الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 30/الروضة

مجلة الرسالة/العدد 30/الروضة

بتاريخ: 29 - 01 - 1934


بحث طريف لم ينشر

للعلامة المغفور له أحمد باشا تيمور

الروضة جزيرة بها مقياس النيل واقعة بين مصر القديمة والجزيرة، وملخص تاريخها أنها من الجزر القديمة الحادثة قبل الفتح الإسلامي ولكن لا يعلم زمن حدوثها. وبسبب قربها من قاعدة الديار المصرية وطيب هوائها وموقعها ظلت في كل جيل مطمح أنظار الملوك والأمراء وذوي اليسار، وتعاقب عليها حالان فكانت تارة تجعل حصنا للدولة وأخرى متنزها حاويا للبساتين والدور والمساجد والحمامات كما يأتي.

الحصن القديم والحصن الطولوني:

لما فتح الله على المسلمين مصر وملكوا الحصن الشرقي المعروف بقصر الشمع لجأ المقوقس وقومه إلى حصن كان بهذه الجزيرة، وبعد تمام الفتح خرب الأمير عمرو بن العاص بعض أبراجه وأسواره ثم نما عمرانها بعد ذلك فكانت في ولاية عبد العزيز بن مروان على مصر عامرة بالدور المشرفة على النيل من كل جهة، وكان بها خمسمائة عامل معدة لحريق يطرأ أو هدم. وفي إمارة أحمد بن طولون بنى بها حصناً ليحرز فيه حرمه وماله وذخائره لما بلغه مسير موسى بن بغا من العراق قاصداً مصر ثم أهمل بعد الدولة الطولونية فأخذه النيل شيئاً فشيئاً.

المختار والروضة:

وكانت بها الصناعة لعمل السفن الحربية فلما تولى محمد بن طغج الإخشيد على مصر نقل الصناعة إلى ساحل الفسطاط وأنشأ موضعها بستاناً سماه المختار وبنى فيه قصراً وأماكن له ولغلمانه، وكان يفاخر به أهل العراق، وبقى بعده فكان يتنزه فيه المعز الفاطمي وابنه العزيز، ثم في أيام استيلاء الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي على وزارة الفاطميين وحجره على الخليفة أنشأ في شمالي الجزيرة مكانا نزها سماه الروضة وبنى فيه المناظر البديعة، فمن حينئذ عرفت الجزيرة كلها بالروضة وكانت تعرف في أول الإسلام بالجزيرة وبجزيرة مصر ثم بجزيرة الحصن. هذا قول عامة المؤرخين، وقال ابن المتوج انم سميت بالروضة لأنه لم يكن بالديار المصرية مثلها. وبعد قتل الأفضل بنى بها المأمون البطائحي الوزير منظرة بقيت إلى آخر الدولة الفاطمية، ويذكر المؤرخون انه بناها مكان الصناعة بعد أن نقل الصناعة إلى مكانها القديم بالفسطاط، ولا يخفى أن نقلها أول مرة من الجزيرة كان زمن الإخشيد كما تقدم، ولم نرهم ذكروا أنها أعيدت إليها ولا رأينا منهم من تنبه لذلك غير الإمام السيوطي في كوكب الروضة فانه علق على هذا الخبر بقوله (وهو يدل على أن الصناعة أعيدت إلى الروضة بعد أن نقلها الإخشيد إلى ساحل مصر حتى نقلت ثانياً).

الهودج:

ولما تولى الآمر بأحكام الله الخلافة أنشأ بها قصراً على النيل بجوار البستان المختار سماه الهودج وأسكن به زوجته الغالية البدوية، وسبب ذلك أنه كان مغرما بالجواري العربيات فبلغه أن بصعيد مصر جارية من أكمل العرب وأظرف نسائهم جميلة شاعرة فأرسل إلى أهلها وخطبها وتزوجها، فلما نقلت إلى القصر انقبضت نفسها من حيطانه واشتاقت إلى تسريح طرفها في الفضاء على ما اعتادته فبنى لها الهودج على شاطئ النيل بالجزيرة في شكل غريب وصار يتردد عليه إلى أن قصده رابع ذي القعدة سنة 524 فلما بلغ رأس الجسر مما يلي الروضة وثب عليه قوم من النزارية كانوا كامنين له هناك وضربوه بالسكاكين حتى أثخنوه فحمل إلى منظرة اللؤلؤة بشاطئ الخليج وقد مات. قال ابن سعيد وقد أكثر الناس من ذكر الآمر والبدوية وابن عمها حتى صارت رواياتهم كأحاديث البطال وألف ليلة وليلة وما أشبه ذلك. فمما روي عنها أنها بقيت متعلقة الخاطر بابن عم لها ربيت معه يعرف بابن مياح فكتبت إليه من قصر الخليفة الآمر:

يا ابن مياح إليك المشتكى ... مالك من بعدكم قد ملكا

كنت في حي مطاعا آمرا ... نائلا ما شئت منكم مدركا

فأنا الآن بقصر موصد ... لا أرى إلا خبيثاً ممسكا

كم تثنينا كأغصان النقا ... حيث لا نخشى علينا دركا

وتلاعبنا برملات الحمى ... حيثما شاء طليق سلكا

فأجابها بقوله بنت عمي والتي غذيتها ... بالهوى حتى علا واحتبكا

بحت بالشكوى وعندي ضعفها ... لو غدا ينفع منا المشتكى

مالك الأمر إليه يشتكى ... هالك وهو الذي قد أهلكا

شأن داود غدا في عصرنا ... مبدياً بالتيه ما قد ملكا

وبلغت الآمر الأبيات فقال لولا أنه أساء الأدب في البيت الرابع لرددتها إلى حيه وزوجتها به. قال القرطبي وللناس في طلب ابن مياح واختفائه أخبار تطول. وكان من عرب طيء في عصر الأمير طراد بن مهلهل، فلما بلغته قصة الآمر مع الغالية قال:

ألا أبلغوا الآمر المصطفى ... مقال طراد ونعم المقال

قطعت الأليفين عن ألفة ... بها سمر الحي بين الرجال

كذا كان آباؤك الأكرمون؟ ... سألت فقل لي جواب السؤال

فقال الآمر لما بلغته الأبيات جواب سؤاله قطع لسانه على فضوله وأمر بطلبه في أحياء العرب ففر ولم يقدر عليه فقالت العرب ما أخسر صفقة طراد! باع أبيات الحي بثلاثة أبيات. وفي خطط المقريزي أن الهودج بقي متنزهاً للخلفاء الفاطميين بعد الآمر إلى أن خرب وجهل مكانه بالروضة.

قلنا ما أشبه الليلة بالبارحة فقد وقع لوالي مصر عباس باشا الكبير المتولي سنة 1264 مثل ما وقع للآمر في بدئه ونهايته فانه كان مشغوفاً بإحدى البدويات أيضا فتزوجها وأسكنها قصرا في ضاحية من القاهرة وصار يتردد عليه خفية ثم كانت نهاية أمره أنه قتل غيلة في قصره بينها سنة 1270. قتله مملوكان من الجركس بإغراء رجال الدولة العثمانية على ما قيل لأنهم آنسوا منه ميلا للخروج عن طاعتهم والاستقلال بمصر، وقد أدركنا الناس في مصر يلهجون بحديث البدوية ويروون فيه روايات شتى، وسمعنا العامة يلوكون أغنية قيلت في ذلك الزمن أولها (يا حالي ع البدوية) وقليل من أهل مصر الآن من يعرف هذا الخبر وهو من غريب ما يتفق وقوعه لملكين في مملكة واحدة.

القلعة الصالحة:

وفي أواخر الدولة الأيوبية بنى الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل محمد قلعته بهذه الجزيرة وأنشأ بها الدور والقصور وغرس الأشجار وبنى بها جامعاً وعمل لها ستين برجاً وأنفق عليها أموالاً جمة فعرفت بالقلعة الصالحية وبقلعة المقياس وبقلعة الروضة وبقلعة الجزيرة واحتاج بسببها إلى هدم أماكن كثيرة من دور وقصور ومساجد ليدخلها فيها وخرب الهودج والمختار، ويقال إنه قطع من الموضع الذي أنشأها فيه ألف نخلة مثمرة كان رطبها يهدى لملوك مصر لحسن منظره وطيب طعمه، ولما كملت جعلها مقر ملكه وسرير سلطانه وأسكن بها جنوده البحرية وشحنها بالأسلحة وآلات الحرب وما يحتاج إليه من الأقوات خشية محاصرة الإفرنج فانهم كانوا حينئذ عازمين على قصد البلاد المصرية. وكان سور هذه القلعة الشرقي مطلاً على فرع النيل الشرقي الذي بين الجزيرة ومصر وكان بها الإيوان الملكي العديم المثال، وفيها يقول ابن سعيد الأندلسي (وكنت أشق في بعض الليالي بالفسطاط على ساحلها فيزدهيني ضحك البدر في وجه النيل أمام سور هذه الجزيرة الدري اللون ولم أنفصل عن مصر حتى كمل سور هذه القلعة وفي داخله من الدور السلطانية. ما ارتفعت إليه همة بانيها وهو من اعظم السلاطين همة في البناء وأبصرت في هذه الجزيرة إيوانا لجلوسه لم تر عيني مثاله ولا أقدر ما أنفق عليه وفيه من صفائح الذهب والرخام الأبنوسي والكافوري والمجزع ما يذهل الأفكار ويستوقف الأبصار ويفضل عما أحاط به السور أرض طويلة وفي بعضها حاظر حظر به على أصناف الوحوش التي يتفرج عليها السلطان وبعدها مروج تنقطع فيها مياه النيل فينظر بها أحسن منظر، وقد تفرجت كثيراً في طرف هذه الجزيرة مما يلي بر القاهرة فقطعت فيه عشيات مذهبات، لم تزل لأحزان الغربة مذهبات) انتهى. واستيعاب ما قبل في محاسن هذه القلعة يطول ويخرج بنا عن المقصود.

ولما ملك المعز أيبك التركماني أول ملوك الدولة التركية البحرية أمر بهدم هذه القلعة ليعمر منها مدرسة المعزية واقتدى به ذوو الجاه فأخذوا كثيرا من سقوفها وشبابيكها وغيرها، ثم لما ملك الظاهر بيبرس البندقداري اهتم بإعادتها كما كانت فأصلح بعض ما تهدم منها، ولما تولى المنصور قلاوون نقل منها ما يحتاج إليه في بناء البيمارستان والقبة المنصورية، ثم نقل منها ابنه الناصر محمد ما احتاج إليه في أبنيته فدب إليها الخراب إلى أن ذهبت كأن لم تكن قال المقريزي وبقي من أبراجها عدة قد انقلب أكثرها وبنى الناس فوقها دورهم المطلة على النيل. قلنا أما موضعها بالروضة فقد صرح ابن اياس (ج 1 ص 83) أنها بنيت بالقرب من المقياس أي في الجهة الجنوبية للجزيرة، ونقل الإمام السيوطي في كوكب الروضة في كلامه على جامع الريس المعروف اليوم بزاوية البسطامي نصوصا من التوقيع الذي كتبه الملك المظفر بيبرس الجاشنكير لمنشئه يعلم منها أن هذا المسجد بني موضع برج الطراز أحد أبراج هذه القلعة. وقال ابن دقماق في انتصار بناه الرئيس صدقة على أول برج من أبراج قلعة الروضة. وذكر السيوطي أيضا في كلامه على جامع المقياس المعروف اليوم بجامع عبد الرحمن بن عوف أن الملك الصالح عمره بقلعة الروضة ونرى في المصور الملحق بهذه المقالة أن كلا المسجدين في في الجهة الجنوبية من الجزيرة. وقد ظهر لنا من هذا ومما استخلصناه من أقوال غيرهم من المؤرخين أن هذه القلعة كانت في الثلث الجنوبي للجزيرة آخذة من مقياس النيل في المواضع الشمالية منه إلى زاوية البسطامي الواقعة في موضع برج الطراز أول برج من أبراجها من الشمال وأنها كانت مطلة من الشرق والغرب على فرعي النيل الصغير والكبير، ومما يدل أيضا على إشرافها على النيل من الجانبين قول ابن سعيد الأندلسي في وصفها (وركبت مرة هذا النيل أيام الزيادة مع الصاحب محيي الدين بن ندا وزير الجزيرة وصعدنا إلى جهة الصعيد ثم انحدرنا واستقبلنا هذه الجزيرة وأبراجها تتلألأ والنيل قد انقسم عليها فقلت:

تأمل لحسن الصالحية إذ بدت ... وأبراجها مثل النجوم تلالا

وللقلعة الغراء كالبدر طالعا ... تفرج صدر الماء عنه هلالا

ووافي إليها النيل من بعد غيبة ... كما زار مشغوف يروم وصالا

وعانقها من فرط شوق لحسنها ... فمد يمينا نحوها وشمالا

فانه أبان بتشبيهه ماء النيل بالهلال عن استدارته بطرفها الجنوبي، ثم أبان عن امتداد في جانبيها بتشبيهه بمشوق يعانقها باليمين والشمال وإذا عرفنا ذلك وعرفنا فيما تقدم أن المختار والهودج كانا مطلين على النيل وأن الملك الصالح خربهما ليدخلهما في القلعة كسائر ما خربه من الأماكن، تبين لنا أنهما كانا في الجهة الجنوبية أيضا. والغالب على الظن أنهما كانا على الفرع الكبير للنيل الذي بين الجزيرة والجيزة أي في أحد المواضع الواقعة بين المقياس وجسر عباس لأن المختار أنشئ موضع الصناعة ويستبعد أن تكون الصناعة على الفرع الصغير الشرقي.

قصر نجم الدين:

ذكر الفرنسيس في كتابهم وصف مصر (ج15 ص 450و465) أنهم أدركوا زمن الاحتلال بقايا قصر بالمقياس ملاصق له من الشرق ومطل على الفرع الشرقي للنيل يعرف بقصر السلطان الملك الصالح نجم الدين ولم يكن باقياً منه وقتئذ غير قاعة كبيرة تتصل بها عدة أماكن أكثرها خرب، وهو بلا ريب من قصور القلعة الصلاحية، ولعل الذي حفظه من الدثور عناية الدول في كل جبل بالمقياس وأبنيته، ولكن يظهر لنا أن الذي أدركوه منه لم يكن من الأبنية الصلاحية القديمة بل كان مما جدده فيه السلطان الغوري من القاعات والمساكن. ومما يذكر عن هذا القصر نزول السلطان سليم العثماني به مدة مقامه بمصر فانه لما تم له فتحها وصفا له الوقت بعد قتل السلطان طومان باي استطاب السكنى بالروضة فانتقل إليها ونزل بالمقياس. قال ابن اياس في حوادث ربيع الثاني من سنة 923هـ (وفي يوم الاثنين سادسه أشيع أن ابن عثمان عدى إلى المقياس وكان في ذلك اليوم رياح عاصفة فكاد يغرق، فلما سلم من الغرق أقام بالمقياس ونقل وطاقه إلى الروضة ومصر العتيقة، ثم أن أمراءه طردوا السكان الذين بالروضة وبمصر العتيقة وسكنوا في دورهم فحصل للناس الضرر الشامل بسبب ذلك فأعجبه المقياس فأقام به مدة أيام). ثم إنه أنشأ منظرة من خشب فوق المقياس جعل إقامته بها وهي التي سماها ابن إياس بالقصر فقال عنها في حوادث جمادى الثانية من هذه السنة (وفيه أشيع أن السلطان سليم شاه أنشأ له قصراً من خشب بالمقياس من فوق القصر الذي أنشأه السلطان الغوري فوق بسطة المقياس وصار يجلس به في اليوم الحر وأحضر جماعة من النجارين والبنائين وشرع في بنائه حتى فرغ منه في أيسر مدة). قلنا وفي هذه المنظرة حاول (قانصه العادلي) أحد أمراء الجراكسة قتله انتقاما لطومان باي وقومه ذكر ذلك ابن زنبل الرمال في تاريخ فتح السلطان سليم لمصر فقال معبراً عن هذه المنظرة بالطيارة (فدبر في نفسه أن يلبس مثل العرب ويأخذ معه جماعة من أهل القوة وينزل إلى مركب ليلا ويسير بها تحت المقياس ويجعل له سلم تسليم ويصعد عليه وينزل إلى داخل المقياس ويقتل السلطان سليماً ويأخذ بثأر قومه وما علم أن الحي ما له قاتل ثم إنه فعل ذلك حتى وصل إلى الطيارة التي فوق المقياس وهي محل السلطان فوجد الحراس مستيقظين) الخ وعبر عنها الإسحاقي في تاريخه بالكشك متابعة للأتراك فقال (وكان مقام السلطان سليم بالروضة وبنى له كشكاً فوق قاعات المقياس وهو مشرف على بحر النيل والروضةوالمقياس، ولما رحل السلطان سليم منه أقفل ومنع من يجلس فيه حرمة لمولانا السلطان سليم). وروى قطب الدين الحنفي في تاريخ مكة المسمى بالاعلام أنه راى بيتين من الشعر كتبهما السلطان سليم بخطه على رخامة بهذا (الكوشك) مدة مقامه به فقال (ورأيت بيتين بالعربي بخطه الشريف كتبهما في علو المقياس في (الكوشك) الذي أمر ببنائه لما افتتح مصر وسكن الروضة وقد انمحى لطول الزمان مداده، ومال إلى لون البياض سواده، وكان هذا (الكوشك) محترما مقفلا لا يصل إليه أحد لعظمة بانيه، ولا يبتذل بالدخول إليه تعظيما لراعيه، فلما قدمت مصر في سنة 943 وكان يوم كسر النيل السعيد ففتحوا هذا الكوشك لبكلربكي) مصر يومئذ خسرو باشا وكنت مصاحبا لمعلمه مولانا عبد الكريم العجمي فطلع وأطلعني معه في صحبة خسرو باشا المذكور فرأيت مكتوبا على الرخام الأبيض كتابة خفية لا تكاد تظهر إلا بتأمل، هذين البيتين وهما

الملك لله من يظفر بنيل غني ... يردده قسراً ويضمن منه ما أدركا

لو كان لي أو لغيري قدر أنملة ... فوق التراب لكان الأمر مشتركا

وتحتهما ما صورته (كتبه سليم) بذلك الخط وذلك القلم ولعمري أن كان هذان البيتان من نظم المرحوم فهما غاية في البداعة، ونهاية التمكن من الصناعة، فيدل على تمكنه رحمه الله أيضا في اللسان العربي لأنهما من أعلى طبقات الشعر العربي الفصيح لبليغ المنسجم وإن كان قد تمثل بهما وهما لغيره فهذه أيضا مرتبة عالية في حسن التمثيل ولطف الاستحضار لفهم الأشعار العربية والذوق لها وهذا القدر يستكثر على علماء الروم وعلماء العجم المكبين على علوم العربية فضلا عن سلاطينهم المشغولين بضبط الممالك) انتهى. قلنا البيتان معروفان لأبي العلاء المعري في لزوم ما لا يلزم وصحة العجز في البيت الأول (يردده قسرا وتضمن نفسه الدركا)، وأما القصر وما يتبعه من الأبنية فلم يبق لها أثر ودخلت كلها في قصر حسن باشا المناسترلي وحديقته.

الجزيرة في حكم الأسرة المحمدية العلوية:

في زمن العزيز محمد علي أنشأ ولده العزيز إبراهيم في خرطوم الجزيرة الشمالي بستاناً كبيراً جلب له الأشجار الغريبة من البلاد البعيدة وبنى به منظرة عالية ومغارة مجللة بالودع، وقد أدركنا بقايا ذلك. وكان من مزايا هذا البستان احتواؤه على أنواع كثيرة من الأشجار والنباتات المحتاج إليها في الطب، ومن طالع كتاب المادة الطبية للرشيدي المسمى عمدة المحتاج يرى عجباً مما كان فيه من هذه الأنواع، وكان قصد العزيز إبراهيم رحمه الله الاستغناء بها عن جلب العقاقير من البلاد الإفرنجية بقدر المستطاع.

وقد أنشأ أمراء ذلك العصر وسراته القصور والبساتين الأنيقة بالجزيرة، وكان للخديو إسماعيل بن العزيز إبراهيم قصر بديع في وسطها على الشاطئ الشرقي تحيط به حديقة غناء ثم أهملت من بعدهم وهجرت فدب إليها الخراب وأدركناها جميعاً وهي خاوية على عروشها، وانحط شأن الجزيرة إلى أن أنشئت فيها الجسور الثلاثة: جسر محمد على، وجسر الملك الصالح بينها وبين مصر القديمة، وجسر عباس بينها وبين الجيزة، فعاد إليها الانتعاش وأقبل الناس على البناء بها فهدمت قصورها وبيعت أراضيها قطعاً وامتلأ الثلث الجنوبي بالدور الصغيرة والكبيرة ولكن على الطراز الإفرنجي الجديد وقطع ما كان بها من الشجر والنخل وحطمت عروش الكروم فعريت من الظلال وزالت عنها مسحة الملاحة القديمة بعد أن كانت ببساتينها وحقولها قرة للعيون وفرجة للمحزون.