الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 30/الشعر والفن

مجلة الرسالة/العدد 30/الشعر والفن

بتاريخ: 29 - 01 - 1934


يتمتع قليل من الناس بإحساس راق مهذب، ينفعل انفعالا قوياً حينما يشهدون جمال الطبيعة أو يتأملون أسرارها، وهذا الإحساس السامي لا يصلون إليه من كثرة القراءة والاطلاع، ولا من كثرة الحفظ والاستظهار، ولا من تأبط الدواوين والكتب، وإنما يأتيهم من تدريب احساساتهم وتمرينها على التأثر بجمال الطبيعة والتأمل فيما يغمرها من أسرار، ويشرق عليها من نظام، وما يزالون يدربون احساساتهم، ويتعهدونها بالتمرين، وحتى إذا أوفوا من ذلك على الغاية، وضاقت قلوبهم عن حبيس ما يجيش فيها من عواطف وانفعالات، اضطروا اضطراراً إلى إخراج هذا الفيض القلبي متدفقاً في هذه الأنهار الجميلة التي نسميها فناً، من موسيقى ورسم ونحت وعمارة وشعر، وما أشبه قلوب هؤلاء الناس بالبؤرة الصالحة ترد إليها أشعة الاحساسات الصادرة عن صور الطبيعة المختلفة، فتحلل فيها، ثم تنعكس فكراً جميلة، وصوراً بديعة، وسرعان ما يجد الفنان نفسه مضطراً إلى إبرازها وإظهارها لأنه لا يستطيع أن يؤويها في نفسه، ولا يمكنه أن يخفيها في زوايا قلبه، فيقدمها للناس في هذه الثياب الساحرة، ثياب الفن الجميل فتسترعي ألبابهم، وتستهوي أفئدتهم.

والفنون جميعها تعبر عن عواطف مشتركة، وتسعى إلى غاية واحدة هي إظهار ما في الكون من جمال، ولهذه الصلة الواضحة بين أنواعها كان لزاماً على من يخصص نفسه في فرع من فروعها أن يتزود ما أمكن بالفروع الأخرى، وأن يتثقف بها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد فقه الغربيون ذلك وعرفوا قيمته فراح شعراؤهم يدرسون الفنون الجميلة، ويمدون شاعريتهم بما يلذ لها من صنوف طعامها، وألوان رحيقها، وبينما هم مجدون في ذلك مبالغون فيه، نجد كثيراً من شعرائنا قد استناموا إلى حياة شعرية غريبة، حياة كلها تقليد وقطيعة للفنون، فهم لا يستمدون غذاء شاعريتهم إلا من فتات مائدة، هي هذه الدواوين الشعرية التي ورثوها عن الأقدمين، يحفظون ألفاظها، ويجودون أساليبها ويبتغون مثلهم العليا في معانيها وصورها، فترى الواحد منهم إذا أراد أن يقول شعراً راجع ما قاله القدماء، والتقط ما نثروه من ألفاظ وأساليب، ونطقوا به من معان وصور، حتى إذا اجتمعت إليه مجموعة لا بأس بها من هذا كله، سلكها في هذه السلاسل التي يسميها أوزاناً شعرية، وقد نشأ عن ذلك أن قل الابتكار في الشعر. وأصبحنا لا نكاد نتأثر أو نحس به لأنه موسيقى متكررة توقع من حين لآخر على نغمة واحدة، وشاعت السرقات الشعرية عن هذه الطائفة من الشعراء، فاستباحوا حمى أسلافهم الأقدمين وأغاروا على دواوينهم، واجتلبوا منها سبايا الأساليب والصور، ولكنها سبايا باردة جامدة لا تنبض قلوبها بحرارة ولا بحياة، والشركات كثيراً ما تعقد في هذه السبايا، ولكن الشعر للأسف لا يرج منها إلا ألفاظاً لا غناء فيها ولا قيمة لها ولو كان للشعر العربي حكومة لأخذت على أيدي هؤلاء المتشاعرين الذين لا يقعون منا إلا موقع الضوضاء الممقوتة المنكرة، فحرمت عليهم اجتراح هذا الإثم، أيا كان لونه، وأياً كان شكله، وإذن لاستراح الشعر العربي من عبء ثقيل يتعبه ويشقيه، ويمرضه ويضنيه.

ومما يدعو إلى العجب أن بعض النقاد أخذ يهيب بهؤلاء الشعراء، ويضع أيديهم على ما هم فيه من عيب ونقص، علهم يصلحونه أو يتخلصون منه، ولكنهم يعرضون عنه، ويصرون على ما يجلل آثارهم الشعرية من عيب، وما يسومها من نقص، وتضيع من وقت لآخر هذه الدعوات المخلصة، وتذهب كأنها نفخة في رماد، لا تبعث لهيباً ولا توقد ناراً، أو صحة في صحراء، تضيع في متسع الاجواء، وتفنى في منفسح الآفاق، ولو أنصف هؤلاء الشعراء أنفسهم لأصاخوا إلى هذه الدعوات المباركة واستجابوا إليها، وهل يحسن بهم أن يؤثروا العقم على الإنتاج، أو يستحبوا التقليد على الحرية؟ إنهم لو تدبروا لسارعوا إلى تخليص أنفسهم من ذل الجمود ورق التقليد، ففكوا عن أعناق شعرهم هذه الأفعى التي تحاول أن تخنقه على أن هذه الحياة الجديدة التي نأمل فيهم أن يستبقوا إليها، لن تكلفهم مشقة كبيرة. فان السبيل إليها سهل ميسر، وما عليهم إلا أن يلقوا محبة من نفوسهم على عوالم الفن الأخرى، فيثقفوا بها، ويجدوا في ذلك التثقيف، حتى يدربوا احساساتهم، حاسة حاسة، تدريباً طويلاً، وأكبر ظني أن هذا هو السبيل الواضح الذي يصل بهم على عجل إلى غايتهم المنشودة، ولعل من أمس هذه العوالم الفنية بالشعر، عالم الخطوط والحركة، أو ما يسمونه باسم (الرسم) ففي هذا العالم يستطيع الشاعر أن يمرن احساساته تمريناً تاماً كاملاً على التأثر بجمال الطبيعة والانفعال بمشاهدها الرائعة ومظاهرها الساحرة، ويظن كثير من الناس أن جمال الصورة يتركز في ألوانها وأضوائها، ولو كان الأمر كذلك، لكانت الصورة قليلة الجدوى، والواقع أن جمالها البديع يتركز في الخطوط وحركاتها واتجاهاتها، تلك الخطوط التي تعدل الصورة وتقومها وتنتهي بها إلى شكلها الفني الجميل، أما الألوان فهي شيء إضافي يلحق بالخطوط بعد تكونها ووجودها، والشاعر كالمصور لا يختلف عنه في شيء إلا في المادة التي يصور بها، وان في الصورة المجتمعة، وندرة العناصر، وتناسب الجمع، لنوعاً سامياً من القوة الإلهية كما يقول فلوبير، وأهمية الصورة في الشعر ترجع إلى أنه لا يعبر عن الحقيقة كما هي وكما نجد عند النثر، وإنما يتخذ للإفصاح عنها طريقاً آخر، هو تمثيلها وتخييلها، وعرضها في صور خلابة ورسوم ساحرة، وهذا هو الذي حدا باليونان منذ القدم إلى أن يخصوا الشعر ببرهان قائم بنفسه، برهان لا يقوم على اليقين ولا يتخذ مقدماته من المنطق، وإنما يقوم على الإقناع والتمثيل، ويتخذ طريقه من التأثير والتخييل، ونحن نلحظ مع الأسف أن الشعر العربي لا يهتم بالصورة الاهتمام الواجب، وإنما يضع همه كله في الألوان والأضواء، ولا نكاد نجد فيه الخطوط الكثيرة التي تخلق الصورة خلقاً، وتبتكرها ابتكاراً، وتعمر قلبها بالحرارة والحياة، فمعظم شعرائنا يقف همهم من الصورة عند هذا النوع التافه الذي يسمونه مجازاً أو كناية، وما عرفوا أن هذه الأشياء هي أقل أنواع الصور قيمة بل هي في الواقع لا تزيد على أنها طريق من طرق التعبير، أما الصورة الصحيحة فهي أسمى من ذلك وأرفع، ولا بد فيها من تحضير لمواد طويل، وجمع للعناصر كثير.

وعلاقة الشعر بالرسم علاقة قوية شديدة، ولكن يظهر أن علاقته بالموسيقى أقوى منها بأي فن آخر، فقد نشآ معاً، ولكن تقدم الفنون فصل بعضهما عن بعض فاستقل كل منهما بوظيفة خاصة، على أن الموسيقى لا تزال تحتل الشعر ولا يزال أثرها واضحاً فيه، والشاعر في الواقع ليس إلا موسيقياً ساحراً يلعب بأنامله على قيثارته الشعرية فيطربنا بأنغامه، ويشجينا بألحانه، ويأخذنا بفيض وحيه وقوة إلهامه. والواجب على شعرائنا أن يدرسوا الموسيقى، وأن يعنوا بدراستها عناية كبيرة، فكثير من الألوان التي يؤديها الشعر ترجع إلى الموسيقى نفسها، ولقد استفاد اليونان قديماً من هذه الدراسة فوجدوا طريق الشعر في العقيدة كلها، بل في الرواية التمثيلية على طولها، واختلاف أشخاصها خلا الشعر الغنائي الذي كان يتخللها، ولقد كان الرومان يفهمون الشعر على أنه غناء أكثر منه شيئا آخر حتى تجوز بعضهم فسمى الشعراء باسم الموسيقيين، ويقول بعض النقاد أن الموسيقى هي سر السحر في الشعر وهي نفس صناعته، وكيفية تأثير الموسيقى الشعرية فينا يختلف فيها النقاد اختلافا كثيراً، ومهما يكن فهي تحدث تغيرا في أسلوب الوجدان، وكل نغمة تصلنا منها تؤثر في ادراكنا، وترتفع معها نغمات عاطفية في نفوسنا، ولا ينكر أحد ما لموسيقى الألفاظ من قيمة في الشعر، فهي ذلك الجمال الخفي الذي يستمد من غير المنظور مؤثرات ساحرة بديعة، ولقد كان شاكسبير يعنى بها عناية فائقة، حتى قيل انه يحب الألفاظ من أجل الألفاظ، لكن ينبغي أن ننبه إلى أن موسيقى كل لفظة موجودة معها في اللغة قبل وجود الشاعر، ولكن لا ننس أنه هو الذي يختار الألفاظ، ينتقيها ويجمعها في سلك واحد فلا نحس تنافراً ولا شذوذاً، وإنما نجد جمال التناسب والتوافق يتجلى فوقها ساحراً بديعاً، واللغات نفسها تهتم بموسيقى الألفاظ، ويتضح هذا في اللغة العربية في ألفاظ الاستغاثة والندبة والتعجب فان قدماءنا قلبوا ياء المتكلم التي تنتهي بها ألفاً حتى يشبعوا النغمة في هذه الألفاظ ويستتموا بها التأثير في الوجدان، وقد زادوا في ذلك فجعلوا لبعضها حرف نداء مخصوصاً هو (وا) ليزيدها قوة في الصورة، ويتناسب مع شدتها في المنطق، وهم قد فعلوا هذا كله ليدلوا على الانفعال الوجداني ويكون التأثير في قلب السامع أوفى وأقوى.

وليس من شك في أن تتابع المقاطع والأصوات وصور النبرات يجعل العقل مستعداً لنغمة خاصة، وينقل القلب إلى حالات وجدانية متماثلة، ويتبين هذا في أننا نصبح بعد قراءة بيت أو بيتين من الشعر مهيئين لسماع ما يوافق هذه الحالات الوجدانية التي هيجتها فينا الأصوات والنبرات الأولى، فإذا فوجئنا بمقاطع ونغمات جديدة أحسسنا بالفرق الظاهر والانتقال الواضح، على أننا يجب ألا نبالغ في ذلك، فان التأثير الذي يفد إلينا من الشعر لا يأتي من الضغط والمقاطع وتشديد الصوت وقوته، نعم تؤثر فينا هذه الأشياء تأثيرات مختلفة، ولكن هذه التأثيرات ليست كل شيء في الشعر فان قراءة الشعر ليست نغماً خالصاً، ولا شكلاً غنائياً تاماً.

شوقي ضيف بكلية الآداب