مجلة الرسالة/العدد 301/رسَالة المَرأة
→ أنشودة الذكرى | مجلة الرسالة - العدد 301 رسَالة المَرأة [[مؤلف:|]] |
رسالة العلم ← |
بتاريخ: 10 - 04 - 1939 |
صاحبة السمو الإمبراطوري
الأميرة فوزية
للآنسة زينب الحكيم
يا سليلة المجد، يا كريمة المحتد. . . تزوجت من ابن عاهل بلاد عريقة الحضارة، باسقة الدوحة، فشغل هذا الحادث السعيد انتباه الناس، وانصرف كل يحييه بشكل خاص
كنت أمشي مرتاضة على جسر الزمالك ثم إلى جسر إسماعيل، وكان ذلك في الصباح المبكر النادي، حيث ينتعش النبت ويبتهج الزهر ويصدح الطير
ترتفع الشمس من مشرقها فتواجه صنوها أهرام مصر، فينعكس إشراقها على مرآة الدهر؛ وليست عنه تغرب، وإنما هي تحييه كل يوم، وتحيي في هيكله المرصوص نور العلم، وقوة العقل، ونهضة البشرية؛ ثم تخط في سجله دورتها التي لا تنقطع
وقد تزول المدنيات، وتدول العروش، ويفنى الخلق؛ وتبقى الأهرام وتبقى الشمس. . . هذه تسجل وهذه تدور. . . والخلود للنافع الباقي في سجل الأبدية
فيا أميرة الأهرام فوزي بأمير الشمس رضا. . . لقد تنبأت بسعود مستقبلكما وهناء أيامكما وأنا أسير على الجسور. وقد استرعى انتباهي الأعلام المتناثرة المرفوعة على أعالي القصور وفي البساتين والميادين، كلها ترفرف في الجو معلنة صفاء نفسين واتحاد قلبين، مذيعة على موجات الأثير أفراح أمتين شقيقتين، ورجاء شعبين صديقين
في اللحظة الخاطفة الوامضة، التي أيقنت فيها بذيوع النبأ السعيد في العالم أجمع، وأكده تشريف ابن الأكاسرة ديار الفراعين؛ استوقفني بين الجسرين صوت التابع (الخادم) حيث لاحقني من البيت، قال: سيدتي، لقد نسيت هذا الكتاب، فأخذته منه وشكرته وانصرف
وتابعت سيري ووجهني جسر إسماعيل، فلما بلغت وسطه، شعرت أن الكتاب أثقل ذراعي، فوقفت استريح برهة، وقد شغل تفكيري قيمة ما يحتويه الكتاب بالنسبة إلى حجمه ووزنه
وحانت مني نظرة إلى ماء النيل، وهو يخاصر رقائق النسيم؛ ومن عجب أرى ضوء الشمس الفضي ينعكس على جهات خاصة من سطح الماء، فيكوّن من الموج الهادئ نجوماً متلألئة، أما باقي سطح الماء فعادي إذا استثنينا اختلاف ألوان تموجاته في مواضع.
هذه اللوحة الفنية بإطارها المعشوشب، أوضحت أمامي صفحة من صفحات شهيرات النساء منذ أبعد الحقب، ومن ثم اطمأننت أنه يعتمد عليهن في فتح الكتب المغلقة وفهم غوامضها وتكييف الأقدار. وهذه الناحية من سطح الماء، التي تتلألأ عليها النجوم الساطعة، إنما تدل على شهيرات النساء اللائى جذبن انتباه العالم لخطورة مراكزهن كالملكة حتاسو، وفكتوريا، والسيدة خديجة، ومثيلاتهن ممن حكمن المماليك، وشرعن، وشيدن أسس العمران وسُسن مصلحي البشر؛ أو مدام كوري ومن على شاكلتها من العالمات، والمخترعات؛ أو كالسائحات والكاتبات اللائى يدرسن البشرية عملياً ويسجلن تاريخ البشر التجريبي؛ أو كرسولات السلام والمودة من أشباه أميرتنا المحبوبة فوزية.
وفي الحق أنه ينطوي في شخصية مثيلاتها تضحية، وأقوى شجاعة، وأحد نظرة وأجدها.
يا له من مركز خطير! يضطلع به الرجل فيثقله، فما بالنا إذا ما اضطلعت به امرأة؟! من غير شك تكون المسئولية أعظم، والتضحية أوفر، والإرادة أمتن
يا أيتها المرأة إنك ضحية الوجود، وزهرة الوجود، فيا له من شوك وشذى في وقت واحد!
أذكر عندما حمل البشير إلى فكتوريا نبأ تنصيبها ملكة على عرش بريطانيا العظيم، تلقت الخبر السار بذهول لهول المسئولية، وكانت سنها لا تزيد على الثامنة عشرة، ولكن ذاك الذهول، وذاك الهول، لم يثنياها عن المبدأ الذي ألهمته، وكان سبب نجاحها إذ أجابت بعد صمت لحظات سأكون صالحة. قول قصير ولكنه منطق حكيم ومبدأ متين
وهكذا عاشت الملكة فكتوريا عمراً مديداً، وحكمت خمسين عاماً من أحسن وأنفع السنين التي مرّت على بريطانيا. ولا يزال حب فكتوريا مستقراً في القلوب. تعرفت إلى سيدة إنجليزية عجوز في إحدى ضواحي لندن، فلما توثقت عرى الصداقة بيننا، أرادت أن تقدم إليّ هدية من أثمن ما تملك، فسارت معي إلى خزانة أنيقة من البلور، وأخذت منها علبة فضية ثمينة، أخرجت منها شيئين صغيرين، ولكن بدا على السيدة الاهتمام والرعاية لهما
بدأت تفض الأغلفة التي أحاطت بالدرة الثمينة على ما ظننت، وأيقنت أنني سأنال شظية من تلك اللؤلؤة النفيسة، وما كان اشد دهشتي عندما وجدت أن الجوهر المغلفة لم تكن أكثر من قطعة صغيرة من كعكة عرس الملكة فكتوريا!! ثم عادت السيدة فأخرجت من المغلف الثاني نموذجاً لثوب العرس الذي ارتدته الملكة فكتوريا ليلة زفافها، وقد صنع من القصاصات التي تخلفت من قماش ذلك الثوب. أما نموذج الثوب، فكان تحفة ثمينة، وأثراً بارزاً يشير إلى بعض عواطف الإنجليز، وهم ناس تقاليد وناس وفاء وشمائل نبيلة كم أرجو أن ينال أفراد الشعبين: المصري والإيراني منحة تحفظ في ذاكرة الأجيال!! لا يخالجني شك في أن عبقرية الزوجين الكريمين ستكوّن طاقة من الزهر تشم في نسمات الخلود
يا أميرة النيل: إني أتخيلك وأنت آمنة الآن إلى خلجات قلبك، مفكرة في رياض المستقبل بما تحويه من أزهار وأثمار وأطيار، لا تلبث أن تصبح بلابل القصر المرمري العامر؛ ثم أتخيلك وأنت تجولين في بساتين إيران الزاهية وحقولها المخصبة، وأتخيل مواقفك التي ستفوق ديمقراطية إحدى ملكات أوربا
ذلك أنها كانت تكثر من تفقد حال رعيتها خفية، ففي ذات مرة كانت تتجول في الحقول منفردة، فرأت فتاة حسناء تعمل بنشاط في حقلها بحيث لم تنتبه إلى المتجولة العظيمة، فقربت منها الملكة وحيتها وتحدثت معها طويلاً مستفسرة عن محاصيلها وعن معيشتها، وكانت الفتاة تحادثها دون تعمل على طريقتها القروية الساذجة
ولما همت الملكة بالانصراف سألتها الفتاة عن اسمها وماهيتها، فأجابتها ببساطة مستملحة: أنها الملكة فلانة. فطربت الفتاة كما تطرب فتاة الريف الوادعة وسألتها عن عنوانها، فأجابتها الملكة إلى ما أرادت. فلما كان عيد الميلاد بكّرت الفتاة بإرسال زوج من القفازات الصوفية من صنع يدها هدية للملكة بمناسبة العيد، وتقبلتها الملكة راضية وأرسلت خطاب شكر إلى تلك الفتاة ومعه قفاز مملوء بالذهب، وآخر مملوء بالحلوى
وبعد أيام أرسلت الملكة خطاباً آخر للفتاة تستفسر منها فيه عن وصول الهدية، ومقدار ما نالها منها شخصياً، فأجابت الفتاة في حياء جميل: لقد استأثر أبي بالذهب، وتمتعت أختي الصغيرة بالحلوى، بينما أجاهد أنا في الحصاد. فعادت الملكة وأرسلت قفازين أحدهما مملوء بالذهب والآخر بالحلوى، وشفعتهما بخطاب منها شخصياً تقول فيه لوالد الفتاة: (أترك الهدية كاملة للفتاة هذه المرة) فما أجمل عطف المرأة وما أدق مواقفها!
هنيئاً لك يا إيران بابنة فؤاد المصلح، الذي شمل عطفه وبره ورقيه مصر وغير مصر من بلاد المشرق والمغرب، وعم نور عهده الذهبي فتبدد عن العقول ظلام الجهل، وعن النفوس كابوس الملل
إن التاريخ يعيد نفسه. ومن حسن التوفيق أن يكون إشراق النجوم، وبشير السلام والمودة متصل الحلقات بمحور شريف.
فقد سبق أن حدثت مناسبة سعيدة مشابهة لحادث اليوم، بزواج الأميرة نازلي هانم أخت الخديو إسماعيل، وعمه المغفور له الملك فؤاد بأحد الأعيان التونسيين، وكانت تسكن قصراً بديعاً بالقرب من قرطاجنة على شاطئ البحر وسط بساتين غناء.
تحدثت عنها الكاتبة الفرنسية مريام هاري قالت: أدى بي الحديث مع الأميرة نازلي يوماً إلى الكلام عن المرأة المسلمة، فقالت لي: هل تقصدين المرأة المصرية؟ إنه لا توجد امرأة في العالم عرفت ما عرفته من الاستقلال في عهد الفراعنة! فأمريكا ذاتها لم تبتدع جديداً يمكن أن يقارن بالحركة النسوية التي كانت على ضفاف النيل منذ أربعة آلاف سنة.
لقد كانت تتمتع المرأة المصرية بوحدة الزوجية، بل كانت تنعم بما ينعم به الرجل من الحرية والمراتب، عكس ما كانت تعامل به نساء البلاد الأخرى في ذلك العهد كالإسرائيليات والبابليات وغيرهن.
والزوجة الحقيقة كانت تشارك زوجها في التاج والعرش، وكانت تمتاز عن أختها العصرية بالاشتراك مع زوجها في الأعمال الفكرية، وقد وجدت مؤلفات باسم الزوج والزوجة، وفي الألعاب الرياضية أيضاً، فكانت تخرج معه للصيد والقنص، وكانت ترأس الحفلات)
ثم أفضى الحديث بين الأميرة والكاتبة إلى التحدث عن كليوباترا الملكة العظيمة، فقالت الأميرة نازلي: حقاً إنها كانت ملكة قادرة من أسرة البطالسة، ومع ذلك كان أفول نجم المرأة المصرية بعدها. فقد فرض عليها القانون الروماني الذي أخذ عنه الفرنسيون قانونهم، أن تأخذ ترخيصاً من الزوج في أعمالها، وهذا أمر لا يعرفه الإسلام، إذ ليس الإسلام خلافاً لما يظنون هو الذي جعلنا في مرتبة أقل من الرجال وحرمنا حقوقنا، وإنما هو التفسير غير الصحيح للنص المقدس، وإهمالنا وقعودنا نحن النساء).
ولقد أبيح للمرأة المسلمة على الدوام أن تنص في عقد الزواج على أن تكون منفردة بالزوجية، ولو أن الزوج أخل بهذا النص لعوقب بالحبس قالت الأميرة نازلي هذا القول من نحو ربع قرن مضى، فليتها ترى بنفسها اليوم مقدار ما بلغته المرأة المصرية الحديثة من التعاون مع الرجل في أكثر مرافق الحياة، لتعجب بنهضة المرأة الفكرية والرياضية والاجتماعية، ولتسرّ كل السرور بحفيداتها أميرات البيت المالك، إذا ما رأتهن يزرن المدارس ويشجعن التعليم، ويفتتحن المعارض العلمية والفنية من زراعية وصناعية. كم كان ينشرح صدرها لرؤيتهن أثناء لعبهن التنس ولهوهن بالثلج في سويسرا! لو كان ذلك لأدهشها أن ترى الملك المحبوب فاروق الأول مع زوجه جلالة الملكة فريدة وهما يجولان في الصحراء للصيد والرياضة، ولأثلج صدرها ما ألفته بعض الأميرات من نفائس الكتب كالأميرة قدرية حسين
وسمو الأميرة فوزية زهرة تتضوع شذى ذكيًّاً بما تحمله في دمها من عبقريات والديها الكريمين، وتنقل عن أخيها جلالة الملك (فاروق الأول) المحبوب روح الشباب الطامح، وحكمة الشيوخ الأتقياء، وحزم المجرمين الأشداء. وتتأثر بوراثات فوارة عن الأجيال الطويلة التي قطعتها مصر في الرقي العلمي والحضارة
فيا أيتها الوديعة العزيزة أنت خير من يفهم رسالة مصر، وخير من يمثل بلاده الخالدة، فتزدادين منعة وعظمة من رائع خيال إيران، ورفيع فنها، وواسع علومها وفلسفاتها. وإن من كانت مثلك في قوة الذكاء وروعة الحسن مع شخصية قوية وجرأة حازمة وسياسة رشيقة ونبل - وما استمتعت به من رعاية وجوار كريم من جلالة أخيك الملك الصالح - كل هذا، وليس بالقليل، تستطيعين به أن تتصفحي الكتاب الزاخر وتكفلي بهجة الحاضر ونجاح المستقبل ومودة الدهر
زينب الحكيم