مجلة الرسالة/العدد 301/كتاب السياسة
→ رواية المصاهرة | مجلة الرسالة - العدد 301 كتاب السياسة [[مؤلف:|]] |
من برجنا العاجي ← |
بتاريخ: 10 - 04 - 1939 |
للوزير نظام الملك
للدكتور عبد الوهاب عزام
الفصل الأول
في أحوال الناس وتقلب الزمان، ومدح ملك العالم غياث الدين
والدنيا قدس سره
الله تعالى يجتبي في كل عصر واحداً من خلقه، ويجمّله بالفضائل الملكية، وينوط به مصالح الدنيا وراحة الناس، ويغلق به باب الفساد والفتن والاضطراب، ويمكن هيبته وحرمته في قلوب الخلق وعيونهم، ليعيش الناس في عدله، ويأمنوا في سلطانه، ويرجوا بقاء دولته
وإذا عصا الناس الشريعة واستخفوا بها وقصروا في إطاعة أوامر الله تعالى فأراد أن يعاقبهم ويذيقهم جزاء أعمالهم، ويحل بهم شؤم عصيانهم - لا أرانا الله مثل هذا الزمان، ولا ابتلانا بمثل هذا الشقاء - يحرمهم الملك الخيِّر، فتختلف بينهم السيوف وتسيل الدماء، ويغلب كل قوي على ما يريد حتى يهلك هؤلاء المجرمون في هذه الفتن وهذا القتال. كمثل النار تشتعل في القصب فتحرق كل يابس، وتتعدى إلى كثير من القصب الرّطب
الله تعالى يمنح واحداً من عباده السعادة والدولة، ويرزقه الإقبال على قدره، ويهبه العقل والعلم ليسوس بهذا العقل والعلم كل واحد من الرعية على الوجه الذي يصلحه، ويضع كل واحد في مرتبته؛ ثم يختار رجاله وعماله من الناس، ويوفي كلا منهم درجته، ويعتمد عليه في كفاية أمور الدين والدنيا
ويكفل الراحة لمن يسلك سبيل الطاعة ويقبل على عمله من رعيته ليعيشوا مغتبطين في ظل عدله
وإذا تجاوز أحد عماله حدّه وأطال يده فإن أصلحته الموعظة والتأديب والتأنيب، واستيقظ من نوم الغفلة، حفظ عليه عمله ومنصبه، وأن تمادى في غفلته لم يستجز إبقاءه في عمله واستبدل به من هو أهل للعم وكذلك من جحد من الرعية حق النعمة، ولم يعرفوا قدر الأمن والراحة، واعتقدوا الخيانة وأبدوا التمرد، وجاوزوا حدودهم يعاقبهم على قدر جرمهم حتى يتوبوا
ثم على الملك بعدُ أن يدأب في عمارة المملكة فيحفر القنوات ويشق الأنهار، ويمد الجسور على الأنهار العظيمة، ويعمر القرى والمزارع، ويبني الحصون، ويشيد المدن الجديدة، والأبنية الرفيعة، والقصور البديعة، ويقيم الربط على الطرق السلطانية، فيخلد بهذه الأعمال ذكره، وينال ثوابها في الدار الآخرة، ويتصل الدعاء له بالخير. . .
ولما أراد الله سبحانه أن يجعل هذا العصر زينة العصور الماضية وغرة مآثر الملوك السالفة، ويرزق الناس السعادة التي لم يرزقها أحد من قبل اختار ملك العالم السلطان الأعظم من أصلين عظيمين ورثا الملك والسيادة أباً عن أب إلى أفر أسباب العظيم، وجمله بالكرامة والعظمة التي لم يظفر بها الملوك السابقون
فأنعم عليه بما يحتاج الملوك إليه من حسن المنظر، وجمال الطبع والعدل والرجولة والشجاعة والفروسية ومعرفة أنواع السلاح واستعمالها، والتحلي بالفضائل والشفقة والرحمة بالخلق، ووفاء النذور والوعود، وصحة الدين والاعتقاد وطاعة الحق تعالى، وتأدية النوافل من صلاة الليل، وكثرة الصوم، وإعظام أهل العلم وإكرام الصالحين والزاهدين والحكماء، وتواتر الصدقات والإحسان إلى الفقراء، ومعاشرة الرعية والعمال بخلق حسن، وكف الظالمين عن الرعية. لا جرم سخر الله له ملك العالمين على مقدار جدارته، وحسن نيته، ومد هيبته وسياسته إلى كل إقليم حتى يؤدي الناس الخراج إليه ويأمنوا بالتقرب من سطوته. وإن كان بعض الخلفاء أوتي بسطة في الملك وسعة فما فرغوا وقتاً من القلق وخروج الخوارج. وفي هذا العهد المبارك لا نجد - بحمد الله - أحداً ينطوي على خلاف أو يخرج رأسه من ربقة الطاعة
أدام الله هذه الدولة إلى قيام الساعة وأبعد عن هذه المملكة نظر السوء وعين الكمال ليعيش الناس في عدل ملك العالم وسياسته ويديموا دعاء الخير له
وإذ كانت حال الدولة كما وصفت كان العلم والبصر بالسنن الحسنة على مقدار هذا، والعلم كشمع ينشر ضوءاً كثيراً فيهتدي الناس به الطريق، ويخرجون من الظلمات، ولا يحتاجون إلى دليل ولكن تدبير الملك يعجز عنه العبيد، وهم لا يبلغون درجة عقله وعلمه. فلما أمر هذا العبد أن اكتب طرفاً من السير الطيبة التي لا غنى للملوك عنها، وكل ما عمله الملوك الماضون ولا يعمل الآن من حسن أو قبيح، وكل ما سمعت في ذلك أو قرأت أو علمت فكتبت إطاعة للأمر العالي هذه الفصول بالإجمال وذكرت في كل فصل ما يلائمه بعبارة واضحة، بتوفيق الله عز وجل
عبد الوهاب عزام