الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 300/قلعة بعلبك

مجلة الرسالة/العدد 300/قلعة بعلبك

بتاريخ: 03 - 04 - 1939


للأستاذ أحمد الصافي النجفي

دار وَحْيٍ أم قلعة أنا فيها ... كنبيٍّ يستنزل الإلهاما؟

حرتُ أرنو إلى الطلول وأرنو ... لقرون مضت ومجد أقاما

إيه أطلال بعلبك أجيبي! ... أين خلَّفتِ قومك الأعْلاما؟

هل يبيد الحمامُ قوماً إذا ما ... نهضوا للحروب قادرا الحماما؟

هل يبيد الحمامُ قوماً وهذي ... غرّ آثارهم خلدْنَ عظاما؟

تلك أرواحهم خلدْنَ بفنّ ... جلّ عن أنْ يخلِّد الأجساما

إيه باخوس. . . كم شربتَ قديماً ... مِنَ سلافٍ وكم سقيتَ ندامى؟

صَرَعَتْهُمْ منك المدامُ. . . ولكن ... أنت صاحٍ مهما احْتسيتَ المداما

كم سقيتَ الورى بجامك خمراً ... ثم أعقبته من الموت جاما!

أنت تسقي الوضيع كأسك حيناً ... ثم تسقي بها المليك الهماما!

رَفَسَتْهُمْ رجلاكَ لم ترع ذلاًّ ... لوضيع، أو للمليك احتشاما!

والعواميد خلتها في صلاةٍ ... رُكّعاً حول معبدٍ وقياما

صَرَعَ الدَّهر بعضهنّ، وبعض ... واقفات تصارع الأيَّاما!

وشجاني من العواميد ستّ ... واقفات صفاً يروع نظاما

ناظرات يسألن عن قرناء ... قد قطعن القرون والأعواما

دُمْنَ يبحثن عن رفاق فلا ... يبصرن إلاّ الإيوان والأهراما

وبقايا من تدمر كعروس ... ذات حُسْنٍ بالتِّبِر هَامَتْ وهاما!

يتساَءلْنَ هل أخذنا عهوداً ... للِيَّالي أو هل قطعنا ذماما؟

درست دوننا القصور ودمنا ... ثم نرجو أنْ سوف نبقى دَوَامَا

يَتَفَاخَرْنَ عكس طبع الغواني ... أيّ أخت تربو على الأخت عاما؟

يبغض السنّ من يخاف فناءً ... وأخو الْخُلْدِ يعشق الأعواما

بِمرور السنين يَزْدَدْنَ حُسْناً ... ثم يَزَدْدن لِلْخُطوب ابتساما؟

يَا لَستِّ من العواميد هاجت ... في فؤادي ذكرى تؤجّ ضراما أيّ شأن لها، وأيّ ملوك ... سجدتْ حول عرشها تترامى؟

إِن رَأَتْ سجْدَةَ الملوك فهذا ... الدهر ألفى لها السُّجود احتراما!

أنا أكرمتها بدمعي احتراماً ... وكرام الأنام تبكي الكراما

يا لَستِ من العواميد تُلْفَى ... لجميع الورى دروساً جساما

واقفات كأنها خطباء ... تعظ الأرضَ والسَّما والأناما

قائلات: المجد يبقى وإنْ كا ... ن بنوه تحت التراب رماما

يَا لَستٍّ من العواميد كم قد ... رفعت ثُمَّ نَكّسَتْ أعلاما

صافحت في الزمان رُوماً وعرباً ... ونصاري الغزاة والإسلاما

صافحتهم وودَّعتهم بكفٍّ ... لم تطوِّل وداعها والسَّلاما

ولكم أبصرت ولم تتزعزع ... عادياتٍ تجرّ مَوْتاً زؤاما

كم تلّقتْ بصدرها مِنْ سهام ... ورأت للعدى قناً وحساما

بسمت نحوها الغزاة وعادت ... وهي تذري لها الدموع انسجاما

يا لَستٍّ من العواميد ظلّت ... كشموعٍ للِدَّهْرِ تجلو الظّلاما

قد تعالَيْنَ فاتحدن رؤوساً ... ثم أحكمنَ في الثرى الأقداما

حاكيات وسط الفضا أخوات ... قد تماسَكْنَ واتحدنَ غراما

وضع الحسنُ والبها تاجَ حسن ... واحداً فوق رأسهنَّ تسامى

وَحَّدَ الحسنُ بينهنَّ بتاجٍ ... حيث في الحسن قد بلغن التّماما!

فتعاهَدْنَ في كِفاحِ الّليالي ... لا يبارِحْنَ حظّهُنَّ انهزاما

أو كقوّاد جَحْفَلٍ قد أَطلُّوا ... يصدرون الآراَء والأحكاما

يتناجون دون تحريك هام ... حيث ولّوا نحو الجيوش الهاما

ظلَّ بعضٌ يفضي لبعضٍ برأيٍ ... واستمرُّوا يراقبون الصِّداما

يا لستٍّ من العواميد تبكي ... أخوات لها قضين انهداما

هدّتها كفّ القضا فاشتهت لو ... حطمت معول القضا الهدّاما!

ذكرت عهدها القديم فأمست ... وهي يَقظَي تشاهد الأحلاما

كم وعت خطبةً وأصغت لنجوى ... آه. . . لو أنها تعيد الكلاما؟ تتراءى كأنها كفّ جبا ... ر عظيمٍ زادوا بها إبهاما

جسمه القلعة المهيبة لكن ... أَلْبَسَتْهُ يد البِلى اسقاما

فانْهِدَامَاتها جراح بجسم ... طالما مارس الوَغى والزّحاما

كسرت عظمة الليالي فلم ... يُبْدِ انكساراً ولا اشتكى آلاما

وسبتني فيها تماثيل غيد ... عبدتها أهل الهوى أصناما

سكب الفجر ضوَءه في ثنايا ... ها وألقى الضحى عليها ابتساما

يشتهي الثغر لثمها وهي صخر ... ويذوب الفؤاد فيها هياما

هِمْتُ فيها فقلت هزؤاً بنفس ... أيّ صبٍّ قبلي أحبَّ الرّكاما

عاريات مثل الملائك لم يس ... دلن ستراً ولا وضعن لثاما

اتخذت عفة النفوس رداءً ... وسنا الحسن في الجبين وساما

لم تشوِّه بالصبغ يوماً وجوهاً ... جعل الحسن عندهن مقاما

هنَّ مهما شاب الزمان صبايا ... راميات بلحظهنَّ سهاما!

وشجتني منهن هيفاء خود ... سامها الحظ دونهن اهتضاما!

شوَّه الدهر ثديها بانكسار ... قبل أن يبلغ الرضيع الفطاما

فرنت نحو صحبها بانكساف ... خوف نقص يعزى إليها اتهاما

وتمنَّتْ لو اكتسين جميعاً ... برداء ليستر الأجساما!

ورأيت الضرغام فارْتعت منه ... أيُّ قلب لا يرهب الضرغاما؟

مُعْلياً صمته المهيب زئيراً ... ساكناً خضرة السما آجاما

أسد الغاب خلته احتل (برج ... الأسد) اليوم، واعتلى الأجراما

فاتح الطرف، كاشر الناب، يبغي ... أن يخيف القضا إذا ثمَّ حاما

نصبوه في الجوِّ حامي عرين ... يقظ الطرف، لا يحب المناما

ظلَّ في الجو حارساً لحماه ... ومخيفاً وحش الدجا والطغاما

قام أسد الحمى وظل مفيقاً ... لا يذوق الرّقاد حتى لماما

وشجتني فيها مسارح لهوٍ ... وفنون تنوّر الأفهاما

كم عَلَتْ فوق ساحها خطباء ... وغوان ترجِّع الأنغاما أقفرت تلكم المسارح منهم ... واستحالت ساحاتها آكاما

إنّ أَطلالَ بعلبك كتابٌ ... قد حلا مبدأَ وطاب ختاما

فيه تبدو طلاسم أَنا مهما ... رمت حَلاًّ لها تزد إبهاما

صار فيها وهمي فخلت بأنّي ... كنت فيها أجَسّم الأوهاما!

(دمشق)

أحمد الصافي النجفي