الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 304/رسالة العلم

مجلة الرسالة/العدد 304/رسالة العلم

بتاريخ: 01 - 05 - 1939


كيف كشفت الأشعة النافذة

للدكتور محمد محمود غالي

لمحة تاريخية - أعمال جوكل وهيس وكولهورستر - المناطيد

المسجلة - صعود الأستاذ بيكار في طبقة (الستراتوسفير)

إذا أردنا أن نسميها الأشعة الكونية، أو أردنا أن نسميها الأشعة النافذة، فإن الأسماء لا تغير الوقائع في شيء، فهي كونية لأننا لا نعرف مصدرها، وهي نافذة لأنها تخترق ما يقابلها. ونعيد القول أنه بينما تحجب ورقة رفيعة أشعة الشمس على قوتها، فإن كتلة من مادة الرصاص يبلغ سمكها متراً لا تحجب إلا نصف عدد الجسيمات المكونة للأشعة الكونية

لم يختلف الفضاء منذ آلاف السنين عن الفضاء الذي نعيش فيه، ولم تختلف الظواهر الطبيعية والقوانين المرتبطة بها منذ عشرات آلاف الأعوام؛ ومع ذلك فقد مضت المدنيتان المصرية والإغريقية كما مر عهد العرب دون أن يستمتع أحد منهم بالراديو كما نستمتع به اليوم، ذلك لأنه كان لزاماً أن يتقدم العالم للحد الذي أمكن لمكسويل الإنجليزي أن يضع الأسس الرياضية لنظرياته الكهرومغناطيسية للموجة، ولهرتز ليدلنا على أن سرعة الكهرباء هي سرعة الضوء، ولماركوني الإيطالي وبرانلي الفرنسي ليضعا مع غيرهما الأسس التجريبية التي تيسر لنا اليوم أن نحصل من التاجر على جهاز نسمع منه، ونحن في وسط الصحراء أو فوق جبل عتاقة، بعيداً عن كل أثر للمدن أو الحياة، موسيقيا من القاهرة أو خطيباً من باريس

كذلك الأشعة الكونية، لم يختلف الفضاء الحامل لقذائفها منذ عهد بعيد، بل لم تختلف درجة وصولها إلينا منذ أمد طويل. وفي ظني أهرام الجيزة تصاب في هذا العصر بالعدد الكبير الذي كانت تصاب به في أقدم العهود، هذا العدد أقدره بأكثر من مليون مليون قذيفة في اليوم الواحد تقع كلها على أحجار الأهرام وتتغلغل فيها لمسافات بعيدة تبلغ العشرات من الأمتار

وإذا كان الألمانيان توصلا منذ بضعة أسابيع فقط إلى إيجاد عنصر التوريوم بينما كان يقذفان عنصر الإيرانيوم بإشعاع تقل درجة اخترقه عن الأشعة الكونية، فماذا جرى في الأهرام منذ بنائها؟ وماذا تكوَّن فيها من ذرات جديدة لم تكن في عداد ذرات أحجارها الأولى؟

كانت الأشعة الكونية موجودة بلا شك منذ القدم، وهي ما تزال تحدث أثرها في كل زمان ومكان، تحدث هذه الآثار في الأهرام كما تحدثها على قمم الجبال أو على سطح البحيرات بعيداً في أعالي النيل، ومع ذلك لم تكن معروفة للإنسان إلا منذ عهد قريب، وقد تمضي سنون عديدة قبل أن نعرف شيئاً وافياً عن أثرها في المادة التي تقابلها، أو عن أثرها في حياتنا. ولا شك أنه عندما نخطو هذه الخطوات تتغير معارفنا، بل تتغير إلى حد أساليب استعمالنا الأشياء، ويرى اللاحقون بنا جيلاً يختلف عن الجيل الذي نعيش فيه

تبدأ معارفنا الأولى عن الأشعة الكونية في سنة 1900، فمنذ ذلك الحين كانت الظاهرة المسماة (التَّأيُّن المتبقي) معروفة لدى الطبيعيين، وتبدأ الأعمال الخاصة بهذه الظاهرة بالعالمين الستر وجيتل اللذين بينا بطريقة دقيقة كما بين العالم الكبير س. ت. ر. ولسون منزلاً في البحث عنهما، أن الهواء الجاف المحصور في وعاء مقفل ليس عازلاً كهربائياً تاماً، بل إنه موصل كهربائي، مهما كان ضعيفاً، فإنه لا شك في حالته الكهربائية، ومعنى هذا أن لكل حجم معين من غاز مصون من جميع الأشعة كالأشعة السينية (أشعة قدرة على التَّأيُّن أي على التوصيل الكهربائي، وبعبارة أخرى تظهر في الغاز شحنات كهربائية تمثل أو تدل على ظاهرة غير مفهومة. هذه المعلومات الأولى جعلت العالم س. ت. ر. ولسون يظن أن إيجاد اليونات ? في الهواء الخالي من جميع المواد المعلقة (كالأتربة الرفيعة) قد يُعزى لإشعاع خارج عن الغلاف الهوائي المحيط بكرتنا الأرضية، إشعاع شبيه بأشعة رتنجن أو الأشعة الكاثورية ولكن له قوة اختراق عجيبة

وقد شاءت الظروف أن ننتظر سنين طويلة، ليكون هذا الإلهام أو الوحي الذي أوحى به هذا العالم حقيقة لا تقبل الجدل، بل شاءت الظروف أن يمضي عشرة أعوام قبل أن تتحقق التجارب الأولى التي تفسر بمقتضاها هذه الظاهرة التي تحدث من تلقاء نفسها وبدون عوامل تتعلق بالأرض أو ما يحيط بها

وتنحصر التجارب الأولى في قياس الوقت الذي يمر لتفريغ (الكتروسكوب) ذي ورقتين من أوراق الذهب، في حالة نضمن

فيها بكل الوسائل عدم إمكان مرور الكهرباء خلال كل

الأجسام العزلة المتصلة به. ومع معرفة أن وقت التفريغ

يتناسب مع حجم وضغط الغاز، وجد الباحثون أن عدد

الأيونات الحادثة في 3الس م في الثانية في درجة الحرارة

والضغط العادي يساوي من 10 إلى 20 أيونا عند سطح

البحر لألكتروسكوب معرض للجو في حالته الطبيعية.

وقد أصبح معروفاً أننا لو حجبنا الألكتروسكوب من جميع

الجهات بعنصر ثقيل مثل الرصاص، فإن الرقم السالف

ينخفض إلى أيون لكل 3س م في الثانية، ويعللون هذا

الانخفاض بامتصاص الرصاص لأشعة (جما) الراديومية

الصادرة من المواد الأرضية وغيرها من المواد المحيطة

بالألكتروسكوب كالمباني القريبة منه مثلاً

ولكي نثق أن لعملية التأيُّن مصدراً غير المواد الراديومية الموجودة في الأرض، حمل العلماء الألكتروسكوب على سطح بحيرات عميقة جداً، كذلك في مناطيد أرسلوها لارتفاعات كبيرة، وكانت النتيجة أنهم أثبتوا أن عملية التأين موجودة دائماً، وأنها تزداد كلما ارتفعنا في طبقات الجو

ولقد كان لجوكل وهيس وكولهورستر بين سنة1911 وسنة 1913، الفضل في القيام بتجارب في الهواء بإرسال مناطيد إلى ارتفاعات مختلفة تحمل معها غرفة للتأيُّن مصونة من أي إشعاع، وقد بحث هؤلاء في التغير الحادث في عملية التأين في الحيز الواقع بين سطح البحر، وبين منسوب 9000 متر. وقد دلت التجارب كما قدمنا أن التأين يتزايد في الطبقات المرتفعة من الجو. وهذا ما جعل الأفكار تتجه إلى أن سبب التأين أشعة متجهة من أعلى إلى أسفل في طبقات جو الكرة الأرضية، وليس أشعة تتجه من الأرض إلى الطبقات العليا

كذلك قام فريق من العلماء بتجارب عديدة تحت سطح الماء بأن حملوا الأوعية التي تحدث فيها عملية التأين ويسمونها: غرفة التأين ? في أعماق البحيرات، ووجدوا أن عملية التأين تقل كثيراً تحت سطح الماء. ولقد كان لكولهورستير وميليكان وكامرون فضل كبير في هذه المباحث بتجاربهم التي قاموا بها في البحيرات الجبلية المختلفة الارتفاع، وأهم ما توصلوا إليه من نتائج، هو أن درجة التأين. أو قوة الأشعة الكونية تختلف مع كمية المادة الموجودة فوق غرفة التأين سواء كانت المادة ماء أو هواء

هذه الدراسات بلغت درجة كبرى من الدقة في أعمال ريجنيه الذي أدلى غرفة مسجلة للتأين في مياه بحيرة كونستانس إلى عمق 230 متراً. كذلك أرسل بغرفة أخرى في منطاد بلغ في صعوده 25 كيلومتراً حيث يبلغ الضغط الجوي عند هذا الارتفاع 22 مليمترا وحيث يتبقى من كتلة الهواء3 % من كتلته الأصلية وترى نتائج (ريجنيه في الشكل1) حيث ترى كيف يتغير عدد الأيونات المزدوجة في كل س م3 من الهواء في الثانية مع العمق، وكيف يرتفع هذا العدد في طبقات الجو العليا؛ وكيف ينخفض جداً تحت سطح البحيرات. وقد دلت التجارب الأخرى أن الأشعة الكونية تصل مخترقة الماء لمسافات تزيد على500 متر

هذه المناطيد التي استعملها ريجنيه وغيره من النوع الذي يطلقونها بعد أن يضعوا فيها أجهزة طبيعية تسجل الأرصاد المختلفة التي تتبين للعلماء بعد العثور على هذه المناطيد التي ترد في العادة من الأماكن البعيدة التي تقع فيها، وتسمى هذه المناطيد بالمناطيد الجاسة

وقد بلغت هذه المناطيد شأواً كبيراً من التقدم منذ استطاع أيدراك وبيروه في سنة 1927 أن يحصلا بطريقة لاسلكية على كل المعلومات التي تسجل داخل البالون، وترسل باللاسلكي إليهما دون أن يكون داخل البالون الصغير شخص للقيام بهذه المهمة. وقد قدمت في أعداد مضت من الرسالة أنني استطعت مع العالم بيروه المتقدم الذكر أن أضع طريقة لتسجيل منسوب النيل أو كمية ما تحمله المياه من طمى دون أسلاك ومعرفة ذلك مهما بعدت المسافة

كل هذا لم يصرف بعض العلماء عن أن يقوموا بتنفيذ فكرة جريئة خطرت لهم وهي الصعود إلى الطبقات العليا من الجو التي يطلقون عليها (ستراتوسفير)

ولقد كان الأستاذ من فكر في القيام بنفسه بهذا العمل الجريء، الذي كان يجوز أن يودي بحياته وحياة تلميذه كوزين عندما صعد لأول مرة من 18 أغسطس سنة 1933 ومعهم كيبير إلى طبقة الأستراتوسفير للقيام بدراسات طبيعية عديدة كانت الأشعة الكونية أهم الأغراض فيها، وقد تبين لبيكار وزميليه كيف تتغير الأشعة الكونية مع الارتفاع، والشكل (2) يعطي النتائج العملية الهامة التي توصل إليها بيكار فهو يبين كيف يتغير عدد الأيونات في ال س م3 في الثانية مع الضغط الجوي أي مع الارتفاع

كل هذا يدا على أننا مغمورون بأشعة تصلنا من أعلى إلى أسفل ولها قوة اختراق عجيبة تزيد على الخمسة أمتار من الرصاص أو ال500 مترا من الماء، وهي إما أن يكون مصدرها الطبقات العليا من الجو، أو أن يكون مصدرها خارجاً عن الغلاف الهوائي المحيط بالأرض.

على أننا سنرى أن تغير شدة هذه الأشعة مع خطوط العرض يحتم الرأي الثاني. وسنبين في مقال قادم أن الشمس بدورها لا يمكن أن تكون مصدراً لها كما سنبين أثرها على المادة التي تخترقها ونتكلم عن الوسائل الدقيقة لقياسها، وتسجيل مسارات جسيماتها وسماعها عند مرورها، وهي وسائل تختلف عن غرفة التأين السابقة وتعد اليوم أقصى ما بلغه العلم التجريبي من القوة والتقدم.

محمد محمود غالي

دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون

ليسانس العلوم التعليمية. ليسانس العلوم الحرة. دبلوم المهندسخانة