مجلة الرسالة/العدد 297/المرأة في شباب الرسول
→ من الفتوة العربية | مجلة الرسالة - العدد 297 المرأة في شباب الرسول [[مؤلف:|]] |
أعظم يوم في تاريخ العالم ← |
بتاريخ: 13 - 03 - 1939 |
للأستاذ توفيق الحكيم
لم يرو لنا التاريخ أن النبي عرف امرأة أو تحرك قلبه لامرأة قبل خديجة. فلقد كانت حياته حتى الخامسة والعشرين حياة الشاب الهادئ البعيد عن النساء، العاكف على عمله، يرعى الغنم في الفلاة ويلجأ إلى التأمل العميق. فلم يكن للهو والمرأة حتى ذلك الوقت مكان من اهتمامه أو تفكيره. كل ما ورد مع ذلك من أخبار لهو الشباب أنه قال ذات ليلة لفتى من قريش كان معه بأعلى مكة يرعيان غنم أهلها: (أبصر لي غنمي حتى أسمر هذه الليلة بمكة كما يسمر الفتيان). ثم خرج. فلما جاء أدنى دار من دور مكة سمع غناء وصوت دفوف ومزامير، فجلس يلهو بذلك الصوت حتى غلبه النعاس فنام في مكانه ولم يوقظه إلا مس الشمس. فرجع إلى صاحبه فسأله: (ما فعلت؟) فأخبره بما كان. وكان هذا شأنه في كل ليلة من مثل هذه الليالي
كانت العفة المطلقة إذن هي صفته الغالبة؛ وكانت الزهد والحلم والصبر والتواضع ما ميزه عن بقية الشبان، وما جعل قومه يسمونه (الأمين).
ما الذي كان يشغل رأس الشاب محمد في تلك السن مادام اللهو والمرأة لا محل لهما عنده؟ أتراه كان يحس في قرارة نفسه بمصيره العظيم؟ نعم.
ولعل هذه الفكرة تملكت كيانه وطغت على كل شبابه فلم تتسع حياته في ذلك الوقت لشيء آخر.
لقد كان هذا دائماً شأن أغلب أولئك الذين انتظرتهم أقدار عظام، وتملكتهم منذ شبابهم مثل عليا وأحلام، عمرت كل أعوام شبابهم وحلت فيها محل اللهو والمرح.
إن كل شاب يعيش مع شبح امرأة جميلة إلا الشاب الموعود برسالة عظمى فهو يعيش دائماً مع شبح المجد المنتظر.
لعل هذا يفسر لنا بعض الشيء حياة الفتى محمد حتى الوقت الذي لقي فيه أول امرأة أحبها (خديجة). وإنّا لو تأملنا الأمر ملياً لتبين لنا أنه لم يكن البادئ بالحب. كل شيء يدل على أن الزواج لم يخطر له على بال، والزوجة والمرأة آخر ما كان يفكر فيه وقتئذ، فلقد كان يسير في طريق تأملاته الداخلية وأحلامه العليا، وكأنه لا يمشي على هذه الأرض إلى أن لحظته خديجة ذات يوم ولمست كتفه فأفاق قليلاً ورفع عينيه إليها.
نعم. إنها هي التي كانت ترقبه منذ زمن؛ وأن لشعورها نحوه جذوراً ممتدة في أغوار قلبها، امتداد عرق الذهب في المنجم العميق. ما مبدأ هذا الشعور؟ لعله ذلك اليوم الذي احتفلت فيه نساء قريش بعيد لهن، وكانت خديجة بينهن عند وثن من الأوثان فبرز لهن أحد اليهود ونادى بأعلى صوته: يا نساء تيماء! إنه سيكون في بلدكن نبي يقالا له محمد، فأيما امرأة استطاعت أن تكون له زوجاً فلتفعل!) فقذفته النساء بالحجارة وقبحنه وأغلظن له، إلا خديجة فأنها أطرقت وكأن شيئاً وقع في نفسها من كلامه.
ثم حدث بعد ذلك أن خديجة - وقد كانت ذات مال كثير وتجارة تبعث بها إلى الشام وتستأجر من أجلها الرجال - أرسلت الشاب (محمداً) في تجارتها وضاعفت له الأجر وأرسلت معه غلامها ميسرة، فعاد رابحاً ضعف ما كان تربح التجارة على يد غيره، لأمانته واجتهاده
وقص عليها عندئذ غلامها (ميسرة) وقد راقب محمداً في رحلته ما رآه من خلق هذا الشاب المستقيم الأمين، ولعله أخبرها فيما أخبر أن أحد الرهبان قابله، وأنهما تذاكرا ملياً في أمر النبي الموعود المسمى (محمد) كل هذا مع ما تشبعت به الأذهان من أساطير النبوة المنتظرة قد ألقى في روع خديجة أنها أمام شاب لا يبعد أن يكون هو النبي الموعود.
فإذا أضفنا إلى كل هذا أن محمداً كان فتى في الخامسة والعشرين كريم الخلق جميل المنظر، وأن خديجة كانت امرأة في الأربعين، أدركنا أن مثلها كان لابد له أن يحب مثله. وهل يمكن أن يسمى هذا الشعور باسم آخر غير (الحب)؟ ذلك الذي يدفع امرأة ذات شرف وثروة أن تبدأ هي الخطوة الأولى نحو فتى فقير يتيم؟ هي التي قد تقدم إليها أكرم رجال قريش نسباً وأعظمهم شرفاً وأكثرهم مالاً، طلبوها وبذلوا لها الأموال فلم تلفت إليهم، وأرسلت تابعتها (نفيسة) دسيساً إلى الشاب محمد تعرض عليه يدها
منبع الحب إذن كان قلب (خديجة)، ولقد كان هذا الحب سامياً قوياً عظيماً فاستطاع أن يفتح قلب محمد وأن يملأه كل تلك الأعوام التي عاشتها خديجة، بل إن الحب لم ينطفئ بموت خديجة، ولقد ظل مكانها من قلبه قائماً دائماً لم تستطع قط امرأة أن تزاحمها فيه.
هذا هو حب محمد الأول، وتلك ناحية من نواحي الفضل المجهولة لم يذكرها الناس كثيراً لخديجة بما هي أهله من التكريم والتمجيد.
توفيق الحكيم