مجلة الرسالة/العدد 297/من الفتوة العربية
→ عمر في بيت المقدس | مجلة الرسالة - العدد 297 من الفتوة العربية [[مؤلف:|]] |
المرأة في شباب الرسول ← |
بتاريخ: 13 - 03 - 1939 |
الشاعر الفارس
أبو محجن الثقفي
للأستاذ أحمد حسن الزيات
- 1 -
كانت (المدينة) يومئذ عاصمة الإسلام، وعمر الجبار العادل يحمل بيده القوية مَشعل محمد فيرسل أضواءه السماوية إلى الجهات الأربع، والفرسان المسلمون في القادسية يَثُلُّون العرش المجوسي ليقيموا على قواعده الكسروية منبر الهدى والسلام. وكانت الجزيرة العربية لا تزال معلقة بين السماء والأرض، ترفعها الروحية الإسلامية إلى أعلى، وتجذبها المادية الجاهلية إلى أسفل. وكانت مدن الحجاز الثلاثُ: مكُة والمدينة والطائفُ مظهرَ الفتوة العربية، لأنها مجمع السيادة والقوة، ومنبع الرفاهة والثروة. والفتوة العربية وإن جمعت أطراف المروءة كانت تدور على ثلاثة الشاعر الشاب طَرفَة، وهي الحب والشرب والحرب، ثم تصوير كل أولئك بالشعر الغنائي الرقيق. ولم تستطع هوادة الإسلام ولا صرامة عمر أن تكفكفا نوازي الهوى في نفوس نشأت على فتون الجهالة ومرَح الشّرك؛ فكان في أبطح مكة، وعقيق المدينة، وغزوانِ الطائف (مساحبُ من جَرَّ الزَّقاق على الثُرى) لا تزال معطرة الأديم بمناجاة الحب، ومطارحة الشعر، ومناقلة الحديث. وكان وادي العقيق في العاصمة المنورة قلما يفيض دون أن تنتظم على حواشيهِ الخضر مجالس الشراب وسوامر الأحباب يتساقون في غفلة العيون كؤوس الراح والصبابة؛ ولكنهم ما كانوا يستطيعون أن يغيبوا عن عيون العَس ولا أن يفلتوا من يد الخليفة مهما تستروا بالليل وتحصنوا بالبعد
في صبوة من هذه الصبوات الليلية الجاهلية قبض العسس العُمَري على الشاعر الفارس أبي محجن وهو عائد في نداماه من العقيق يتماوَح من السكر وينشد في تطريب وهِزَّة:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة ... تُرَوَّي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت ألا أذوقه وأبو محجن - إن كنت لا تعرفه - رجل من سروات ثقيف، درج في رياض الطائف وكرومه، ونشأ على فتوة أهله وصبوة شبابه؛ فهو رضيع كأس، وتِبعُ نساء، ومِسْعر حرب، وصناجة شعر، وصِنو مروءة. أسلم هو قومه في أُخريات الناس حين لم يكن من الإسلام بد، ودخل في دين الله بما ورث وكسب من عادِ الجاهلية، فأخذ يروضُ نفسه الصعبة على الوقوف عند حدود الله، فكان يخفق مراراً وينجح مرة، حتى أقنعه اليأس آخر الأمر أن لا بأس من الشراب مادام يطهره الحد، وأن لا َضْير من الحب مادامت تمحصه التوبة!
على ذلك عشق (شموس) الأنصارية وركب إلى رؤيتها المحظورة شيطانه المحتال، فتزيا بزي فلاح وعمل أجبراً في بستان يطل على دارها، فكان ينعم بالنظر والسمع، وربما تمتع بالسلام والحديث، ثم يعود فيسلسل الماء بين البقول والزهور ويتغنى بمثل قوله:
ولقد نظرت إلى شموس ودونها ... حرَجُ من الرحمن غير قليل
وعلى ذلك أيضاً كان يتتبع هو ونداماه رياض الأرض، يشربون ويطربون ثم يرجعون إلى المدينة نشاوى من القصف والعزف فلا تنم عليهم عين ولا يشي بهم لسان، حتى وَلي الخلافة الفاروق فطارد الجريمة في كل مكان، وهاجم الرذيلة في كل مكمن
- 2 -
دخل العسس بأبي محجن وندمائه على عمر، فسألهم:
- أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله؟
فأجابه لسان القوم أبو محجن:
- كيف حرمها الله يا أمير المؤمنين وهو يقول: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طمعوا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات؟
فوقف صاحب رسالة القضاء من حجة الشاعر موقف الحائر؛ ثم التفت من حوله من صحابة الرسول يستمد رأيهم في الأمر فاختلفوا فيه. فأرسل إلى علي مرجع الفتوى وفيصل الحكم يستشيره، فقال: (أن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يستحلوا الميتة والدم ولحم الخنزير. وأرى إن كان قد شربوا الخمر مستحلين أن يقتلوا، وإن كانوا شربوها مستحرمين إن يُحدُّوا. فسألهم عمر، فقالوا: والله ما شككنا في أنها حرام، ولكنا قَدَّرنا أن لنا فيما قال نجاة. فجعل يجلدهم رجلاً رجلاً حتى انتهى إلى أبي محجن، فلما جلده جعل يقول: وإني لذو صبر وقد مات اخوتي ... ولست عن الصهباء يوماً بصابر
رماها أمير المؤمنين بحتفها ... فخلانها يبكون حول المعاصر
فقال له عمر: قد أبديت ما في نفسك، ولأزيدنك عقوبة لإصرارك. فقال الأمام عليّ حجة القضاء وولي العدل:
- ما ذلك لك يا عمر. وما يجوز أن تعاقب رجلاً قال لأفعلن وهو لم يفعل. وقد قال الله في الشعراء: وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فقال عمر: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات. فقال علي: أهؤلاء عندك منهم؟ لقد سمعت الرسول (ص) يقول: لا يشرب الخمر شارُبها وهو مؤمن.
نجا أبو محجن وما نجا. فأنه أصر على ألا يترك الخمر مخافة العقوبة، وأصر عمر على أن يجلده كلما شرب، حتى أعيا الخليفة أمره وأعجزه صلاحه، فقرر أن ينفيه إلى جزيرة كان ينفي فيها الخلعاء، ووكل به شُرَطياً يصحبه إلى المنفى وأوصاه أي يدع معه السيف فإنه كميُّ فاتك. وعلم أبو محجن بالحكم والوصية، فتزود بغرارتين ملئتا دقيقاً، ثم عمد إلى سيفه فجعل نصله في غرارة، وغمده في غرارة. فلما بلغ هو والشرطي ساحل البحر قعدا للغداء، وفتح الغرارة يوهم أنه يخرج الدقيق ولكنه أخرج السيف! فلم يكد الشرطي يراه في يده حتى انطلق يعدو إلى بعيره فنجا به إلى المدينة بعد لأي.
وقال الشاعر لنفسه بعد تفكير وتدبير وعزم: لا ينبغي أن يكون المفر من عمر في الحجاز إلا إلى سعد في العراق
- 3 -
وفد أبو محجن على فاتح العراق سعد بن أبي وقاص يوم الكتائب من أيام القادسية؛ وكان سعد قد تلقى من أمير المؤمنين الساهر اليقظ كتاباً يأمره فيه بحبس الشاعر ساعة يفد. ودارت رحى الحرب بين العرب والفرس وأبو محجن مقيد في قصر القائد، فما كاد يسمع وغاها حتى عصفت النخوة في رأسه، وثارت الحمية في نفسه، واضطرب في حبسه اضطراب الأسد في قفصه. ثم زأر بهذه الأبيات على مسمع من سلمى زوج سعد:
كفى حزَناً أن تطعن الخيلُ بالقنا ... وأُتركَ مشدوداً عليَّ وثاقيا
إذا قمت عنَّاني الحديد وغُلَّقت ... مصاريع من دوني تُصم المناديا هلم سلاحي لا أبالك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
ولله عهدُ لا أخيس بعهده ... لئن فرجت ألا أزور الحوانيا
ثم قال يا سلمى: هل لك من خيرٍ إلي؟ فقالت: وما ذاك؟ قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء فرس سعد، ولله عليّ إن سلمتُ أن أرجع حتى تضعي رجليَّ في القيد. فترددت سلمى حتى تبينت الصدق في قوله فأطلقته. وركب أبو محجن البلقاء ثم دب عليها؛ حتى إذا تنفس الصبح وأشرق يوم أرماث واصطف الناس، حمل على ميسرة العدو حملة صادقة فانخلعت لها القلوب، وانخرعت منها الفيَلة، وتضعضت أمامها الفرس. وعجب العرب أن يكون فيهم هذا الفارس ولا يعرفونه، حتى قال أحدهم: إن كان الحضر يشهد الحرب فهو صاحب البلقاء. وقال آخر: لولا أن الملائكة لا يقاتلون ظاهرين لقلنا هذا ملك. وجعل سعد يقول وهو يشرف على المعركة: الطعن طعن أبي محجن، والضبْر ضبر البلقاء، ولولا محبسه لقلت إنه هو!
وانتصف الليل فتحاجز العسكران؛ وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر ووضع رجليه في القيد!
وكانت سلمى قد رأت فعله وسمعت قوله فأعجبت بإبائه ووفائه وبطولته. ثم دخلت على سعد وكانت مغاضبة له، فصالحته وأخبرته بخبر أبي محجن، وسألته أن يطلقه. فأستخف سعداً ما رأى من فتوة أبي محجن ورضا زوجه، فدعاه وقال له وهو لا يزال في حماسة الإعجاب ونشوة الغبطة: والله لا أحبس بعد اليوم رجلاً نصر الله المسلمين على يده هذا النصر، ولا أعاقبه إذا شرب. فقال له أبو محجن وقد بدت على محياه سِماتُ النبل ودلائل المروءة:
- وأنا والله لن أذوقها بعد الساعة. لقد كنت أشربها أنفةً من أن يقول خاف الحد، فأنا اليوم أتركها رغبة في أن يقولوا خاف الله!
أحمد حسن الزيات