مجلة الرسالة/العدد 30/أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس
→ الروضة | مجلة الرسالة - العدد 30 أبو عبد الله آخر ملوك الأندلس [[مؤلف:|]] |
أطلنطس القارة المفقودة! ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1934 |
للأستاذ محمد عبد الله عنان
- 1 -
مأساة شهيرة في التاريخ الإسلامي، هي مصرع غرناطة آخر معقل للإسلام بالأندلس، وشخصية محزنة هي شخصية آخر ملك أندلسي مسلم، طويت على يده تلك الصفحة المجيدة الباهرة التي افتتحها موسى وطارق في تاريخ الإسلام بإسبانيا قبل ذلك بثمانية قرون.
لبث الإسلام في إسبانيا خلال هذه القرون الثمانية يغالب النصرانية وتغالبه، والإسلام مذ انهار صرح الدولة الأموية دائم الخلاف والتفرق، سائر أبداً في طريق الضعف والانحلال؛ والنصرانية تجتمع دائماً على غزوه ونضاله، وتنتزع منه تباعاً قواعده وثغوره، حتى إذا جاء القرن الثامن لم يبق من دولة الإسلام الشامخة بالأندلس سوى مملكة غرناطة الصغيرة، تواجه وحدها داخل الجزيرة عدوها القوي. وسطعت هذه الأندلس الصغيرة مدى حين، ولكنها لم تنج من خطر التفرق؛ وإسبانيا النصرانية أثناء ذلك متربصة بها تكاد تلتهمها من وقت إلى آخر، لولا أن كانت صولة الإسلام في الضفة الأخرى من البحر - في المغرب الأقصى - تروعها وتردها. وكانت مملكة غرناطة كلما تبينت شبح الخطر الداهم تستغيث بجارتها المسلمة القوية فيما وراء البحر، دولة بني مرين. ولكن بني مرين لم يستجيبوا دائما إلى دعوة الإسلام المحتضر بالأندلس، وكانت لهم أحياناً مطامع ومشروعات في الأندلس ذاتها. وكانت إسبانيا النصرانية كلما استيقنت تصرم العلائق بين الشقيقتين انقضت على الأندلس فاقتطعت منها ثغراً أو قاعدة جديدة. وكان رجالات الأندلس يستشفون من وراء ذلك خطر الفناء المحقق، بل لقد استشعر به ابن الخطيب وزير الأندلس وكاتبها الكبير قبل تحققه بأكثر من قرن، وصرح به في إحدى رسائله إلى ملك فاس إذ يدعوه إلى غوث الأندلس ونجدتها ويقول: (ولاشك عند عاقل أنكم إن انحلت عروة تأميلكم أو أعرضتم عن ذلك الوطن استولت عليه يد عدوه) وهكذا نرى الأندلس منذ أوائل القرن التاسع الهجري تسير بسرعة في طريق الانحلال والفناء، حتى إذا كانت أواخر هذا القرن لم يبق للإسلام في إسبانيا سوى مملكة غرناطة الصغيرة وفيها مدن وثغور قلائل تتربص بها النصرانية وتعد العدة لسحقها.
وكان على عرش غرناظة يومئذ السلطان أبو الحسن علي بن سعد النصري الأحمري. ولي الملك سنة 871 هـ (1466م)، ولكنه لم يستخلص الملك لنفسه إلا بعد نضال عنيف بينه وبين منافسيه وعلى رأسهم أخوه أبو عبد الله المعروف (بالزغل). وكانت الحرب الأهلية تضطرم في مملكة غرناطة كلما لاحت فرصة للتنازع على العرش. فلما استقر أبو الحسن في عرشه، أبدى همة فائقة في تحصين المملكة وتنظيم شئونها، وبث فيها روحاً جديداً من البأس والطمأنينة، واستطاع أن يسترد عدة من الحصون والقواعد التي افتتحها النصارى، ولاح للنصرانية أن الأندلس المحتضرة تكاد تبدأ حياة جديدة. بيد أن هذا البعث الخلب لم يطل أمده. ذلك أن عوامل الخلاف الخالدة عادت تعمل عملها، وبذر أبو الحسن حوله بذور السخط والغضب بما ارتكبه في حق الأكابر والقادة من العسف والشدة، وبما أغرق فيه من صنوف اللهو والعبث. وكان أبو الحسن قد اقترن بالأميرة عائشة ابنة عمه السلطان أبي عبد الله الأيسر، ورزق منها ولدين هما محمد ويوسف. ولكنه عاد فاقترن بنصرانية رائعة الحسن تعرف في الرواية العربية (بثريا الرومية). وتقول الرواية الإسبانية أن (ثريا) هذه كانت ابنة عظيم من عظماء إسبانيا هو القائد (سانكو كمنيس دي سوليس) وأنها أخذت أسيرة في بعض المعارك وهي صبية فتية، وألحقت وصيفة بقصر الحمراء، فهام أبو الحسن بجمالها حباً، ولم يلبث أن تزوجها واصطفاها على زوجه الأميرة عائشة المعروفة (بالحرة) تمييزاً لها من الجارية الرومية أو إشادة بعفتها وطهرها ولم يكن اقتران السلطان بنصرانية بدعة، ولكنه تقليد قديم في قصور الأندلس، وقد ولد كثير من خلفاء الأندلس وأمرائها العظام من أمهات من النصارى مثل عبد الرحمن الناصر وحفيده هشام المؤيد. وكان لهذا التقليد أثره السيئ في انحلال عصبية الدولة الإسلامية، بيد أنه كان أشد خطرا وقت الانحلال العام. وكان وجود أميرة أجنبية في قصر غرناطة تستأثر بالسلطان والنفوذ في هذا الظرف العصيب، عاملا جديدا في إذكاء عوامل الخصومة والتنافس. ذلك لأن (ثريا) أعقبت من السلطان أبي الحسن ولدين، وأرادت أن يكون العرش لأحديهما، وبذلت كل ما استطاعت من الإغراء والدس لإبعاد خصيمتها الأميرة عائشة عن كل نفوذ وحظوة، وحرمان ولديها محمد ويوسف من كل حق في الملك، وكان أكبرهما محمد ولقبه أبو عبد الله ولي العهد المرشح للعرش، فنزل أبو الحسن عند سعي حظيته وأعصى عائشة وولديها عن عطفه ورعايته: ولا زالت ثريا في سعيها ودسها حتى اعتقلهم أبو الحسن في أحد أبراج الحمراء وضيق عليهم وأخذ يعاملهم بمنتهى الشدة والقسوة، فأثار هذا التصرف غضب كثير من الكبراء الذين يؤثرون الأميرة الشرعية وولديها بعطفهم وتأييدهم، وانقسم القصر وانقسم الزعماء والقادة إلى فريقين خصيمين، واضطرمت الأهواء والشهوات والأحقاد، واشتد السخط على أبي الحسن وحظيته التي أضحت سيدة غرناطة الحقيقية، واستأثرت بكل سلطة ونفوذ.
وكانت الأميرة عائشة امرأة وافرة العزم والشجاعة فلم تستسلم إلى قدرها الجائر، بل عمدت إلى الاتصال بعصبتها وأنصارها، وأخذت تدبر معهم وسائل الفرار والمقاومة. وفي ذات ليلة استطاعت أن تفر من الحمراء مع ولديها محمد ويوسف بمعاونة بعض الأصدقاء المخلصين. وتقدم الرواية إلينا عن هذا الفرار صورا شائقة، فتقول إن الأميرة استعانت بأغطية الفراش على الهبوط من نوافذ البرج الشاهق في جوف الليل، وأبدت في ذلك من الجرأة والشجاعة ما يخلق بأبطال الرجال. وكان ذلك في ليلة من ليالي جمادى الثانية سنة 887 هـ (1482م). واختفى الفارون حيناً حتى قويت دعوتهم وظاهرهم فريق كبير من أهل غرناطة، وظهر الأمير الفتى محمد أبو عبد الله في وادي آش حيث مجمع عصبته وأنصاره ونشبت الثورة وانقضت العاصفة على أبي الحسن، وكانت عصبته أقلية ففر إلى مالقة وكان بها وقتئذ أخوه الأمير أبو عبد الله محمد بن سعد (المعروف بالزغل) يدافع عنها جيشا جرارا من النصارى سيره ملك قشتالة (فرديناند الخامس) لافتتاحها. وجلس أبو عبد الله محمد بن السلطان أبي الحسن مكان أبيه على عرش غرناطة (أواخر سنة 887 هـ) وأطاعته غرناطة ووادي آش وأعمالهما وبقيت مالقة وغرب الأندلس على طاعة أبيه. وكان أبو عبد الله يومئذ فتى في نحو الخامسة والعشرين.
وكان ملك قشتالة يرقب سير الحوادث في مملكة غرناطة بمنتهى الاهتمام. فلما اضطرمت بنار الحرب الأهلية ولاحت له فرصة الغزو والفتح، سير جيشه إلى مالقة لافتتاحها ولكن المسلمين تأهبوا لرد النصارى بعزم وقوة وهزموهم في عدة مواقع فيما بين مالقة وبلش (فيليز وهزم النصارى في ظاهر مالقة هزيمة ساحقة وقتل وأسر منهم عدة آلاف بينهم عدة من الزعماء والأكابر (صفر 888 هـ - مارس 1483م) وكان منظم هذا الدفاع الباهر الأمير أبو عبد الله (الزغل) فانتعشت آمال المسلمين نوعاً وسرت الحماسة إلى غرناطة واعتزم ملكها الفتى أن يحذو حذو عمه الباسل في الجهاد والغزو وأن ينتهز فرصة اضطراب النصارى عقب الهزيمة، فخرج في قواته في ربيع الأول من هذا العام (أبريل 1483) متجهاً نحو حصن قرطبة شمال شرقي غرناطة؛ واجتاح في طريقه عدداً من الحصون والضياع، ومزق النصارى في عدة معارك محلية؛ ثم ارتد مثقلاً بالغنائم يريد العودة فأدركه النصارى في ظاهر قلعة اللشانة (لوتشينا وكان يزمع حصارها: ونشبت بين الجيشين معركة هائلة ارتد فيها المسلمون إلى ضفاف شنيل والنصارى في اثرهم، فهزم المسلمون هزيمة شديدة وغرق كثير منهم في شنيل. وقتل وأسر كثير من قادتهم وفرسانهم، وكان بين الأسرى السلطان أبو عبد الله محمد نفسه، عرفه الجند النصارى من الأسرى أو عرفهم بنفسه خشية الاعتداء عليه وأخذوه إلى قائدهم الكونت كابرا، فاستقبله بحفاوة وأدب وأنزله بأحد الحصون القريبة تحت رقابة حرس قوي) وأخطر في الحال ملكي قشتالة بالنبأ السعيد؛ وعاد المسلمون إلى غرناطة دون ملكهم، فارتاعت غرناطة للنكبة واضطرب الشعب؛ واجتمع الكبراء والقادة وقرروا استدعاء أبي الحسن السلطان المخلوع ليجلس على العرش، ولكن أبا الحسن كان قد هدمه الإعياء والمرض وفقد بصره ولم يستطع أن يضطلع طويلاً بأعباء الحكم، فنزل عن العرش لأخيه محمد أبي عبد الله (الزغل) حاكم مالقة وارتد إلى المنكب فأقام بها حينا حتى توفي، وجلس (الزغل) على العرش يدير شئون المملكة وينظم الدفاع عن أطرافها.
أما السلطان أبو عبد الله بن أبي الحسن فلبث يرسف في أسره عند النصارى وأدرك ملك قشتالة في الحال ما للأمير الأسير من الأهمية، وأخذ يدبر أفضل الوسائل للاستعانة به في تحقيق مآربه في مملكة غرناطة. وبذل أبو الحسن حين عوده إلى العرش مجهوداً لافتداء ولده لا حباً فيه وشفقة عليه، ولكن لكي يحصل في يده ويأمن بذلك شره ومنافسته، وعرض على فرديناند نظير تسليمه أن يدفع فدية كبيرة وأن يطلق عدداً من أكابر النصارى المأسورين عنده فأبى فرديناند وآثر أن يحتفظ بالأسير إلى حين، وبذلت الأميرة عائشة من جهة أخرى مجهوداً آخر لإنقاذ ولدها بمؤازرة الحزب الذي يناصره، واقترحت على ملك قشتالة معاهدة خلاصتها أن يتولى أبو عبد الله الملك في طاعة ملك قشتالة، وأن يدفع له جزية سنوية، وأن يطلق كل عام عدداً معيناُ من النصارى، وأن يدفع مقابل إطلاقه فدية كبيرة وأن يفرج في الحال عن أربعمائة من أسرى النصارى يختارهم ملكهم، وأن يقدم المعاونة العسكرية كلما طلبت اليه، وأن يقدم ابنه الوحيد كفالة مع عدد من أبناء الأسر الكبيرة ومع أن عقد هذه المعاهدة كان خطوة كبيرة في سبيل القضاء على مملكة غرناطة، فإن فرديناند رأى قبل عقدها أن يستغل أسر ملك غرناطة وأن يستعين به على تنفيذ برنامجه الحربي. وكان أبو عبد الله أميراً ضعيف العزم والإرادة، قليل الحزم والخبرة، كثير المطامع والاهواء، ولم يكن يتمتع بشيء من تلك الخلال الباهرة التي امتاز به أسلافه وأجداده العظام بنو الأحمر، وكان الملك والحكم غايته يبتغيها بأي الأثمان والوسائل. وقد ألفى ملك قشتالة القوي في ذلك الأمير الضعيف المستهتر بحقوق أمته ودينه، أداة صالحة يوجهها كيفما شاء، فاتخذه وسيلة لبث دعوته بين أنصاره ومؤيديه في غرناطة وغيرها، وليقنع المسلمين بأن الصلح مع ملك قشتالة خير وأبقى، وسير ملك قشتالة في الوقت نفسه قواته في أنحاء مملكة غرناطة لكي تنتزع أثناء الاضطراب العام كل ما يمكن انتزاعه من القواعد والحصون الإسلامية، فاستولت على عدة منها، ونشبت من جهة أخرى في غرناطة حرب أهلية لم تكن بعيدة عن وحي أبي عبد الله وحزبه، وقامت (البيازين) ضاحية غرناطة بدعوته، وشغل ملك غرناطة (أبو عبد الله الزغل) بإخماد الثورة عن مقاتلة النصارى. وفي نفس هذه الآونة العصيبة أطلق فرديناند سراح أبي عبد الله بعد أن ارتضى عقد المعاهدة التي عرضت عليه مع تعديل يسير في بعض نصوصها، وبعد لقاء تم بين الملكين في قرطبة أعلن فيه أبو عبد الله خضوعه وطاعته لملك قشتالة، واتفق أن تكون الهدنة لعامين وأن تطبق في جميع الأنحاء التي تدين بالطاعة لأبي عبد الله. وظهر أبو عبد الله يبث دعوته في الأنحاء الشرقية والحرب الأهلية قائمة في غرناطة (أوائل سنة 891هـ - 1486م) وبدأت المفاوضة بينه وبين عمه (ملك غرناطة) في الصلح. ولكن حدث أثناء ذلك أن هاجم النصارى مدينة لوشة جنوب غربي غرناطة واستولوا عليها (جمادى الأولى سنة 891هـ) وكان موقف أبي عبد الله ' ثناء هذه الحوادث مريباً؛ وكان يمزج الدعوة لنفسه بالدعوة لملك قشتالة، وشيد بمزايا الصلح المعقود معه، ولم يكن خافياً أنه يستظل بمظاهرة النصارى وفي شوال سنة 891 ظهر أبو عبد الله في (البيازين) فجأة واجتمع حوله أنصاره، وأعلن الثورة على عمه؛ ونشبت بينهما الحرب في ظاهر غرناطة، وأمد فرديناند حليفه أبا عبد الله بالجند والذخائر والمؤن. واستمر القتال بينهما مدى أشهر. وفي ربيع الثاني سنة 892 (1487م) سير فرديناند قواته إلى بلش مالقة (فيليز مالاجا) الواقعة على مقربة من ثغر مالقة ليفتتحها تمهيداً للاستيلاء على مالقة، وأدرك أبو عبد الله الزغل أهمية بلش الحربية فهرع إلى الدفاع عنها مع بعض قواته، وترك البعض الآخر لقتال أبي عبد الله وأهل البيازين ولكن إقدام الزغل وعزمه وشجاعته لم تغن شيئاً، وسقطت بلش في يد النصارى (جمادى الأولى 892 - أبريل 1487) وعاد الزغل بجنده ميمماً صوب غرناطة، ولكنه علم أثناء مسيره أن غرناطة قامت أثناء غيابه بدعوة أبي عبد الله، وأنه دخلها وتبوأ العرش مكانه (جمادى الأولى)، فارتد إلى وادي أش وامتنع بها، وانقسمت بذلك مملكة غرناطة الصغيرة إلى شطرين يتربص كل منهما بالآخر: غرناطة وأعمالها ويحكمها أبو عبد الله محمد، ووادي آش وأعمالها ويحكمها عمه أبو عبد الله الزغل، وتحقق بذلك ما كان يبتغيه ملك قشتالة من تمزيق شمل البقية الباقية من دولة الإسلام بالأندلس تمهيداً للقضاء عليها.
(للبحث بقية)