الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 297/دارٌ مُؤمنةُ

مجلة الرسالة/العدد 297/دارٌ مُؤمنةُ

بتاريخ: 13 - 03 - 1939


للأَستاذ محمد سعيد العريان

(ضلّت البشريةُ إن كان هذا مَبلغَها من العلم بالله!)

همس بها (زيدٌ) في أذن صحابته فالتفتوا إليه مذعورين يسألونه الصمت والحذر!

هذه بطون قريش جميعاً في عيد لهم عند صنم من أصنام الجاهلية مُلَبِّين ضارعين يعظّمونه وينحرون له عاكفين عليه. ذلك شأنهم في كل عيد. .

وأولئك أربعة نفر من قريش قد اجتمعوا لغير ما اجتمع آباؤهم وأبناؤهم واخوتهم من سائر قريش، ينظرون إلى القوم ضجيجهم حافين حول المعبود الأخرس لا يتكلمون، وعلى شفاههم بسمات، وفي أعينهم نظرات يخافتون بها، وفي صدورهم رغبات مكبوتة، لو تَأَتَّى لهم لأهْوَوْا على هذا المعبود فكُّبوه على وجههُ جذاذاً محّطما!

وانتبذ الأصدقاء الأربعة ناحيةً يتناجون في همس، وإن المكان ليضجّ بمن فيه بين داعٍ ومُلَبّ وسائل ومستغفر. وعاد الرجل يقول لصاحبه:

(أما والله إنكم لتعلمون ما قومكم على شيء؛ لقد أخطئوا دين أبيهم إبراهيم. ما حَجَرٌ نُطيف به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع؟ يا قوم التمسوا لأنفسكم فإنكم والله ما أنتم على شيء!)

ويؤِّمن صاحبته على ما يقول

ذلك زيد بن عمرو بن نفيل، من بني عدي بن كعب؛ وأولئك أصحابه: ورقة بن نوفل، وعبيد الله بن جحش، وعثمان ابن الحارث.

أربعة نفر أضاء الله لهم على حين غفلة وضلال، فسبقوا قومهم إلى التوحيد والإيمان بالله؛ وجلسوا يداولون الرأي بينهم، فأجمعوا أمرهم على أن يتفرقوا في البلدان يسألون أهلَ العلم ما يعملون عن دين إبراهيم. . .

وأقام زيد بن عمرو بمكة زماناً، معتزلاً قوَمه وما يعبدون من دين الله؛ لا يؤاكلهم ولا يشاربهم، ولا يخشى أن يباديهم بالعيب على ما هم فيه، وحرمّ على نفسه ما أحُّلوا لأنفسهم من الميتة والدم وما ذُبح على النُّصب.

وعرف القرشيون ما أجمع عليه أمره، فاعتزلوه وخَّلوا بينه وبين نفسه، لكنه لم يخلِّ بينه وبين أنفسهم؛ فإنه ليقصد إلى البيت فيسند ظهره إلى الكعبة يقول: (يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وإنكم لتعبدون ما لا يغني عنكم من الله شيئاً. يا معاشر قريش، إنكم لتأتون المنكر، وتقارفون الشر، وتئدون البنت، وتكفرون النعمة. يا معاشر قريش، أيُّما رجلٍ منكم هم أن يقتل ابنته خشية إملاق فأنا أكفيه مئونّتها. يا معاشر قريش. . . يا معاشر قريش. . .)

فإذا فرغ من دعوته وجّه وجهه لله يقول: (لبّيك حقاً حقا، تعُّبداً ورِقًّا، عُذْتُ بما عاذ به إبراهيم. اللهم لو أني أعلم أيّ الوجوه أحب إليك عبدتُك به، ولكني لا أعلمه. . .) ثم يسجد على راحته ويقول:

أنفى لك اللهَّم عان راغمُ ... مهما تجشِّمني فإني جاشمُ

ولم يزل زيد على ذلك: يذكّر قومه ويعيب عليهم ما يعبدون، حتى ضاقوا به؛ فأجمعوا على نكايته وترّبصوا به الشر؛ ثم مازال به عمه (الخطّاب بن نفيل) يؤذيه وينال منه حتى أجاءه إلى (حراء) لائذاً بالله مستجيراً؛ فوكل به الخطاب شباباً من سفهاء قريش يأخذون عليه الطريق وينالونه بما يكره إن هَمَّ أن يعود إلى مكة، خشية أن يُفسد عليهم دينهم ويتأثره بنوهم. وكانت زوجه فيمن كان من عيون الخطاب عليه، لا يكاد زيد يهم أن يدخل مكة حتى تُؤذِن به الخطابَ فيقف له؛ ثم يتناوله السفهاء من شبابهم بما يقدرون عليه حتى يعود على وجهه!

رجل فرد في وجه أمة، قد برئ منه أهله، وتمردت عليه زوجه، وتذامر سفهاء الإنس وشياطين الجن على مناهضته والوقوف له؛ ولكنه من قوة الإيمان بحيث يغالب ما لا غلبة عليه!

وأيّ قوة في الأرض تنال من الرجل يعمر قلبه الإيمان؟

. . . وأرادوه على أن يلزم مكمنه من الجبل لا يبرح، لا هابطاً إلى الكعبة يسبح الله في البيت الحرام، ولا مُصعداً يلتمس أسباب المعرفة في بلاد الله؛ ولكن صوتاً من وراء الغيب يهتف به، ونوراً يتنوره على بعد يضيء بين يديه، وإيماناً يعمر قلبه يذلِّل ما يتكاءده من عقبات على الطريق.

كان يؤمن إيماناً لا شك فيه أن للكون رباً غير ما يعبد الخطاب وبطون قريش؛ هو رب إبراهيم وموسى؛ فمنذا يهديه الطريق إليه؟

. . . ووجد زيد غفلة من حراسه فأفلت يقصد قصده، متنقلاً بين الموصل والجزيرة إلى بلاد الشام، يسأل عن دين إبراهيم ويبتغيه

ومضى تتقاذفه البلاد يستطلع أنباءه بين أحبار اليهود ورهبان النصارى؛ فما منهم إلا من يبشره بنبي قد أظلّ زمانه، يبعثه الله بدين إبراهيم في أرض حجاز!

يا ناقُ سيري عّنَقاً فسِيحاً إن نبياً قد أظلَّ زمانه يبعثه الله بالهدى ودين الحق في أرض الحجاز. يا ناقُ هذا سبيلك إلى الوطن النائي يجمع شملك بالأحباب من آل عديّ بن كعب في أرض الهدى والسلام. يا ناقُ هذا فجر يوشك أن ينبثق بالنور فسِيري بي إليه أقبس من نوره نوراً لقلبي وسلاماً لروحي. يا ناقُ هذا يومُك المأمول تبرق شمسه في حواشي الأفق فأبلغيني مأملي قبل الغداة.

ذلك زيد بن عمر بن نفيل في طريقه إلى مكة يسعى نوره بين يديه إلى أمل يرجوه، فإنه ليحدو بعيره مغتبطاً جذلان أن يعود إلى وطنه ومرتع صباه فيظفر باُلحسْنَيَين من لقاء الأهل والولد وصحبة النبي القرشي الذي أظلَّ زمانه؛ وإنه ليغذُّ السير وفي نفسه شوق ولهفة، وعلى لسانه تسبيح ودعاء!

وانطوى الطريق تحت أخفاف البعير الذي أنضاه السرى وجهد السفر، فلما صار على قرب قريب من أرض الحجاز وأوشك أن ينعم بلقائه الأهل والولد ورؤية النبي الذي قطع مفازة الحياة سعياً إلى لقاه - عَدَا عليه من عدا أهل السبيل فصرعه قبل أن يبلغ حيث يريد، فإنه ليقول وهو يلفظ أنفاسه: (اللهم إني أُشهدك أني على دين إبراهيم!) يرحمك الله يا أبا سعيد!

. . . وأشرق الصبح على أرض الحجاز، وفاض النور من غار حراء يغمر بطحاء مكة ويسيل سيل العرم فيمحوا الظلمات ويدخل منه في كل دار قبس يضيء. وداعبتْ أشعةُ الصبح الضاحك نافذةَ الدار التي آوتْ زيد بن عمر بن نفيل عُمْراً من عمره، ثم هجرها ساعياً إلى الله يبتغي الوسيلة إلى دين الحق، فكان ولده سعيد بن زيد وزوجه فاطمة بنت الخطاب - من السابقين الأولين في الإسلام!

وعاد نور والإشراق إلى الدار التي يُعْزَى إليها أولُ مذكر بدين إبراهيم على حين غفلة وضلال. وكان إيمان سعيد واستجابته لدعوة الحق امتداداً لدعوة أبيه في الجاهلية وصفحةً مشرقة من التاريخ تنضمّ إلى صفحات!

ثم دار الفلك دورة، وإذا فتى عارمٌ من فتيان قريش يدخل دار سعيد متوشحاً سيفه، وفي عينيه شرٌّ وعلى لسانه وعيد، فما إن رآه سعيد وزوجه حتى سكت القرآنُ وخَفَتَ الصوت وانكمش بعضٌ في بعض؛ وأوشكت أن تنقض صاعقة تزلزل أركان الدار المؤمنة. . .

يا عجبا! ما بال هذا الفتى قد نسي ما جاءَ له وَرَقَّ بعد عُرام وعنف؟ هل كان يقصد إلا هذا الفتى العربيَّ وزوجَه، أن ينالهما بأشد الأذى على ما صَبَآ وفارقا دين قومهما؟

هاهو ذا في موقفه منهما خاشع الطرف يتلو من صحيفة في يده:

(بسم الله الرحمن الرحيم. طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتشْقَى. إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى. تَنْزيِلاً مِمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّموَاتِ الْعُلَى. . .)

فما يكاد يفرغ من تلاوته حتى يلتفت إلى خَتَنِه سعيد وأختِه فاطمة بنت الخطاب يقول:

(دُلاَّني على محمد حتى آتيه فأسلم!)

ذلك عمر بن الخطاب وتلك دار سعيد بن زيد بن عمرو؛ دخلها دخول الفاتك المتقحم لا تهدأ نفسه إلا أن يريق دما؛ فما احتوته الدار حتى كان عمرُ غيرَ عمر!

إن في بعض الأمكنة لَسرّاً يهمس، ونجوى تخافت؛ وإن في هذا الدار. . .!

وجلس سعيد بن زيد بن عمر بن نفيل، وعمر بن الخطاب ابن نفيل، مجلسهما إلى رسول الله غدوة، فقالا: (يا رسول الله استغفر لزيد بن عمرو!)

قال رسول الله ﷺ: (نعم، فإنه يبعث أمةً وحده!)

رحمة الله عليه

محمد سعيد العريان