مجلة الرسالة/العدد 303/بمناسبة ذكرى جمال الدين الأفغاني
→ أعلام الأدب | مجلة الرسالة - العدد 303 بمناسبة ذكرى جمال الدين الأفغاني [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 24 - 04 - 1939 |
إنما ينهض بالشرق مستبد عادل
للدكتور محمد قرقر البهي
لكي نتعرف هذا المبدأ أو هذه الحكمة التي قد يخيل إلينا أنها طابع لنزعة لا تتلاءم وأساليب الحكم في المدنية الحديثة، ومع ما يسعى إليه الفرد من حرية، يجب أن نبحث الدوافع التي حملت حكيم الشرق وباعث نهضته السياسية في القرن التاسع عشر على أن ينادي بهذا المبدأ بعد اعتقاد جازم به، ثم نبحث كذلك مدى علاقة الحكم الفردي بالمشورة التي هي أساس الحكم الديمقراطي ومدى علاقته كذلك بالحرية التي يسعى إليها الإنسان
جمال الدين لم يعتقد هذا المبدأ بناءً على شغفه بالبحث النظري، ولم تمله عليه رغبة علمية مجردة عن مراعاة الواقع، وإنما هي التجارب وأحوال الشرق في ذلك الوقت التي قادت تفكيره وأوحت إليه بهذا المبدأ العملي.
جمال الدين رأى تفرق الأمم الشرقية ليس بعضها عن بعض فحسب، وإنما الأمة الواحدة موزعة إلى شيع وأحزاب، رأى المصالح الشخصية هي التي تملي على القائمين بالأمر في ذلك الوقت قواعد السياسة في الحكم وتصريف أمور الشعب. رأى أن الأمة لم تعرف بعد ما يسمى (بالصالح العام) أو كما يقول عنه الفلاسفة (مبدأ حيوية الدولة واعتبارها الكائن الحي الأعلى الذي يندمج فيه كل الأفراد). رأى تدخل الأجانب في سياسة الشرق الإسلامي كله وإذلالهم شعوبه على يد أفراد من بنيها لقاء تلبية بعض رغبات شخصية أو ضمان سعادة مؤقتة لهؤلاء. رأى تفكك أواصر القرابة وتحكم الظلم في الطبقات الفقيرة.
كل هذه العوامل أو هذه المشاهدات لم تترك في نفس جمال الدين أثراً من الشك في وجوب معالجة أحوال الأمم الشرقية والنهوض بها. ولكن على أي أساس؟ بالتربية؟ نادى بذلك منذ فارق بلاده في رحلاته إلى الهند، وتركيا، ومصر، وبالأخص هنا في القاهرة منذ أن عاد من مقر الخلافة العثمانية في 22 مارس سنة1871 فقد مكث يحاضر في الأزهر مرة، وفي تلاميذه الأخصاء مرة أخرى، ويحملهم على الكتابة في الصحف ونشر الدعوة، مدة ثماني سنوات (1871 - 1879) ولكن بعد ما تبين له أن عوامل الانفكاك داخل الشعوب الشرقية تتزايد، والمصلحة الخاصة للأفراد يتفاقم أمرها في الأداة الحكومية صمم ع الدعوة إلى حكومة يديرها فرد عادل يمت إلى الأمة بنسب قوي، بنسب الدم والدين حتى يجمع شتاتها، ويوحد كلمتها، ويوجه أحزابها المختلفة إلى غاية واحدة (الصالح العام) وجهر بها في باريس على منبر (العروة الوثقى) في سنة 1884 وأيد حكومة هذا الفرد العادل في كل تدبير تتخذه للوصول لهذا الغرض حتى استعمال العنف والشدة ولكن بعد التبليغ والإرشاد
جمال الدين لم يشجع استمرار حكم الفرد العادل، وإنما جعل ذلك لأجل معين، وهو الوقت الذي تنضج فيه الأمة وتعتقد بمبدأ (الصالح العام).
وربما يبدو في عصرنا الحاضر - أن رأينا أن هذه الدوافع التي حملت جمال الدين على النداء بهذا المبدأ ما زالت باقية - أن هذا الذي ذهب إليه فيلسوف الشرق من سيطرة حكومة الفرد العادل ردحاً من الزمن لا يتفق ومبادئ الديمقراطية التي سعت إليها الشعوب منذ القدم ووصلت إليها بدم الثورة الفرنسية وأصبحت أساس الحكومة الراقية، أساس الحكومة العادلة
ولكن ما هي تلك المبادئ؟ حكومة برلمانية وضمان حرية الفرد. هاتان الظاهرتان هما عنوان الديمقراطية ولا يتحقق وجودهما في ظل حكومة الفرد العادل. هكذا يزعم من يدعي أن جمال الدين الأفغاني لم يقدر حقوق الإنسان الطبيعية تقديراً دقيقاً يوم نادى بهذا المبدأ
ولكن أحقّاً أن الحكومة البرلمانية تمثل الديمقراطية؟ وأن حرية الفرد مكفولة فقط في ظل النظام البرلماني؟. لنتبين ذلك! إن أساس النظام البرلماني هو المبدأ الحزبي، وعلى الدعاية الحزبية وما تتضمنه من الوعود للطبقة الشعبية يكون نجاح الحزب ودرجة تمثيله داخل البرلمان. ثم صاحب الأغلبية لأنه مظنة العدالة طبقاً لكثرة الأصوات التي أخذها وهو الذي يتولى رياسة القوة التنفيذية. هل لنا أن نتأكد الآن أن صاحب الأغلبية يبني تصريف أمور الدولة على أساس مشورة كل أتباع كل حزبه واحترام رأي كل منهم في تقرير مصير الأمور؟ وهل نضمن أن كل نائب من نواب حزب الأغلبية يصدر في مشورته هذه عن رعاية المصلحة العامة دون تدخل العاطفة الحزبية أو ما يؤمله من قضاء مصالحه الخاصة على أساس طاعته لقيادة الحزب طاعة عمياء؟ وإذا افترضنا ذلك فهل نتأكد أيضاً أن الدعاية الحزبية التي أتت بالأغلبية قد أتت كذلك بصالح عادل، وهو زعيمها، يسير في حكومته طبق ناموس العدل ولو النسبي ولا يراعي العصبية الحزبية أو ما يسمى (بالمحسوبية؟) وعلى جواب هذا السؤال تتوقف المقارنة بين حكومة الفرد العادل وبين الحكومة البرلمانية في نسبتهما قرباً وبعداً من (الديمقراطية) التي تقوم على رعاية المصالح العامة ممن يحسون بإحساس الشعب ويعترفون بما للطبقة الشعبية من حقوق طبيعية في هذا الوجود على الأقل كغيرهم من الطبقات الأخرى
كذلك يجب علينا أن نعرف: هل حرية الفرد مكفولة في ظل النظام البرلماني فحسب دون حكومة الفرد العادل حتى يكون الحكم على ما رآه جمال الدين واعتقده من مبدأ بأنه يتفق أو لا يتفق مع ما تصبو إليه الشعوب من حكومة راقية عادلة. لهذا يجب أن نحدد أولاً: ما هي الحرية؟ أهي الفوضى واستباحة الحرمات والخروج عن قوانين الجماعة والعرف والنيل من كرامة الآخرين وشرف الذين لا حول لهم ولا قوة؟ أم هي التمتع بالحقوق الفطرية في ظل العرف والقانون، في ظل مراعاة الحرمات وتقدير كرامات الآخرين؟ لا أظن أن أي عاقل يشجع على أن يكون المعنى الأول مفهوماً (للحرية) كما لا أظن أن هذا الذي ذكر ثانياً على أنه مدلول (الحرية) يفنى في ظل حكومة الفرد العادل
إن صلاحية أي أسلوب من أساليب الحكم نسبية، تتوقف على أحوال الأمة وعلى درجة تطورها الاجتماعي والخلقي فكما أن الحكم البرلماني ليس المثل الأعلى على الإطلاق كذلك الحكم الفردي ليس عنوان الظلم دائماً وإهدار الحريات
وقد كان جمال الدين الأفغاني (حكيماً) إذ ربط أسلوب الحكم بأحوال الأمة الخاصة بها وعلق تطوره أو تغييره بتغيير تلك الأحوال
فالتعصب للحكم البرلماني بدون قيد ولا شرط، ورمي حكم الفرد بالجور بدون قيد ولا شرط، غلو في الخيال وإيمان غير محدود بالنظر المجرد عن حقيقة الواقع مادامت العدالة ليست رهينة أحد النظامين على الإطلاق
محمد قرقر البهي
دكتور في الفلسفة وعلم النفس من جامعات ألمانيا