الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 303/أعلام الأدب

مجلة الرسالة/العدد 303/أعلام الأدب

بتاريخ: 24 - 04 - 1939


يوريبيدز نشأته وشبابه

للأستاذ دريني خشبة

في غار جميل غير موحش، مشرف على بحر الأرخبيل، فوق تلعة من تلاع جزيرة سلاميس، كان يأوي ألمع رجالات الأدب، وأعظم أعلام المسرح، يوريبيدز بن مِنْسَارْخيدز. . . يقرأ، ويكتب. . . ويتأمل.

وُلد في فِلْيا، في واد يعبق بالورد، وتظله أفنان الدوح وتغني فيه البلابل. . . ثم اختلفوا في العام الذي ولد فيه فقالوا: إنه عام480 ق. م. . . أي عام سلاميس، وأنه توفي سنة 604 أي في العام نفسه الذي توفي فيه سوفوكليس.

ويعتبر تقويم المؤرخ اليوناني (فيلوخورس) المسمى (التقويم الأتيكي)، والذي وضعه في القرن الثالث قبل ميلاد المسيح، عمدة المؤرخين الذين ترجموا ليوريبيدز، ومن أشهرهم المؤرخ اللاتيني سويداس

وتقويم فيلوخورس في اليونانية، يشبه تقويم القلقشندي المسمى (صبح الأعشى) في العربية، وذلك من حيث عنايته بإيراد المعاهدات السياسية والكتب التي كان يتبادلها الملوك اليونانيون. . . ثم هو يشبه تقويم الثويري المسمى (نهاية الأرب) وتقويم ابن فضل الله العمري المسمى (مسالك الأبصار)، وذاك من حيث عنايته بوصف أحوال اليونانيين من مواسم، وأعياد، وعادات ومعتقدات، ومن حيث عنايته بتأريخ رجالاتهم من ساسة وقادة وفلاسفة وأدباء.

وقد ذكر فيلوخورس أن يوريبيدز قد ولد عام سلاميس، أي سنة 408. . . على أن الرخامة التذكارية التي اكتشفت في جزيرة باروس في القرن السابع عشر الميلادي، والتي أقيمت ثمة تخليداً لذكرى يوريبيدز سنة 264ق. م تذكر أنه إنما ولد سنة 484. . . وقد فضل الأستاذ جلبرت موراي - وعليه جل اعتمادنا في هذا البحث - الأخذ بهذا التاريخ، لأنه اعتبر الرخامة دليلاً مادياً لا سبيل لدحضه ولا مُسوّغ لإنكاره.

ولم يذكر المؤرخ اليوناني (ساتيروس) (أواخر القرن الثالث ق. م) شيئاً في كتابه (حياة يوريبيدز) عن هذا التاريخ.

أما الكتاب فهو محادثات جميلة بينه وبين سيدة لم يذكر لنا من هي، وهو مع ذاك مؤلف جليل فيه عرض وفيه تضمينات، وأقاصيص ونقد، وفيه أخبار ساعدت المتأخرين على معرفة الكثير مما تبعثر أوضاع من درامات يوريبيدز.

أما أبوه فقد كان رجلاً ذا مال من رجال الطبقة الوسطى من أهل فليا، وكان رئيساً لسَدَنة هيكل أبوللو

وكانت أمه (كليتو) من أسرة نبيلة عريقة ذات محتد، ولا عبرة لما ذكره عنها أرستوفان من أنها كانت تبيع الفجل والخس والخضرة في شوارع أثينا، فقد كان أرستوفان هجاء مقذعاً، وسنعرض لما كان بينه وبين يوريبيدز من عداء وبغضاء. . . ثم هي كانت أماً وفية مخلصة لأبنها، حدبة عليه، وكان لها أكبر الأثر في تنشئته. وسترى من روائع هذه الأمومة آثاراً طيبة في كثير من دراماته

وكان يوريبيدز سيئ الحظ في حياته الزوجية. ولم يذكر التاريخ لماذا كان ذلك. . . فقد كانت زوجته الأولى (ميليتية) من عنصر كريم وذات خلق طيب، بدليل أن أرستوفان نفسه لم يجد ما يقدح به فيها، وهو العدو اللدود الساخر الذي كان يتسقط ليوريبيدز كل منقصة

وقد تزوج يوريبيدز مرة ثانية فلم يكن أكثر توفيقاً. . . وربما كان هو نفسه أصل الداء. . . فقد كان أديباً عظيماً وشاعراً عبقرياً؛ وكان فيه انقباض عن الناس وبغض شديد للضوضاء والصخب، وكان يقضي أكثر وقته في غاره المقدس المشرف على البحر يقرأ أو يكتب أو يفكر ويتأمل. . . وهذه حال من الزوج لا تطيقها الزوجة ولا تصبر عليها. . . والأدب الذي أكثره فكر وفلسفة يدل على ما في صاحبه من صرامة وشموس. . . لهذا كان الشغب الطويل بينه وبين كل من زوجتيه، وهو شغب جميل أفاد الأدب وأفاد المسرح، لأنه بدا في أكثر ما ألف يوريبيدز. . . ثم هو شغب خلق من يوريبيدز عدوّاً للمرأة شديد النقمة عليها، كما خلق من الأثينيات أعداء أشد عليه نقمة وأكثر لددا

أما أبناؤه الثلاثة فقد كان أحدهم تاجراً، وكان الثاني ممثلاً؛ أما ثالثهم وكان يسمى باسم أبيه، فقد كان شاعراً يحترف التأليف للمسرح، وقد أخرج ثلاث درامات من تأليف أبيه بعد موته نالت إحداهما جائزة

ولعل أكثر ما نعرف من نشأة يوريبيدز أنه كان يساعد أباه في سدانة الهيكل صغيراً، وأنه كان رياضّياً ماهراً شابّاً وأنه عمل في الجيش فترة لا هي القصيرة ولا هي بالطويلة. . . وقد تكون حقبة قصيرة بعد سنتي الإجبار يقال أنه عمل أثناءها مجدفاً في إحدى جندولات الأسطول، ثم التحق بإحدى الوظائف القنصلية فترة قصيرة بعد ذلك

أما أصدقاؤه فكان أحبهم إليه أبو زوجته، ولذا كان ألصق به من كل شخص آخر إلا من خادمه أو ناموسه سفيسون الذي لم يكن يبرح منزله إلا لماماً

ومع شدة غرام سقراط العظيم بيوريبيدز فلم يؤثر أن شيئاً من وشائج الصداقة انعقد بينهما، مع أن الفيلسوف الفذ لم يكن يذهب إلى المسرح قط إلا ليشهد درامات يوريبيدز، فيروى أنه كان يتجشم في سبيل ذلك ما ليس يحتمله إلا الأشداء الأقوياء، فكان يمشي الأميال والأميال لكي يصل إلى المسرح ويستمتع بما تفيض به قريحة فخر الشعراء الدراميين كما كان يسميه. هذا ولم يعقد أفلاطون في محاوراته الشائقة حديثاً مّا بين الرجلين، على شدة إعجاب كل منهما بالآخر واعتباره إياه أعظم ذهن يعيش في عصره

وعلى شدة كراهية يوريبيدز للاختلاط بالناس فقد كان له أصدقاء قليلون معجبون به من رجال الفن والفلسفة والأدب، وإليه يعود الفضل في نبوغ الموسيقار الخالد تيموتيرس الذي أوشك مرة أن ينتحر لإخفاقه في توقيع إحدى مقطوعاته لولا أن نشر عليه يوريبيدز ظله، وأخذ يشجعه ويبعث فيه روح الأمل، حتى نبغ نبوغه العظيم.

ومن أصدقائه زعيم السفسطائيين بروتاجوراس (أبديرا480 - 410 ق. م) الذي كان يتجول في الأقاليم اليونانية يحاضر الناس ويعلمهم دروسه في السياسة والاجتماع، ويحارب أوثانهم ويسفه معتقداتهم حتى إذا انتهى إلى (فليا) وعرف يوريبيدز، وخلبه بيانه وسحرته دراماته بما تفيض به من ثورة ونقد لزمه وقرأ في بيته كتابه (في الآلهة) الذي ينكر فيه ذوات أرباب الأولمب (لأني لا أستطيع أن أثبت وجودهم أو أن أنفيه للعوائق الجمة التي تحول دون المعرفة الصحيحة، والتي من أهمها غموض الموضوع وقصر عمر الإنسان!)

وقد ثار الناس ببروتاجوراس وأحرقوا كتابه جهرة في أوسع ميادين أثينا، ورمّوه بالإلحاد، وكادوا يفتكون به لولا أن فر في سفينة إلى صقلية غرقت به في الطريق. وعزا الناس غرقها إلى غضب الآلهة وحنقها عليه. . . ويبدو أنه كان متأثراً بسوفوكليس حين جعل محور فلسفته الإنسان مقياس كل شيء.

أما الفيلسوف الكبير أناجزاجوراس فقد كان أستاذ يوريبيدز وصديقه في وقت معاً. وأناجزاجوراس هو أول من حمل الفلسفة من شطئان إيونيا في غرب آسيا الصغرى إلى أتيكا أرقى أقاليم اليونان. وهو أول من ثار على الفلسفة المادية البحتة ولفت الناس إلى القوة العليا التي تدبر كل شيء وتسهر على كل شيء. . . ثم هو الذي أربك الماديين بتفريقه بين المادة المجسدة التي زعموا أنها كل شيء، وبين العقلية المجردة التي زعم هو أنها تسيطر على كل شيء. فوضع بذلك الحدود بين الجسم والعقل وبين الطبيعة والإنسان.

وقد كان أناجزاجوراس صديقاً لبركليس العظيم ومستشاراً له وكان في أثينا حزب يناوئ بركليس، فاستغلت السياسة الذميمة مذهب الرجل الفلسفي فرمته بالإلحاد واتهمته بالتجديف على الآلهة، وكادوا أن يبطشوا به بعد أن لفقوا له التهم وساقوه إلى المحاكمة أمام هيئة قضائية من رعاعهم. . . لكن بركليس لم يتخلى عنه، بل دبر له الهرب من أثينا، فارتحل إلى موطنه في آسيا الصغرى حيث وضع رسالته في فلسفته التي انتفع بها سقراط

بهذين الرجلين، بروتاجوراس وأتاجزاجوراس، تأثر يوريبيدز. . . ولم يكن تأثره بهما هيناً يسيراً، بل كان آثرهما فيه كبيرا بالغاً: فقد عرَّفه الأول ما في أسطورة الآلهة من سَفَه وتخريف، وعرفه الثاني أن ليست المادة في هذه الدنيا كل شيء. . . زيف له الأول أسطورة الآلهة فذهب إلى غاره الجميل الهادئ المشرف على البحر من ربوة في جزيرة سلاميس يفكر ويتأمل ويبتسم. . . يبتسم لأنه يتذكر حاله في شرخ شبابه إذ يكلفه أبوه سادن أبوللو بحمل الكأس الإلهية في الرقصة المقدسة، رئيساً لفريق حاملي الكؤوس من سادة شباب الأثينيين. . . ثم يبتسم أيضاً لأنه يتذكر حاله حينما كان يحمل الشعلة المقدسة في موكب أبوللو عند رأس زوستر، فيظل يتهادى كالظبي من ديلوس إلى أثينا، مشتركاً في زهو وخيلاء في حماقة البشر وخرافة الآلهة

وزيف له الثاني تلك المادة المجردة التي يعكف عليها الناس ويفني فيها الفلاسفة أحلامهم، ثم يُصوّر له القوة العليا المدبرة، والعقل المجرد الجبار، فيلتفت إلى ما ركب في صميم الإنسان من قوى خارقة تستطيع أن تصنع كل شيء وتستطيع أن تتغلب على كل شيء، فيذكر هذه الأيام العبوس القمطرير التي اضطر فيها شيوخ الأثينيين وعجائزهم وأطفالهم - وهو منهم - إلى الهجرة من أثينا إلى جزيرة سلاميس وغير سلاميس، لأن إجزرسيس عاهل فارس وطاغية البربر قد أقبل بخيله ورجله، وملأ البر والبحر بعساكره، وراح يهلك الحرث والنسل، متقدماً نحو أثينا. . . وهاهو ذا يحرق الدور والمعابد ويخرب كل شيء. . . وهاهي ذي ألسن النيران تلتهم الأكربوليس الشاهق، ويوريبيدز الطفل يشهد المنظر المروع الموحش فيمن كان يشهده من الأطفال والشيوخ والعجائز. . . ويبكي كما كان يبكي هؤلاء لما يصنع الطاغية بوطنهم الجميل الضعيف، ومعابدهم الخالية الخاوية. . . وآلهتهم. . . نعم آلهتهم. . . تلك الأوثان التي لم تغن عنهم ولا عن أنفسها شيئاً. . . ثم يتصايح الناس من كل فج، ويتسامعون فرحين مستبشرين، فيعلمون أن أسطولهم الضعيف البائس قد مزق أساطيل إجزرسيس، وأن أجنادهم الجائعة المنهوكة قد فتكت بأجناد جبار الفرس، وأن أثينا وحدها. . . أثينا الديمقراطية الحرة العالمة الأديبة المتحدة قد بطشت بالجبابرة العتاة الطغاة فخلصت هيلاس من شرورهم. . . ويقبل تيمستوكليس قائد اليونان المجرب المنتصر فيقول للناس: (تالله ما نحن صنعنا كل هذا!) فيحفظ الناس قالته ويحفظها يوريبيدز حين يكبر، ويتذكرها حين يلقى الفيلسوف أتاجزاجوراس ويتأثر بفلسفته فيعرف لماذا غلبت أثينا فارس، وكيف عصفت المعرفة بالجهل، والنظام بالتبربر، والعقل بالمادة. . .

لقد كان محور فلسفة بروتاجوراس كلمته الخالدة (الإنسان مقياس كل شيء)، كما كان محور فلسفة أتاجزاجوراس أن المادة ليست كل شيء في الوجود، بل أن فوق المادة قوة أرفع منها وأسمى لأنها مسلطة عليها تديرها وتوجهها. . . تلك القوة هي العقل في الإنسان والقوة المدبرة في الوجود. . . إذن فليع يوريبيدز كل هذا، وليطبقه على ماضيه المفعم بالعبر، وليهزأ هو أيضاً بالآلهة بعد أن كان يحمل الخمر المقدسة والشعلة المقدسة في مهرجان أبوللو. ولا يكتفي بالسخرية بالآلهة. بل يشتط فيحطم أوثانها ويغضب عُبَّادها، وليخسر الجوائز السنية التي يسيل من اجلها لعاب الأدباء، ولينل من هذه الجوائز أربعاً فقط في حياته العامرة التي جددت الأدب، وثبتت دعائم المسرح. . . وليضحك حين ينال سوفوكليس عشرين جائزة أولى وثلاثين من الثواني لأن سوفوكليس لا يجرح كبرياء الجماهير ويترفق بآلهتهم ولأنه لا يعني إلا بفنه، في حين يعني يوريبيدز بالغاية والمثل الأعلى.

لقد كان يحب الفن ويشغف به مثل سوفوكليس. وكاد يكون فناناً مثله لولا أن ساق إليه القدر هذين الصديقين. يروى أنه كان قد شدا شيئاً من النقش في الصغر؛ ويروى أنه كان يعجب بمشاهد مآسي فرينيخوس، ولم يكن قد شب عن طوقه بعد؛ ويروى أنه كان يقف، إذ هو غلام مسبوهاً أمام روعة المناظر التي صورها بولجنوتوس فوق جدران الأكروبول؛ ويروى أنه شهد درامة الفرس لإسخيلوس ولم يعد الثانية عشرة. ويذكرون أنه أعجب بدرامة (سبعة ضد طيبة)، وتأثر بها كثيراً ولم يعد السابعة عشرة. وهو ولاشك قد شهد كل مآسي زميليه بطلي الدرام العظيمين.

هذا هو شباب يوريبيدز وهذه هي نشأته، وهؤلاء هم بعض أساتذته وأصدقائه، وتلك هي العوامل التي كونته فجعلت منه أديباً وفناناً وشاعراً وفيلسوفاً ومبشراً بالأدب الرومانتيكي، ثم الأدب الواقعي.

دريني خشبه