الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 297/مِن مذكرات عُمر بن أبي ربيعة

مجلة الرسالة/العدد 297/مِن مذكرات عُمر بن أبي ربيعة

مجلة الرسالة - العدد 297
مِن مذكرات عُمر بن أبي ربيعة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 03 - 1939


ذات النطاقين

للأستاذ محمود محمد شَاكر

(قال عمر بن أبي ربيعة بعَقِب حديثه):

. . . فوالله لقد جَهَدنا البلاء - يا أهل مكة - ولقد صبرنا على حصار الحجاج سبعة أشهر أو تزيد في غير حصن ولا منعة، وإنّ أحدَنا لُيرى وقد لحقت بَطْنُه بظهره من الجوع والطَّوَى، ولولا بركة تلك العين (يعني زمزم) لقضينا، وصدق رسول الله ﷺ (إنها مباركة، إنها طعامُ طُعمٍ) لقد أشبعنا ماؤها كأشد ما نشبع من الطعام، وما ندري ما يُفْعلُ بنا مُنذُ اليوم. فلقد خذَل (ابنَ الزُّبَير) أصحابه خذلاناً شديداً، وما من ساعةٍ تمضي حتى يخرج من أهل مكة من يخرج إلى الحجاج في طلب الأمان. ألا شاهتْ وجوه قوم زعموا أنْ سينصرونه، يحمون (البيت) أن يُلحَد فيه، ثم ينكشفون عنه انكشافةً كما تَتفرق هذه الحمامُ عن مَجْثمها على الرَوْع. . .

وخرجتُ، ومكة كأنها تحتَ السَّحَر خليَّة نحل مما يدوِّي في أرجاءها مِنْ صوتٍ داعٍ ومكِّبر وقارئ، وصَمدْت أريد المسجد فأسمع أّذان (سعد) مؤذِّنِ ابن الزبير فأصلي ركعتي الفجر، فيتقدم ابن الزبير فيصلي بنا أتَّم صلاة، ثم يستأذن الناس ممن بقي من أصحابه أن يُوَدّع أمه (أسماء بنت أبي بكر الصديق) فأنطلق وراءه وما أكادُ أراه مما أحتشدَ الناس في المسجد، وقد ماجوا وماجَ بهم يتذامرون ويحضّضُون ويُحرّضون، وزاحمت الناس بالمناكب أرجو ألا يَفوتني مشهد أسماء تستقبل ولَدها وتودِّعه ولقد تَعْلمُ أنه مقتول لا مَحَالة، فما أكاد أدركهُ إلا وقد انصرف من دارها يريد المسجد، وإذا امرأة ضَخْمة عجوز عمياء طُوالة كأنْ سرْحةٌ في ثيابها، قد أمسكت بعُضادتي الباب تصرف وجهها إليه حيثما انتقل، فوالله لكأنها تثبتُه وتُبصره، وقد برَقت أسرَّةُ وجهها تحت الليل برق العارِض المتهلل، ثم تنادي بأرفع صوت وأحنِّه وألينه، قد اجتمعت فيه قوة إيمانها وحنينُ قلِبها: (يا عبد الله! يا بُني، إني أُمك التي حملتك، وإني احتسبتك فلا تهن ولا تجزع. يا بني ابذل مُهجة نفسك، ولا تَبعد إلا من النار. . . يا عبد الله! لا تبعد إلا من النار، أستودعك الله يا بُني!) ثم تدور لتلج الدار فكأنها شِراعٌ قد طُو رحمة الله عليكم يا آل أبي بكر، لأنتم أصلبُ الناس أعوادا وألينهم قلوباً. وأحسن الله عزاءك يا ذاتَ النطاقين، فلقد تجملتِ بالصبر حتى لقد أُنسيت أنك أمٌّ يجزع قلبها أن يَهلكَ عليها ولدُها فيتقطع عليه حَشاها

وانصرفتُ عنها بهمِّي أَسعَى، فوالله ما رأيت كاليوم أَكسَبَ لعجب وأجَد لُحزنٍ من أُّمٍ ثكلى يحيا ظاهرُها كأنه سراجٌ يَزَهرُ، ويموتُ باطنها كأنه ذُبالَةٌ توشكُ أن تنطفئ، وذهبتُ ألتمسُ الوُجوهَ وأحزانها، فما أّرَى وُجُوَمها وقُطُوَبها وانكِسَارَها وزَهَقَها وصُفرَتها إلا ذلةَ النفس وخضوعَها واستكانتها وضعفَها وعلَّتها، وأن المؤمِنَ حين يحضُرُه الهُّم أَشعَثَ أغبرَ يَردُّه إيمانُه - حين يؤمن - أبلجَ يتوقَّد، ليكون البُرْهانَ على أنَّ الإيمانَ صيْقلُ الحياةِ الدُّنيا، يَنْفي خَبَثَها ويجلو صَدَأَها، فإما رِكَبها من ذلك شيءٌ، عادَ عليها يُحَادثها ويصقُلها حتى يتركها بيضاءَ نقيَّة. . .

وما بلغتُ المسجدَ حتى رأيت ابن ذاتِ النِّطاقين قائما بين الناس كأنه عمودٌ من طُوِلهِ واجتماعه ووثاقَة بنائِه؛ وحضَرْته وهو يقول: (أيها الناس، عجِّلوا الوقِاع، ولا يرعكُمْ وَقْع السيوف، وصونوا سيوفكم كما تصونون وجوهكم، فلينظرْ رجُلٌ كيف يضرب، لا تخطئوا مضاربكم فتكسِروها، فإن الرجُلَ إذا ذهب سلاحُه كان أعزَل أعضبَ يأخذ أخذاً كما تؤخذ المرأة. ليَشغَلْ كلّ امرئٍ قِرنه، ولا يلهينكم السؤالُ عني: أين عبد الله بن الزبير؟ ألا مَنْ كان ساءلاً عني فإني في الرَّعيل الأول). . . ثم يدفَعُ في صدور أهل الشام دفعة عند باب بني شيبة كأنه صاعقةٌ، وكأنه أسدٌ في أَجَمةٌ، ويحيصُ أصحابُ الحجاج حيصة في منازلهم من الُّرعب، فلقد رأيتُه يقفُ ما يدنو منه أحدٌ، حتى ظننتُ أنه لا يُقتَلُ، حتى إذا كان بين الركن والمقام رُمي بحجرٍ فأصاب وجْههُ فبلغ منه حتى دَمِى، وسال دَمُه على لحيته، وأُرعشَتْ يدُه. . . وغَشيَهُ أصحابُ الحجّاج من كلّ ناحية وتغاوَوْا عليه، وهو يقاتلهم جَاثِماً أشدَّ قتال حتى قُتِل

وا رحمتا لك يا بنتَ أبي بكر!! أيُّ كبدٍ هي أشدُّ لوعةً من كبدِكِ! لقد والله رُحمت رحمةً إذ كفَّ الله منك البصر، لئن لم تكوني تجزعين لموته، لقد كنتِ جزعتِ لما مثَّلُوا به وحزُّوا رأسهُ، ورفعوه على خشبة مُتكَّساً مَصلوباً. . .

وما كدْتُ حتى أقبلتْ أسماء بين يديها كفنٌ قد أعدَّته ودَخَّنتْهُ، والناسُ ينفرجون عن طريقِها في أعينهم البكاء، وفي قلوبهم الُحزْنُ والرُّعب، قد انتُسفت وجوههم كأنما نُشروا من قُبورهم لساعتهم، وسكنت الأوصالُ، وجالت الأحداقُ في مَحاجرها وكأنها هَّمت تخرُج، وتمشي أسماء صامدة إلى الخشبة صمداً وكأنها ترى أبنها المصلوب، وكأنها تستروِح رائحةَ دَمِهِ، حتى إذا بَلَغَتْهُ - وقد وجم الناس وتعلقت بها أبصارهُمْ ورجفت بهم قُلوبُهم - وقفتْ، وقد وجدت رائحة المسك تحت ظِلاله فقالت: (يا بُنيَّ طبتَ حيًّا وميّتا، ولا والله ما أجزعُ لفِراقك يا عبد الله، فمن يَكُ قُتِلَ على باطل فقد قتلتَ على حق، والله لأثنين عليك بعلمي: لقد قتلوك يا بني مسلماً محرماً ظمآن الهواجر مصلياً في ليلك ونهارك)

ثم أقبلت وجهها السماء ومدت بيديها تدعو: (اللهم إني قد سلمته لأمرك فيه ورضيت بما قضيت له، فأثبني في عبد الله ثواب الشاكرين الصابرين. اللهم أرحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك النحيب، وبره بأبيه وبي)

ووجم الناس وجمةً واحدة، وخشعوا خشعةً لكأن السماء والأرض صارتا رتقاً فما يتنفس من تنفس إلا من تحت الهم والجهد والبلاء. وكأن مكة بيت قد غلقت عليه أبوابه لا ينفذ إليه أحد ولا يبرحه أحد. وكأن الناس قد نزعت أرواحهم وقامت أبدانهم وشخصت أبصارهم، وبدت أسماء بينهم وكأن وجهها سراج قد نص على سارية، لا يزال يزهر ويتلألأ، ثم تتلفت كأنما تتطلع في وجوه هذه الأبدان الخوالد، وأضاء ثغرها عن ابتسامة. والله لقد بلغت من العمر وما سقطت لها سن، ومازال ثغرها ترف غروبه ثم قالت: (يا بني، لشد ما أحببتم الحياة وآثرتم دنياكم، فخذلتم أخاكم، وفررتم عن مثل مصرعه. يا بني يغفر الله لكم، وجزاكم الله عن صاحبكم خيراً)

وأطرقت أسماء إطراقةً ثم رفعت رأسها تومئ إلى الخشبة فوالله لقد رعدت فرائصي حتى تَزَايلتْ أوْصالي، وصَرَّ الناس كأنما تقصفت أصلابهم، وإذا هي تقول: (ألا من مبلغ الحجاج أن المُثْلَة سبة للحي وما تضر الميت. ألا من يبلغ الحجاج عني أن الشاة إذا ذبحت لم تألم السلخ)

وحامت أسماء وطافت بين الناس وبين هذه الخشبة ساكنةً صابرةً، لا يرى إلا بريق وجهها يومض كأنه سيف صَقِيل، ثم طفقت تردد (يا بني، أما آن لهذا الراكب أن ينزل؟ أما آن لهذا الراكب أن ينزل! يا بني ليستأذن أحدكم حَجَّاَجكُم هذا أن يدفع ألي هذه العظام. أدوا عني؛ يرحم الله من أدى عني)

فيجيء الرسول من قبل الحجاج يأبى عليها أن تدفع إليها عظام أبنها المصلوب ويجيء على أثره موكلون قد وكلهم بجثته يقومون عليها يحرسونها، كأنما خشي أن يحيا ميت قد حز رأسه أن تمسَّهُ يَدُ أُمِّه. فوالله لقد سمعتْ أسماء وخُبَّرتْ فما زادت على أن وَلَّتْ عنهم كما جاءت ما تقطر من عينيها قطرةُ دَمْع، وما تُجاوز قوِماً إلا جاوزتهم كأنهم فُسطاطٌ يتقوَّض، حتى ولجتْ بابَها وغلَّقَته عليها

وانطلقتُ أنفضُ الناس بعينيَّ، فرأيتُ أخي الحارث (ابن عبد الله بن أبي ربيعة) وابن أبي عتيق (هو عبد الله بن محمد عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) ما في وجهيهما رائحة دم من الحزن والفرقِ. فقلت: ما هذا أوان جزع؛ انطلقوا بنا - يرحمكم الله - إلى دارها نواسيها ونترفقُ لها، فوالله لقد تخوَّفتُ أن يذهبَ بها الحزن عليه، وإنه لفالقٌ كبدَها ما لقيته. ويطرق الباب ابن أبي عتيق. فيجيبُ الصوت من داخل: قد أسمعتَ فمهْ. فيقول: أنا ابن أبي عتيق يا أمَّاه. ويؤذن لنا فندخل دارها تجف قلوبنا من الروع والرّهبة، ونأخذ مجلسنا عند بنت أبي بكر الصديق خليفة رسول الله (ص) وزوج حواريِّه عليه السلام، وكأن قد تركنا الدُّنيا وراءنا وأقبلنا على الآخرة.

استضحكت أسماء حتى بدت نواجذُها وقالت: (مرحباً بكم يا بَنيّ، جئتم من خلل الناس تعزُّون أُمكم في عبد الله. يرحم الله أخاكمُ لقد كان صوًّاماً قوًّاماً ما علمتُ. وكان ابن أبيه الزُّبير أوّلِ رجل سلّ سيفه في الله، وكان أشبه الناس بأبي بكر

يا بَنيّ، والله لقد حملتُه على عُسْرَة، والمسلمون يومئذ قليلٌ مستضعفون في الأرض يخافون أن يتخَّطفَهُم الناس، ولقَدْ سعيت به جنيناً بين بيت أبي بكر وغار ثور بأسفل مكة في هجرة رسول الله صلى لله عليه وسلم وصاحبه أبي بكر رضي الله عنه آتيهما تحت الليل بما يصلحهما من الطعام؛ ويسكنُ الطلبُ عن رسول الله ﷺ، فأتيتهما بسفرتهما وسقائهما ونسيت أن أتخذَ لهما عِصاماً؛ فلما ارتحلا ذهبتُ أُعلِّق السُّفرة فإذا ليس لها عِصامٌ، فوالله ما أجدُ ما أعلقهما به، ووالله ما أجدُ إلاّ نطاقي وأناُ حُبلى مُتِمٌّ. فيقول أبو بكر: يا أسماء شُقِّيه باثنين؛ فأشقه فأربط بواحد منهما السقاء وبالآخر السفرة؛ فلذلك ما سمّاني رسول الله ﷺ (ذات النِّطاقبن) يعني في الجنة. وأعود بعد الله يرتكض في أحشائي، قد احتسبتُ نِطاقي في سبيل الله؛ فوالله ما أجدني احتسبتُ بنيّ عبدَ الله اليوم إلا كما احتسبت نطاقي ذاكم. وأعود إلى دار أبي بكر ويأتي نفرٌ من قريش فيهم أبو جهلٍ فوقفوا ببابها، فأخرج إليهم فيقولون: أين أبوك يا بنت أبي بكرٍ؟ فأقول: لا أدري والله أين أبي؛ فيرفع أبو جهل يده - وكان فاحشاً خبيثاً - فيلطم خدَّي لطمة يطرح منها قُرطي، فتُغول بي الأرض الفضاء، فوالله لما لقيتُ من حَجّاجكم هذا أهونُ عندي مما لقيتُ من لطمة أبي جهل وأنا بعبد الله حامِلٌ مُتِمُّ. يا بَنيّ إني آخر المهاجرين والمهاجراتِ، لم يبقَ على ظهرِها بعدَ عبد الله منهم غيري؛ فلا والله ما حَسَنٌ أن يَجزَعَ من هاجَر - وإنّ شأن الهجرة لشديدٌ - وما حَسنٌ أن يجزع من شهد المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه، وكيف وقد أربيت على المائة؟

يا بني جزاكم لله عني وعن أخيكم خيراً، قوموا لشأنكم وذروني وشأني يرحمكم الله)

وودَّعنا وانصرفنا، ولا والله ما نجدُ لأسماء في الرجال ضريباً، فأين في النساء؟ ولكنها كانت تصبر صبر المهاجرين الأولين على الجهد والبلاء

وما كان صُبح خامسة من مقتل ولَدها حتى استجابت لدعوة ربّها رضي الله عنها وأرضاها، وهي أمٌّ حنَّت تكتم حنينها، ولكأنه عجَّل بها موته فقطع نياطها وصدع فؤادها، وفلق كبدها عليه حنينها إليه. . . . . .

محمود محمد شاكر