مجلة الرسالة/العدد 300/التاريخ في سير أبطاله
→ على هامش الفلسفة | مجلة الرسالة - العدد 300 التاريخ في سير أبطاله [[مؤلف:|]] |
نقل الأديب ← |
بتاريخ: 03 - 04 - 1939 |
أحمد عرابي
للأستاذ محمود الخفيف
أما آن للتاريخ أن ينصف هذا المصري الفلاح، وأن يحدد له
مكانه بين قواد حركتنا القومية؟
ظل عرابي في مرحلته الأولى في الجندية ساخطاً على الأتراك في الجيش والجركس لا يفتر سخطه ولا ينقطع عليهم شغبه، يكيدون له ويكيد لهم. وإنا لنلمس في هذا سبباً قويّاً من أسباب زعامته للحركة العسكرية فيما بعد، فلسوف يلتقي في دار هذا المتبرم الساخط رؤوس الساخطين الحانقين من رجال الجندية يوم يزمعون أن يشتكوا إلى الحكومة في أوائل عهد توفيق مما يلحق بهم من سياسة وزير الجهادية الجركسي عثمان رفقي
ويشير عرابي في مذكراته إلى حسن صلته بسعيد باشا حتى لقد أهدى إليه هذا الوالي كما يذكر تاريخ نابليون؛ ولقد قرأ عرابي هذا التاريخ، ولست أستطيع أن أتبين على وجه التحقيق ما تركه مثل هذا الموضوع من أثر في نفسه، فلم يعلق هو على ذلك إلا بقوله: (ولما طالعت ذلك الكتاب شعرت بحاجة بلادنا إلى حكومة شورية دستورية، فكان ذلك سبباً لمطالعتي كثيراً من التواريخ العربية). ولست أدري كيف توحي قراءة تاريخ نابليون بحاجة مصر إلى حكومة شورية دستورية؟ على أن قراءة سيرة هذا الجندي المغامر الفذ الذي وصل بجده إلى قمة المجد الحربي وبلغ أوج الشهرة والجاه توحي إلى كل من يقرؤها معاني الإقدام والبطولة، وتملأ النفوس تطلعاً وحماسة. وعلى هذا فلا يصعب أن نتصور ما عسى أن تلقيه تلك السيرة من المعاني في نفس كنفس عرابي الجندي المتطلع المتوثب
ويشير عرابي في كتابه إلى أن سعيداً كان يميل إلى المصريين في الجيش والى رفع ما يلحق بهم من غبن أمام الجركس، كما يشير إلى إنه كانت لسعيد نزعة وطنية تجلت في خطبة أثبتها عرابي في كتابه وكان قد سمعها في الحفلة التي ألقيت فيها، يقول عرابي: (فلما انتهت الخطبة خرج المدعوون من الأمراء والعظماء غاضبين حانقين مدهوشين مما سمعوا؛ وأما المصريون فخرجوا ووجوههم تتهلل فرحاً واستبشاراً. وأما أنا فاعتبرت هذ الخطبة أول حجر في أساس نظام مصر للمصريين. وعلى هذا يكون المرحوم سعيد باشا هو واضع أساس هذه النهضة الوطنية الشريفة في قلوب الأمة المصرية الكريمة)
ولقد كتب عرابي هذه الآراء بعد الثورة، ولعل في ذلك ما يدعو إلى ضعف الثقة في قيمتها عند بعض المؤرخين، كما هو الحال في مذكرات نابليون التي كتبها في منفاه في سنت هيلانة، فلقد أخذها بعض المؤرخين على إنها دفاع من جانب نابليون عن أعماله بعد أن خلا إلى نفسه فنظر وتدبر
ولكن أعمال عرابي التي لا ينكرها المؤرخون حتى المغرضون منهم لا تتناقض مع كثير مما جاء في مذكراته، وعلى الأقل في هذا الجانب الذي نتلمس فيه الدليل على ما نحسبه من أن عرابياً قد اتجه منذ نشأته اتجاهاً قومياً وطنياً، وهذا أمر نراه على جانب عظيم من الأهمية. ففي هذه النزعة القومية نرى عرابياً الحقيقي. أما عرابي الذي صوره خيال المغرضين من المؤرخين فما أبعده عن هذا. وهل كان يحلو لهؤلاء الذين استغلوا حركة عرابي أقبح استغلال، إلا أن يصوروه أقبح صورة؟ فلا يكون عندهم إلا جندياً جاهلاً مغروراً واتته الظروف فراح يخيط في حماقته لا يلوي على شيء وما زال في جنونه يلوح بسيفه حتى اضطر آخر الأمر أن يسلمه صاغراً إلى قائد جيش الاحتلال الإنجليزي!
ما كانت حركة عرابي عسكرية بحتة، وما كان هو بالأحمق ولا بالمجنون، وإنما كان لابد أن تلتقي الحركة العسكرية وهي لا تخلو من الصفة الوطنية بالحركة الوطنية العامة؛ ثم لقد تم هذا الالتقاء في شخص عرابي، وكان النجاح حليفه فيما طلب باسم الأمة يوم عابدين، ولا لوم عليه بعد ذلك ولا جناح أن تحاك الدسائس وتوقد نار الفتنة تنفيذاً لسياسة مرسومة سوف نميط عنها بكل ما وسعنا من حجة. . .
هذه النزعة الوطنية القومية في نفس هذا المصري الفلاح مع ما توافر له من صفات الغيرة والبسالة، هي التي جعلت إليه قيادة الحركتين يوم التقتا. ولقد كانت هذه النزعة كما ذكرت تجيش بها نفسه منذ شب. كتب في ذلك مستر بلنت وكان من أصدقاء عرابي يقول في علاقة عرابي بسعيد: (وقد حظي عرابي الذي كان وسيما ووجيهاً برضائه حتى سمى أركان حرب له ورافق سعيداً إلى المدينة في السنة التي سبقت وفاته. وعندي أن عرابي كون آراءه السياسية الأولى أثناء حديثه مع سيده في هذه السفرة التي كانا فيها متلازمين، وتنحصر هذه الآراء في المساواة بين الطبقات، وفي الاحترام الواجب للفلاح باعتباره العنصر الأساسي المجد في الجيش المصري؛ وهذا الدفاع عن حقوق الفلاح هو الذي ميز عرابيا عن مصلحي ذلك العصر. وغني عن البيان أن حركة الإصلاح الأزهرية كانت تشمل المسلمين ولا تميز بين الأجناس؛ أما حركة عرابي فكانت قومية ولذلك كانت الوطنية فيها أظهر، وإقبال الناس عليها أقوى وأكثر)
وفي عهد إسماعيل يزداد نفور عرابي من الجركس وتزداد ميوله الوطنية وضوحاً باتصاله بالحركة الوطنية التي أخذت تدب في جسد الأمة المنحل الذي أثقلته سياسة إسماعيل وديون إسماعيل
وكذلك تزداد في هذا العصر نزعة تمرده وسخطه وتتجلى في كثير من مواقفه، ومن أهم تلك المواقف ما كان بينه وبين خسرو باشا الذي ما زال يكيد له حتى رفت من الجندية، وكان خسرو هذا جركسياً ويعزو عرابي سبب رفته إلى أن خسرو قد سار بالوقيعة بينه وبين وزير الجهادية متهماً إياه بأنه: (صلب الرأي شرس الأخلاق لا ينقاد لأوامره ولا يحفل بما يصدر منها عن ديوان الجهادية). وأما سبب الخلاف بينه وبين خسرو فيذكر عرابي إنه كان في لجنة لامتحان الضباط وكان على رأسها خسرو، فأراد أن يتحيز إلى أحد الجراكسة فيعطيه ما لا يستحق ولم يرض عرابي على رغم إلحاحه عليه أن يشايعه في ذلك فعول على الانتقام منه
والذي يعنينا من هذه الرواية أنها تصور لنا شدة الخلاف بين عرابي ورؤسائه في الجيش مهما كانت أسباب ذلك الخلاف، كذلك يكشف لنا ما علق به عليها عرابي عن ناحية من عقليته، فلقد راح يذكر ما حل بمن آذوه من المصائب معدداً أسماءهم مبيناً ما لحق بكل منهم مورداً ذلك على إنه انتقام له من الله. . . وفي هذا نوع من السذاجة لاشك كما أن فيه دليلاً على ما كان للدين من سلطان على عقل عرابي وقلبه
على أن هذه الناحية الدينية في حياته قد استغلها ضده خصومه كذلك محاولين أن يسوقوها دليلاً على إنه كان رجلاً لا يفترق كثيراً عن عامة الناس في جميع أفكاره ونزعاته، دون أن يشعروا أنهم بهذا التعميم الذي لا مبرر له إنما ينالون من عقولهم هم، أو على الأقل أنهم إذا كانوا يدركون خطأ هذا التعميم ثم يتمسكون به فإنما ينالون من أنفسهم لا من نفسه كان للدين سلطانه على عقل عرابي ما في ذلك شك، ولكن تلك كانت نزعة العصر. على أننا نسأل ماذا يضيره من ذلك؟ وكيف يساق هذا على إنه من مساوئه وحقيق به أن يكون من حسناته؟ وهل عاب أحد على كرمويل وهو جندي مثله تزمته وتقشفه وصرامته في دينه؟ وهب إنه كان يغلو أحياناً فيخلط بين ما يتصل بالدين وما يتصب بالسياسة فهل مال به ذلك عن منهاجه السياسي أو صرفه عن وجهته التي عمل على بلوغها؟ وهل يستطيع أحد من خصومه أن يقيم الدليل على إنه اتخذ يوماً من الدين سلاحاً في غير محله؟ أو على إنه استغنى بالدعوة الدينية عن الجهاد والقتال حتى النهاية حين عملت خيانة بني قومه ودسائس أعدائه على انتزاع النصر من بين فكيه؟
ظل عرابي ثلاث سنوات مبعداً عن وظيفته إلى أن عفا عنه الخديو فعاد، ولكنه طلب أن يحال على الأعمال المدنية كمكافحة الفيضان والإشراف على بناء الجسور من ناحية نقل ما يلزم من الأدوات؛ وإنه ليذكر إنه بذل في تلك الأعمال جهداً كبيراً، ولكنه رأى غيره يكافأ مكافآت مالية أما هو فكان جزاؤه كما يقول: (وكوفئت أنا على تلك الأعمال الشاقة الجليلة بالتقاعد والراحة من غير معاش لحين ظهور خدمة أخرى، فيا لله ما أمر وأصعب تلك المكافآت المقلوبة على النفوس الحساسة الشريفة! وما أكثر العجائب في الحكومات المطلقة المستبدة الظالمة)
على أن مستر بلنت يذكر أن تكليف عرابي بتلك الأعمال كان على غير رغبته، وأن ذلك كان سبباً من أسباب نقمته على العهد القائم يومئذ ومن دوافع انضمامه إلى الساخطين والمتذمرين
وأعيد عرابي بعد ذلك إلى الجندية وألحق بالحملة الحبشية، ولكن عمله في هذه الحملة لم يكن عمل الجندي المحارب فقد كان يعمل في منصب مأمور مهمات بمصوع. ولقد عظم حنق عرابي على تلك الحملة فهو ما يفتأ يندد بها في مذكراته ويصف ما حل بالجيش فيها من كوارث في غير موجب. جاء في كتاب مستر بلنت: (وقد عاد منها كسائر زملائه ساخطاً على ما حدث فيها من سوء التصرف، وإلى هذا يرجع تفرغه الآن للسياسة، وتعاظم غيظه الذي كان موجهاً بعد ذلك نحو الخديو)
وفي فبراير عام 1878 وقعت مظاهرة الضباط الخطيرة، تلك المظاهرة التي نلمح فيها بوادر الثورة العسكرية. يتلخص الحادث في أن عدداً من الضباط بزعامة البكباشي لطيف سليم، قد توجهوا إلى وزارة المالية يطالبون بمرتباتهم المتأخرة، فلما حضر نوبار باشا رئيس الوزراء وكان معه السير ريفرز ولسن وزير المالية هجم هؤلاء الضباط عليهما وأشبعوا نوبار لطماً ولكماً وراحوا يجرونه من شاربيه، وامتدت أيديهم كذلك إلى وزير المالية؛ وكاد يتفاقم الحادث لولا أن خف إلى هناك الخديو بنفسه في فرقة من حرسه حينما نمى إليه خبره، وأمر الخديو بإطلاق النار إرهاباً فأطلقت رصاصات في الهواء وفر المتظاهرون
ولكن تهمة القيام بهذه المظاهرة أو تدبيرها قد وجهت إلى عرابي وأثنين آخرين من الضباط، وعقد لهم مجلس يحاكمهم وأصدر المجلس حكمه بتوبيخهم وفصل كل منهم عن ألايه إلى جهة بعيدة وكانت الإسكندرية نصيب عرابي، وفيها اتصل بكثير من الأوربيين
ويدفع عرابي التهمة عن نفسه مقررا أنه لا يد له فيها مطلقاً إذ كان في رشيد وقت وقوع الحادث، ذكر ذلك في مذكراته وذكره كذلك في التاريخ الذي كتبه لمستر بلنت بناء على طلبه عام 1903 بعد عودته من منفاه. ولقد أطلع مستر بلنت الشيخ محمد عبده على ما كتب عرابي، فوافق على براءته من هذا الحادث
ولقد أدى اتهام عرابي على هذا النحو إلى ازدياد كراهته لإسماعيل وعهد إسماعيل. ولسوف يكون ذلك من أهم الدوافع التي توجهه إلى الاتصال بالوطنيين بغية معاونتهم والاستعانة بهم على تنفيذ ما كانوا يأملونه من وجوه الإصلاح. ذكر عرابي فيما كتبه لمستر بلنت: (ولكن قبل أن نفترق اجتمعنا (يشير إلى الضابطين اللذين اتهما معه) فاقترحت عليهما أن نكون عصبة لخلع إسماعيل. ولو فعلنا لحللنا المسألة من وقتها لأن القناصل كانوا يرغبون في التخلص منه بأية طريقة. . . ولكن لم يكن قد ظهر بعد من يقود هذه الحركة فوافق الموجودون على رأيي ولكنا لم نقدر على تنفيذه)
(يتبع)
الخفيف