الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 303/رسالة النقد

مجلة الرسالة/العدد 303/رسالة النقد

بتاريخ: 24 - 04 - 1939

4 - في سبيل العربية

كتاب البخلاء

للأستاذ محمود مصطفى

في صفحة 86 وردت في كلام الجاحظ حكمة أكثم بن صيفي وهي: المرء يعجز لا محالة. فعلق عليها الشارحان بقولهما: (أي لا تضيق الحيل ومخارج الأمور إلا على العاجز، والمحالة: الحيلة. ويروى المحالة كما في اللسان. أ. هـ)

ولهذه الحكمة كلام طويل عريض تناولناه في مثل هذه الأيام من العام الماضي في صحيفة البلاغ الغراء، وكنا نود أن يرجع الشارحان يوم ذاك إلى كلامنا في تحرير هذه الحكمة حتى لا يقعا فيما وقع فيه غيرهما من الإيمان بكل ما يقول السابقون من غير إجراء حكم العقل عليه.

نرى أن هذا الشرح الذي شرحه الميداني ونقله الشارحان خطأ ظاهر. لأننا إذا نظرنا إلى العبارة من وجهتها التركيبية رأينا أن هذا الشرح يستلزم أن تكون العبارة هكذا: (المرء يعجز لا محالة). ويكون المعنى كما شرح الميداني إن المرء هو الذي يعجز لا الحيلة.

وإذا نظرنا إلى المقام الذي وردت فيه العبارة رأينا أن أكثم كان ينصح لقومه فيقول لهم:

(أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، والمرء يعجز لا محالة. يا قوم تثبتوا فإن أحزم الفريقين الركين. ورب عجلة تهب ريثاً). فالرجل يثبط قومه عن القتال وينهنه من نزعاتهم الجامحة إليه. فهو يقول لهم: إن العجز من شأن الإنسان، وإنه لا حيلة له في توقيه.

فنرى أن الأسلوب من ناحية والمقام الذي وردت فيه الحكمة من ناحية أخرى يوجبان أن يكون المعنى غير ما ورد في الميداني، وردده الشارحان الفاضلان من غير مناقشة للرجل في رأيه مع أنه إنسان يخطئ ويصيب، فكيف بهما إذا علما أنه كان ناقلاً للمعنى عن آخر سبقه بالخطأ.

ذلك أن الميداني من أهل القرن السادس الهجري، وقد سبقه أبو هلال العسكري المتوفى سنة 395 هـ في كتابه جمهرة أمثال العرب، فروى المثل هكذا: (المرء يعجز لا المحالة)، وقال في شرحه: إن المرء يعجز عن طلب الحاجة فيتركها، ولو استمر على طلبها والاحتيال لها لأدركها. فإن الحيلة واسعة فهي ممكنة غير معجزة. ثم يروي أبياتاً جعلها في مقام الاستشهاد على معناه الذي رآه، وهي قول الشاعر:

حاولت حين هجرتني ... والمرء يعجز لا المحالهْ

والدهر يلعب بالفتى ... والدهر أروغ من ثعالهْ

والذي نقوله إن الشعر لا يسعف العسكري بمراده لأن الشاعر يقول: إني حاولت يوم هجرتني أيتها المحبوبة أن أقنعك بالرضا وأن أردك إلى عادة الوفاء لي فلم أفلح، والمرء لا بد عاجز، فهو ضعيف يلعب به الدهر ما شاء، ويغير عليه من إرادته ما شاء. فإذا ما حاول أن يظفر بالدهر ويتغلب عليه راغ منه، وفر كما يروغ الثعلب ويفر من قانصه. فهل يرى القارئ الكريم في الشعر رائحة للتنديد بضعف الإنسان وقعوده عن المحاولة؟ أليس الشعر ناطقاً بأن المحاولة لم تجد صاحبها شيئاً، وأن العجز من شيمة المرء؟ فبان إذاً أن هذا الشعر الذي يستظهر به العسكري على معناه لا يسعفه بمراده. بل إنه يرد عليه زعمه، ويبالغ في تخطئته.

وقد نرى للعسكري مندوحة فيما قال. ذلك أنه لم ينسب الكلمة إلى أكثم، فلعل غيره قالها على هذا الوجه، كما أن شرحه مساوق للفظ الذي أورده (بتعريف المحالة) وكل خطئه إنما كان في دعواه أن الشعر يتمشى مع شرحه الذي رآه. فإذا بالشعر ينطق بغير ما يريد.

وليس في الشعر ما يساعده على رواية المحالة (بالتعريف) لأننا نستطيع حذف أداة التعريف من الكلمة ولا ينكسر الوزن.

والخطأ ظاهر في صنيع الميداني لأنه لفق بين نص وشرح وارد لغير هذا النص.

وهذا الخطأ أظهر في صنيع الشارحين لأنهما نقلا كلام الميداني من غير تمحيص، واستعزا بنقل صاحب اللسان، وصاحب اللسان لم يخطئ في مهمته وهي النقل إذ لم يزد على قوله: ويروى لا المحالة. فهو لم يتعرض لتمحيص الرواية، وليس ذلك من شأنه. ولكنه شأن الشارحين وهما لم يفعلا من ذلك قليلاً ولا كثيراً.

في ص 75: حكى الجاحظ أنه عاد يوماً في وقت القيلولة، والشمس حامية شديدة الوقع على الرأس. ثم قال: أيقنت بالبرسام فيعلق الشارحان بقولهما نقلاً عن القاموس وشرحه: البرسام علة يهذي فيها. وهو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، وهو يتصل بالدماغ. ثم يقولان: ولكنا نظن أن المراد هنا هو الرعن كما هو ظاهر من سياق الكلام. ففي القاموس رعنته الشمس: آلمت دماغه فاسترخى لذلك وغشي عليه

وأمر الشارحين عجيب جداً في هذا المقام، لأن الذي منعاه ليس بممتنع، إذ البرسام كما نقلا علة تتصل بالدماغ. أليس اتصاله بالدماغ كافياً لافتراض نشوئه عن تعرض الدماغ للشمس؟ ثم كيف يغيران على القائل قوله ويوجبان عليه أن يقول ما يريدان؟ أليس القائل هو الجاحظ الذي يعرف اللغة ومدلولات ألفاظها، ويعرف طب زمانه وحدود علله وأسبابها؟ فكيف استساغا أن يقولا له: كان يجب عليك أن تقول فأيقنت بالرعن في موضع فأيقنت بالبرسام؟!

هذا والله أعجب ما رأينا من شأن الشارحين. فهما لم يكتفيا بأن يفرضا علينا آراءهما ويوجباها على طلاب المدارس ومدرسيها بعد أن دمغاها بالصبغة الرسمية التي حصلا عليها لشرحهما، حتى أرادا أن تمتد سلطتهما على الجاحظ وزمنه.

لو أراد الشارحان أن يغيرا على الجاحظ رأيه في معاني الألفاظ وبينا أنه أخطأ المراد في لفظ البرسام لوجب عليهما أن يعودا إلى كتب الطب القديم ليستشيراها في معناه، فإذا وجداه بعيداً عن المقام الذي يتكلم فيه الجاحظ فعند ذلك يقولان له أخطأت المراد وكان الواجب عليك أن تستعمل كلمة الرعن، ولكنهما لم يفعلا شيئاً من ذلك، وكل ما في الأمر أنهما عرفا معنى الرعن فشاءت لهما سلطتهما اللغوية التي يمدانها على طلاب المدارس ومدرسيها، أن يغيرا على الجاحظ رأيه كأنما هما مفتشان أولان على الجاحظ أيضاً

في ص84 ورد ما يأتي:

(وقال لي هذا الرجل: أكلنا عنده يوماً وأبوه حاضر وُبني له يجيْء ويذهب فاختلف مراراً، كل ذلك يرانا نأكل)

وقد ضبط الشارحان كلمة كل في عبارة (كل ذلك يرانا نأكل) بالضم وعلقا على العبارة بما يأتي: (أي كل ذلك حاصل والصبي يرانا نأكل. ويظهر لنا أن العبارة كانت هكذا: كل ذلك وهو يرانا نأكل. فسقط من النسخ (وهو)) أ. هـ ونقول إن التعسف في التقدير ظاهر جداً وما جر على الشارحين كل هذا إلا ضبطهما لكلمة (كل) بالضم. ولو أنهما أتيا الأمر من أيسر طرقه لضبطا الكلمة بالفتح فتعرف ظرف زمان لأن لفظ ذلك إشارة إلى الزمن المنقضي في المجيء والذهاب والاختلاف مراراً. والقاعدة التي يعرفها حضرتا المفتشين في كتاب (قواعد اللغة العربية) وغيره أن لفظي كل وبعض إذا أضيفا إلى الزمان أعربا أسمي زمان

في الصفحة عينها يقول الشارحان في السطر الذي قبل الأخير (المذار (بفتحتين)). وما هكذا يفعل أهل اللغة لأن هذا الضبط لا يمنع أن تكون الذال مشددة مع الفتح، فيكون ذلك خطأ في ضبط الكلمة. وإنما الذي يقال هو ما ذكره صاحب القاموس وهو قوله: المذار كسحاب

في ص87 في نصيحة خالد بن يزيد لابنه: (وقد دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكل حيلة ثم إن لم يكن لك معين من نفسك ما انتفعت بشيء من ذلك بل يعود ذلك النهي كله إغراء لك، وذلك المنع تهجيناً لطاعتك)

فيعلق الشارحان على العبارة (وذلك المنع تهجيناً لطاعتك) بقولهما: يعني أنك لو أطعت في حال انصراف نفسك كان ذلك قبيحاً بطاعتك، لأنها تكون إذاً مغتصبة وغير صريحة.

لا، لا أيها الشارحان. إنما المراد: إنك تقف من نهيئ لك موقف الذي لا ينتهي عما نهاه عنه أبوه، وتكون تلك سبة لك بأنك لن تطع والدك، وهذا يشين خلق الطاعة فيك، لأن أولى الطاعة طاعة الآباء

وإن كان من العجب أن يكون هذا رأي الشارحين في عبارة الكتاب، فأعجب منه أن يكونا قد شرحا ما قبلها شرحاً لائقاً بالمقام فجمعا بذلك بين متناقضين في سياق واحد

فقد قالا في شرح العبارة التي قبلها: (يعني أن نفسك إذا لم تقبل على ما وجهتك إليه صار النهي لها بمنزلة الإغراء والحض على ارتكاب النهي عنه)

وهذا منهما حسن يوافق ما أراده القائل للعبارة، فالعجب العاجب أن يعطفا على الجملة وهذا معناها في نفسهما جملة أخرى مناقضة لها على حسب ما شرحا، إذ الأولى أثبتت أنه عصى أباه في نصحه، والثانية أرادا منها أنه أطاعه ولكن بالكره لا بالرضا. فجمعا في كلامهما بين العمل والترك أو بين الضد والضد. فهل شرح كل واحد منهما جملة ثم ضما عملهما وصفا حروفهما من غير أن يستشير أحدهما الآخر فيما رأى؟ هذا هو الأشبه بعملهما. وفي الصفحة عينها يقول الولد لولده: (وقد بلغت في البر منقطع التراب، وفي البحر أقصى مبلغ السفن، فلا عليك ألا ترى ذا القرنين)

ويعلق الشارحان على هذه العبارة بقولهما: ويشير بقوله: ألا ترى ذا القرنين، إلى قصة ذي القرنين المذكورة في القرآن الكريم، يعني أنا كاف عنه

ولم أر إدماجاً في شرح مثل الذي أراه في عمل الشارحين. إنهما لم يكلفا أنفسهما الاطلاع على قصة ذي القرنين واستخلاص المراد من الإشارة التي يقولان عنها. ولذلك أورد كلامهما بهذا العموم

والذي أفهمه من كلام الأب لأبنه أنه يقول له: إني مجرب عرفت ما في الدنيا وجبت عامرها براً وبحراً فاستفدت تجارب كثيرة وزودتك بخلاصتها. فإذا عملت بها كنت كأنك شاهدت ما شاهدتُ، وجربت ما جربت، وإني في تطوافي بالأرض وجوبي لأقطارها بمنزلة ذي القرنين الذي بلغ مطلع الشمس، فإذا فاتك أن تكون رأيت ذا القرنين فقد رأيت نظيره وهو أبوك

في ص 88 يأتي:

(دع عنك مذاهب ابن شرية فإنه لا يعرف إلا ظاهر الخبر)

وقد علق الشارحان على (ابن شرية) بقولهما: لم نقف لهذا الرجل على خبر في كتبنا، ولم نفهم ما يقصد من مذاهبه؛ وفي نسخة شرية أهـ

وبهذه المناسبة نقول إن الشارحين قد أعلنا عجزهما عن معرفة كثير من الأعلام التي وردت في الكتاب، ونحن نعذرهما في كثير من ذلك لأن الجاحظ يتكلم عن خلطائه، وليس كل هؤلاء قد رزقوا الشهرة حتى تدون أسماؤهم في كتب الطبقات. فهما في بعض ذلك بمنجاة من اللوم؛ ولكن ليس ينبغي أن يسري هذا العجز إلى هذا العلم المشهور وهو (عبيد بن شرية) فهو رجل معاصر لمعاوية بن أبي سفيان وكان عالماً بالأخبار، وكان معاوية يستمع منه قصص الماضين وتدابير الملوك لينتفع بها في ملكه. وقد ورد اسمه في كتب كثيرة نذكر منها الآن من غير استقصاء: معجم الأدباء لياقوت، وفهرست ابن النديم، ومقدمة ابن خلدون وفي الحديث كتاب فجر الإسلام للأستاذ أحمد أمين فقول الشارحين أنهما لم يقفا له على خبر لا يعفيهما من اللوم. ثم إن عدم وجوده في كتبهما لا يكفي لنفي وجوده في كتب غيرهما؛ فلو أنهما اعتصما بالصبر في البحث لوجدا على حبل الذراع تراجم كثيرة لهذا الأنباري النابه الشأن.

(للكلام بقايا)

محمود مصطفى