنك تشاهد تمثيلاً، فأنت تلحظ - مهما تناوم حسك - أن كل كلمة مما يلقى أمامك قد درست حروفها حرفاً حرفاً، فلا حرف من حروفها يخرج من بين شفتي ملقيها إلا بعناية مبذولة، ولا جملة ترسل من فيه إلا بتنغيم وتلحين يصرخ في أذنيك بأنه لم يرد عبثاً وبأنه يراد به أن يحوز إعجابك، إعجابك أنت أيها المتفرج! وهذا شيء تزورُّ عنه الطبيعة ولا ترضاه. فليس في الدنيا ناس يكلم بعضهم بعضاً مثلما يكلم أفراد هذ الفريق من الممثلين بعضهم بعضاً وهم واقفون على خشبة المسرح. فهو تمثيل أجدر به أن يقضي الإنسان أمامه الساعات يشاهده و (يتفرج عليه) ولكنه لا يساهم فيه بعواطفه وشعوره، ولا يشارك فيه ممثليه بوجدانه ولإحساسه. . وكيف يصدقهم وهو يذكرونه في كل كلمة من كلماتهم بأنهم ممثلون، وبأن هذا الكلام الذي يسمعه رواية تخيلها كاتب من الكتاب، وأن هذا المقعد الذي يجلس عليه فوتيل ممتاز أجره في السواريه عشرون قرشاً يضاف إليها قرشان ضريبة على لهوه وعبثه!
وهذا هو ما حدا بي أن أسمي هذا النوع من التمثيل صناعة التمثيل، وهو ضرب من التمثيل يستطيعه الموهوب كما يستطيعه غير الموهوب لأنه لا يحتاج في إتقانه إلا إلى تدريب صوتي تتم بتمامه الصنعة، ويقعد بعد تمامها الفن الصادق محزوناً محسوراً
أما النحو الآخر الذي نحصيه للتمثيل فهو هذا الضرب الذي لا يعبأ بالصنعة، والذي لا يعبأ بالصوت، والذي لا يهتم كثيراً بمخارج الحروف، والذي لا هم له في هذه الناحية الصناعية إلا أن يكون الصوت واضحاً مسموعاً مفهوماً؛ ولكنه يتطلب قبل هذا من الممثل أن يكون قد وهب نفسه وروحه وبصره وسمعه وإحساسه وكل قوة من قواه للتمثيل، لا مختاراً، فلا سبيل للاختيار في المواهب، بل مفطوراً مطبوعاً. فإذا لم يكن الله قد خلق الممثل ممثلا فإنه لن يستطيع أن يبلغ من المجد الفني إلا مثلما بلغه الأستاذ الكبير جورج أبيض: دراسة وإلقاء
فالممثل الصحيح هو هذا الذي يشب وهو يراقب الناس فرداً فرداً ويدرس أشخاصهم كاملة لا ممزقة؛ فهو لا يعني بأصواتهم واهتزازتها المختلفة في أصواتهم النفسية المختلفة من تساؤل وغضب وفرح وحزن، وإنما هو يتوغل في نفوسهم إلى ما هو أعمق من هذا؛ فهو ينفذ بروحه إلى حيث مكامن العواطف والانفعالات في نفوسهم، فيتعرف الأسلوب الذي تجرى عليه نفوسهم في تفهم الأشياء وفي الإحساس بالمؤثرات المتباينة. ويجب أن يكون هو نفسه إلى جانب هذه الدراسة التي لا تتاح لكل إنسان صافي الروح سهل الوجه صريح الملامح والقسمات بحيث ينضج وجهه وصوته عفواً بما ينتاب نفسه من المؤثرات. فإذا اكتمل له هذان العاملان أمكن في غير تحرج أن نقول إنه ممثل كامل. ويقف نجيب الريحاني في الصف الأول من هذا النوع من الممثلين المصريين الذين نذكر منهم مختار عثمان وبشارة يواكيم
والواحد من هؤلاء الممثلين الموهوبين يتلقف دوره فيبدأ أولاً في تقليب ذاكرته والبحث فيها عمن مروا به في حياته من الناس الذين يشبهون صاحب هذا الدور الذي عهد إليه بتمثيله. فإذا عثر في ذاكرته على هذا الشبيه المطلوب فقد عثر على كنز. لأنه لن يحتاج في إخراج الدور الجديد إلا أن يتقمص روح هذا الشبيه، وأن يلاشي نفسه أثناء تمثيل الدور، وأن يُحل محلها نفس ذلك الذي بحث عنه ذاكرته واهتدى إليه. فإذا تم له هذا التقمص، فإنه سيكون على المسرح - أو أمام الكامرا - صورة هي أقرب الصور إلى هذه الصورة الأصلية الطبيعية. فإذا كان المؤلف قد أسعده بالتطابق التام بين الصورة المرسومة في الرواية والدور، وبين الصورة الأصلية الطبيعية، فإن الممثل الموهوب لن يبذل من الجهد أكثر من هذا التقمص الذي ذكرناه، وهو بعد ذلك يستولي عليه منذ أن يصطنعه إحساس يشابه تمام المشابهة الإحساس الذي ترتكز عليه الصورة الطبيعية الأصلية في كيانها. فهو يتكلم كما تتكلم ويشير كما تشير، ويمشي كما تمشي، ويجلس كما تجلس، ويغضب كما تغضب، ويسأل كما تسأل، ويحب كما تحب، ويعلن حبه كما تعلن حبها، ويكره كما تكره، ويعلن كراهيته كما تعلن كراهيتها. . . فهو أولاً وأخيراً قد فَنِيَّ في هذه الصورة التي يمثلها، وهو لا يفيق منها إلا إذا غادر المسرح. بل إن من الممثلين الموهوبين مَن يتلاشون في أدوارهم تلاشياً فلا يستطيعون أن يستعيدوا طبيعتهم إلا بعد أن يفرغوا من تمثيل الدور الذي يستغرقون في تمثيله هذا الاستغراق. ولعل الهواة يلحظون أن علي الكسار قد استحال بربرياً من كثرة تمثيله لدور البربري. ولعل منهم من سمع (عزيز عيد) وهو يقول إنه عاش مدة طويلة من الزمن خليفة للمسلمين أيام كان يمثل دور السلطان عبد الحميد
وهذه الصورة الطبيعية، أو هذه النماذج الإنسانية الأصلية الصحيحة هي مراجع الممثل الفنان، وبها تحصى ثروته الفنية. فما دام قد شاهد منها صوراً كثيرة، وما دام قد تمكن من دراسة هذه الصور، وما دام قد درب نفسه على التبطل التام ليحل محلها صوراً من نفوسها بالتقمص والانصهار والتحول، فهو إذن ممثل غني قادر متمكن
وهذه الصور تستلزم وقتاً طويلاً من الحياة يبذله في معاشرة الناس وفي دراستهم، ولا يمكن لهذه الدراسة أن تتم إلا بهذه المعاشرة التي لا منطق فيها ولا إعداد لها. لذلك كان مما يشبه العبث أن يتعلم الشبان التمثيل في المعاهد التي لا تستطيع أن تعرض عليهم النماذج المتعددة من الصور النفسية الإنسانية، والتي تقعد عند تمرين الطلاب على الإلقاء وإحسان إخراج الحروف. أما التمثيل الصحيح فمعهده الدنيا كما أنها معهد لكل فن صحيح
وقد يسألنا هنا سائل: ما الذي يستطيع الممثل أن يصنعه إذا عهد إليه بتمثيل دور تاريخي قد مات صاحبه وانطفأت شعلة روحه، فلا يستطيع الممثل أن يراقبه ول أن يدرسه عن كثب ليتمكن بعد ذلك من أن يصهر نفسه ليصوغها بعد ذلك في القالب النفسي الذي كانت عليه نفس هذا الشخص التاريخي الذي يراد تمثيله!؟
ونحن نقول رداً على هذا السؤال: إن القراءة والدرس في مثل هذه الحالة يجبان وجوباً، وأنهما يعوضان جانباً كبيراً من الخسارة الفنية التي يخسرها الممثل بحرمانه الاتصال المباشر بالصورة الإنسانية التي يريد أن يمثلها. فبالقراءة والدراسة يستطيع المثل أن يقف على أسلوب هذا (الأصل) في الحياة، وبهما يستطيع أن يتعرف أخلاقه وعاداته، وما كان يفضل من ألوان اللهو. . . وألوان اللهو مهمة جداً في نظر الفنان، فهي الأعمال التي يمارسها الإنسان برغبته الخالصة والتي يستطيع الممثل أن يعرف بها ميول هذا الذي يريد أن يمثل دوره. ومتى استطاع أن يعرف هذه الميول وما ينبتها من المزاج الخاص استطاع بعد ذلك أن يرسم بالتمثيل صورة تطابق إلى أبعد الحدود الصورة الأصلية الطبيعية التي يريد أن يمثلها
وقد يحدث أن يمثل ممثلان نابغان ذاتاً واحدة - أو أصلاً واحداً - ولكنهما يختلفان في التمثيل فلا تتطابق الصورتان اللتان يظهر أن كلا منهما هي الأخرى كما حدث ذلك قريباً إذ خرج كل من الممثلين العالميين هاري بور وجون باريمور دور (راسبوتين) فقد خرج الذين شاهدوا جون باريمور في دوره بصورة عن راسبوتين تطابق هذه الصورة الشائعة التي صورته لنا بها المقالات التي كتبت عنه في الصحف، والروايات التي ألفت عنه وروجتها دور الطبع والنشر، والروايات الأخرى التي مثلتها عنه المسارح. . وقد كانت هذه جميعاً تمقت راسبوتين وتراه شراً أخبث من الشر، وتبخل عليه حتى باخس صفة من الصفات الإنسانية تنسبها إليه؛ فهو عندها الجاهل الذي يدعى العلم ويلزم الناس إلزاماً بأن يروه عالماً؛ وهو القرد الذي ما يكاد يرى أنثى حتى يسيل لعابه وتهيج فيه أحط الغرائز فيرسلها ثائرة ويطلقها جامحة لا يكبحها ولا يلوى عنانها؛ وهو السكير الذي لا تكف أمعاؤه عن الصراخ في طلب الخمر والذي لا يستقر رأسه بين كتفيه على حال من أثر الشرب، وهو الدجال في مسوح القديس؛ وهو آخر الأمر الخائن الذي يبيع وطنه وأهله وذويه بالثمن البخس، فهو إذن الرجل أو الكوم من اللحم الذي لا إنسانية له ولا كرامة ولا عفة ولا شرف ولا قومية ولا دين!. . .
هذا بينما هاري بور في تصوير راسبوتين إلى اتجاه آخر، فقد أخذ على عاتقه ألا يسترسل في نقد راسبوتين هذه الاسترسال الذي يهدم إنسانيته هدماً، فاستبقى هاري بور لصاحبه من شره ما لم يستطيع أن ينكره لإجماع المصادر التاريخية عليه فأظهره سكيراً محباً للنساء، ولكنه عدل بعد ذلك عن تلوينه بألوان الدجل والخيانة فأظهره صريحاً صادقاً يقول للناس إنه يعالج مريضاته المختبلات من الإناث بعلاج طبيعي هو عند الرجال جميعاً ولكن الناس لا يرضون أن يصدقوا هذا ويأبون إلا أن يسبلوا عليه مسوح القديس صاحب المعجزات فلا يملك إلا أن يسخر منهم وأن يتأنق في المسوح، كما أظهره أيضاً مخلصاً لقيصره ووطنه إذ يلح بالنصيحة على القيصر ألا يزج بالروسيا في الحرب لعلمه بعجزها عن المضي فيها
وهكذا اختلفت صورتا (راسبوتين) اللتان عرضهما جون باريمور وهاري بور، وهذا الاختلاف يرجع إلى اختلاف دراسة كل منهما لراسبوتين، والى مطاوعة كل منهما لمؤلفه. . .
وأخيراً، فقد يعهد إلى الممثل بتمثيل دور عادي طبيعي لا شذوذ فيه ولا أصل له متميزاً في الطبيعة. عندئذ يستطيع الممثل أن يسترجع نفسه هو، ولا بد له إذن أن يكون قد راقب روحه ورأى كيف تستقبل الحوادث والمفاجآت والمؤثرات وعليه في مثل هذه الأدوار أن يمثل نفسه في رداء الدور
عزيز أحمد فهمي