مجلة الرسالة/العدد 297/محمد الأديب الأعظم
→ حالة العرب الاجتماعية في عصر الدولة الأموية | مجلة الرسالة - العدد 297 محمد الأديب الأعظم [[مؤلف:|]] |
المُروءة مصادرٌ مَطويَة ← |
بتاريخ: 13 - 03 - 1939 |
لَلأستاذ دريني خشبة
لا أدري لماذا يشفق الكتاب أن ينعتوا النبي الكريم بالأديب العظيم؟! هل في ذلك سبة أو فيه حط من قدره ﷺ؟ وإذا لم يكن الرجل الذي أُوحي إليه بهذا القرآن أديباً فماذا يكون الأديب؟
لقد ترك النبي فينا كتاب الله وسنّة النبوة، وفيها جوامع الكلم التي لم يؤتها إلا هو. ولقد علم بهذين ما لم يعلم فيلسوف بفلسفته، ولا أديب بأدبه، ولا نبي بما أرسل به. . . أسلوب مُعجز، ومعنى مُعجز، واتفاق بين الأسلوب والمعنى معجز، وغرض يشمل كل الكائنات معجز، وحياة هي البطولة المعجزة. . . وأمية لا تعرف القراءة والكتابة يسبح القُراء والكتاب في بحر لجي من قرآنها وحديثها. . . علماً وأدباً ولغةً وبياناً وهدىً وتشريعاً وأخلاقاً. . . فماذا يصنع الأدب غير ذاك؟ الأديب يترك أثره في حيز محدود من بيئته، لأيام معدودات من زمنه، ويكون بعد ذلك رجعاً كرجع الصدى في تضاعيف ذكرياته، حيث يكون شعراً في ديوان، أو قصة يلتذ بقراءتها أفراد، أو درامة يستمتع بشهودها ملأ من الناس، ثم ينصرفون فلا تكون لها في أذهانهم إلا صورة أو فكرة قد تدفعهم إلى فضيلة أو تنهاهم عن رذيلة. . . فماذا ترك الأديب الأعظم محمد بن عبد الله من هذا وذاك؟! أستغفر الله بل ترك أدباً حيًّا يتغلغل في نفوس الملايين من الناس لملايين من الأجيال حتى تقوم الساعة. يحضهم على الخير، وينهاهم عن المنكر، ويستهويهم بصور رائعة من أدبه الحق الذي نسميه الأدب الواقعي يُشرب قلوبهم المحبة الخيّرة النّيرة، ويعمرها بالسلام القائم الدائم، ويعلمهم الإنسانية، ويحبب إليهم الإخاء، ويروضهم على المساواة. . . إلا فيما رفع الله به الناس بعضهم فوق بعض درجات
قد يقول قائل إن هذه الدعوى من باب إقحام الدين في الأدب والأدب في الدين. . لأن الدين هو الذي صنع كل هذا. . ونحن نقول إن الدين هو الذي صنع كل هذا حقاً ولكنه صنعه بأسلحة شتى ووسائل متفاوتة، وقد كان أمضى هذه الأسلحة، وأشرف تلك الوسائل. . هو الأدب. . فالرسول الكريم كان حلو الكلام أغر البيان طليّ المقاطع، ذا قدرة عجيبة في تنسيق حجته، والتدقيق في عبارته، في غير كلفة ولا صنعة حتى وهو في مواقف الخطابة. . ولم يحفظ الأثر أنه حصر مرة أو أرتج عليه، أو التاث عليه القول، لا على المنبر، ولا في حلقة الدرس، بل كان يتدفق ويشقق الحديث إذا اقتضى الموقف الإطناب، ويقتصر على العظة الصغيرة بلفظها، الكبيرة بفحواها إذا لم يقتض الحال غير ذلك
ثم هاهم أولاء الأنبياء جميعاً. . . فمن منهم تحدى قومه بقوة البيان وصوغ الكلام وإعجاز الأسلوب؟! وما ذلك كله إن لم يكن أدباً؟ وماذا يكون صاحبه إن لم يكن سيد الأدباء؟! إن الله الذي يَسّر القرآن بلسان محمد قد تحدى الناس أن يأتوا بشيء مثله، فما استطاعوا؛ وما يزال التحدي قائماً، ولسوف يعجز البشر جميعاً عن أن يجيئوا بشيء مثل القرآن. . . والقرآن وحي الله، وقد يسره الله بلسان نبيه، والقرآن تشريع ليس فيه جفاف القانون الوضعي، وقصص من النسق الإلهي الذي لا يتملق الغرائز بالفتنة في الحياة الدنيا بل يسمو بها إلى لذائذ الحياة العليا؛ ثم عظة بالغة، ودعوة إلى الحق، ودستور للناس لا يعتوره نقص ولا تشويه شائبة
هل الأدب قصة أو درامة فحسب؟! إن كان هذا فقد قص النبي أحسن القصص وأقواه وأكثره حلاوة وطلاوة، وأشده روعة وتأثيراً. . . وأي قصص أشهى وأحلى وألذ مما يسر الله بلسان نبيه في آدم ونوح وإبراهيم وموسى ويعقوب ويوسف ويونس وهود ولوط وعيسى من أنبياء الله؟!
أم يقولون أنها أخبار مروية فيما يؤمنون أنها الكتب المقدسة التي أنزل الله من قبل؟! ونقول أجل. . . ولكن أين هي هذه الكتب التي أنزل الله؟ أباقية هي على ما أنزل الله لم يعتورها تغيير ولا تبديل؟ ألم تشحنها أقلام الرواة والنُّسَّاخ بما طاب لهم وبما ندّت به أقلامهم؟. . . أحقَّا قد زنى داود؟ أحقَّا قد وقع جميع الأنبياء في الخطيئة؟ لقد جاء القرآن مصدقاً لما بين يديه من التوراة والإنجيل مما لم تبدله قرائح البشر، فبرّأ الأنبياء مما أُخذوا به باطلاً من الدنس، ثم روى أخبارهم بلسان صدقَ عِليّ وبأروع بيان وأدق أسلوب، ثم حدّث النبي بما يشبه أن يكون تعليقاً وشرحاً وتفسيراً فجاء بكل معجب وكل مطرب. . . ثم حدّث بالأحاديث القدسية العالية التي مسرحها السماء وملهمها لله القدير، فأي درامات الكتاب والشعراء روع مما تحدث به النبي؟ وأي حديث زخرفه قلم شاعر أو ناثر أو روائي يسمو إلى الحق الذي تنزل به جبريل على فؤاد محمد وما حدّث به محمد من تخاصم أهل النار وتحدث أهل الجنة، والواقفين على الأعراف، والولدان المخلدين، والكواعب الأتراب، ومخاطبة العزيز اللطيف لمن فاز من عباده، وغيظ الكافرين وما يقع بينهم وبين إبليس من شحناء وموجدتهم على الشياطين والنار تؤزهم. . .؟
هذا هو القصص الحق الذي لم تبهرجه يراعة مؤلف، ولم يختلقه خيال روائي. وهذا هو قصص الله الذي خلق الإنسان علمه البيان. . . الله الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. . . الله الذي أرسل للناس نبياً عربياً من الأميين، فقضى أن تكون أمية عجيبةُ معجزة تفهم كل شيء وتعي كل شيء، وتبهر المتعلمين والدارسين بما لا يستطيعونه ولا يقدرون على مثله أو بعضه. . . أمية أعدها الله لهذا الأمر العظيم إعداداً لا تقوى جامعاتنا الحديثة على شيء مثله. . . أمية أبوتها في بني هاشم، وخئولتها في بني زهرة، ورضاعها في سعد بن بكر، ونشأتها في قريش، وزواجها في بني أسد، وهجرتها إلى الأوس والخزرج. فانظر كيف تقلبت في القبائل فتمرست بها، ووعت لغاها، ووقفت على أسرار بيانها، فلما بعثها الله لهذا الأمر لم تضق ذرعاً بأحد، ولم تضق فهماً بلسان أحد، بل كانت تكلم كلاً بلسانه، وترد على كل بلهجته. بل هي قبل أن يبعثها الله لتبليغ رسالته كانت تحب الأدب وتشغف به، فكانت تتردد على الأسواق تصغي إلى الشعراء الخطباء، وتحفظ من الخطب ولا ترى حرجاً في أن تروي منها.
علل أحد البصربين أمية الرسول الكريم: فقال: (إن الله إنما جعل نبيه أمياً لا يكتب ولا يحسب ولا ينسب ولا يقرض الشعر، ولا يتكلف الخطابة، ولا يتعمد البلاغة لينفرد الله بتعليمه الفقه وأحكام الشريعة، ويقصره على معرفة مصالح الدين دون ما تتباهى به العرب من قيافة الأثر، وعيافة الطير، ومن العلم بالأنواء وبالخيل، وبالأنساب وبالأخبار، وتكلف قول الأشعار، ليكون إذا جاء القرآن الحكيم، وتكلم بالكلام العجيب، كان ذلك أدل على أنه من الله. . . وزعم أن الله لم يمنعه معرفة آدابهم وأخبارهم وأشعارهم ليكون أنقص حظاً من الحاسب والكاتب، ومن الخطيب والناسب، ولكن ليجعله نبياً، وليتولى أمر تعليمه بما هو أزكى وأنمى، فإنما نقصه ليزيده، ومنعه ليعطيه، وحجبه عن القليل ليجلي له الكثير. . .)
وقد تولى شيخ أدباء العرب أبو عثمان الجاحظ (البيان ج1 ص230) نقض هذا الكلام فقال: (وقد أخطأ هذا الشيخ ولم يرد إلا الخير، وقال بمبلغ علمه ومنتهى رأيه، ولو زعم أن أداة الحساب والكتابة، وأداة قريض الشعر وجمع النسب قد كانت فيه تامة وافرة مجتمعة كاملة، ولكنه ﷺ صرف تلك القوى وتلك الاستطاعة إلى ما هو أزكى بالنبوة وأشبه بمرتبة الرسالة، وكان إذا أحتاج إلى البلاغة كان أبلغ البلغاء، وإذا أحتاج إلى الخطابة كان أخطب الخطباء، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، ولو كان في ظاهره والمعروف من شأنه أنه كاتب حاسب، وشاعر ناسب، ومتفرس قائف، ثم أعطاه الله برهانات الرسالة وعلامات النبوة، لما كان ذلك مانعاً من وجوب تصديقه، ولزوم طاعته، والانقياد لأمره، على سخطهم ورضاهم، ومكروههم ومحبوبهم؛ ولكنه أراد ألا يكون للشاعر متعلق عما دعا إليه، حتى لا يكون دون المعرفة بحقه حجاب وإن رق، وليكون ذلك أخف في المؤنة، وأسهل في المحنة، فلذلك صرف نفسه عن الأمور التي كانوا يتكلفونها ويتنافسون فيها، فلما طال هجرانه لقريض الشعر وروايته صار لسانه لا ينطق به، والعادة توأم الطبيعة، فأما في غير ذلك فإنه إذا شاء كان أنطق من كل منطيق، وأنسب من كل ناسب، وأقوف من كل قائف، وكانت آلته أوفر، وأداته أكمل. . . إلا أنها كانت مصروفة إلى ما هو أبعد. . . وبين أن يضيف إليه العادة الحسنة، وامتناع الشيء عليه من طول الهجران له فرق. . . ومن العجب أن صاحب هذه المقالة لم يره في حال معجزة قط، بل لم يره إلا وهو إن أطال الكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر القول أتى على غاية كل خطيب، وما عدم منه إلا الخط وإقامة الشعر. . . الخ)
فالجاحظ هنا يحامي عن معرفة النبي لآداب العرب - وهو ما يعنينا - وعن إلمامه بما كان فخر قومه ومحل نبوغهم. . . ولما كان أعز ما يفتخر به العرب هو البيان فإنه لم يمنع النبي مانع إذا أراد البلاغة أن يكون أبلغ البلغاء، وإذا أراد الخطابة أن يكون أخطب الخطباء، وإنه أن أطال لكلام قصر عنه كل مطيل، وإن قصر لقول أتى على غاية كل خطيب. . .)
وهذا دفاع مجيد من شيخ الأدباء العرب عن النبي الأديب الأعظم في معرض ما فهم أحد علماء البصرة من أمِّية محمد ﷺ، وهو دفاع رجل كان يهب حياته للأدب، وكان يعنى بأدب الرسول خاصة، وكان يصف كلامه فيقول: (هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونُزّه عن التكلف، وكان كما قال الله تبارك وتعالى قل يا محمد: (وما أنا من المتكلفين) فكيف وقد عاب التشديق، وجانب أصحاب التقعير، واستعمل المبسوط في موضع البسط، والمقصور في موضع القصر، وهجر الغريب الوحشي، ورغب عن الهجين السوقي فلم ينطق إلا عن ميراث حكمة، ولم يتكلم إلا بكلام قد حُفّ بالعصمة، وشُيّد بالتأييد، ويسر بالتوفيق
(وهذا الكلام الذي ألقى الله المحبة عليه، وغشّاه بالقبول، وجمع له بين المهابة والحلاوة، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام، ومع استغنائه عن إعادته، وقلة حاجة السامع إلى معادوته، لم تسقط له كلمة، ولا زلت له قدم، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصم، ولا أفحمه خطيب، بل يبذ الخطب الطوال بالكلام القصير، ولا يلتمس إسكات الخصم إلا بما يعرفه الخصم، ولا يحتج إلا بالصدق ولا يطلب الفَلج إلا بالحق، ولا يستعين بالخلابة، ولا يستعمل المواربة، ولا يهمز ولا يلمز، ولا يُبطئ ولا يعجل، ولا يسهب ولا يحصر. ثم لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً، ولا أصدق لفظاً، ولا أعدل وزناً، ولا أجمل مذهباً، ولا أكرم مطلباً، ولا أحسن موقعاً، ولا أسهل مخرجاً، ولا أفصح عن معناه، ولا أبين في فحواه، من كلامه ﷺ كثيراً. . .)
والذي وصف به الجاحظ كلام الرسول قول حق، وهو كان يفضل به كلامه ﷺ على كل كلام العرب، أما نحن فنجعل حكم الجاحظ أعم وأشمل. فليس في كلام أحد من الفرنجة قاطبة كلام يشبه كلام الرسول فيما رسمه الجاحظ. . . وقد يقول قارئ غير مسلم: (كاتب مسلم متحمس للرسول فهو لا يستطيع أن يقول غير هذا!) كلا والله. . . فلقد قرأت ودرست أدب الأقدمين شعراً ونثرا وخطبا؛ ولقد قرأت ودرست أدب النهضة في جميع الممالك الأوربية؛ ولقد قرأت ودرست ووازنت بين أدباء عصر بركليس وأدباء عصر إليصابات، وأدباء عصر لويس، وأدباء القيصرية الروسية، فلا والله ما وجدت أجدهم يرتفع إلى أدب الرسول ولا يحكيه غزارة ورقة وازدحاما بالمعاني وشمولا للأغراض. وهذه هي خطب ديموستين في التبغيض في الأرستقراطية والتبشير بالديمقراطية. . . أين هي من هذه المساواة العجيبة التي أقامها محمد بين هذه الملايين بقوله: إنه لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟ بل أين هذا الخطيب الوضيع المرتشي الذي يقول بلسانه ما ليس في قلبه، والذي فر من مواطنيه اليونانيين حتى إذا لاحقوه وضيقوا عليه عمد إلى السم ليضع حداً لمهزلة حياته الفياضة بالمخازي؟ أين هذا الخطيب الذي يحفظ الأثر خُطبه كأنها المثل الأعلى للخطابة من الرسول الكريم الذي لم يكن ينطق عن الهوى، والذي ألف بخطبه بين أشد القلوب عنجهية وأفدحها جاهلية وأكثرها عصبية، فخلق منها أمة تعبد رباً واحداً بعد أرباب، وتنتشر من الصحراء بمصابيح الهداية فتملأ المشرقين والمغربين نوراً وهداية وحكمة وعرفاناً؟
ثم خطيب الرومان شيشرون! هذا الرجل الذي فضح مارك أنطوان بخطبه الرنانة. . ماذا ترك لخير الإنسانية من كل ما كتب وخطب؟ لقد كان محامياً مدرهاً، فهل كسب للإنسانية قضية كهذه القضية لتي كسبها لها محمد بن عبد لله؟ لقد كتب في القانون والفلسفة والأخلاق، فهل حل معضلاتها المعقدة كما حلها محمد بن عبد الله النبي الأمي؟ ولقد حفظ لنا الأثر كثيرً من خطبه ومقالاته، فهل فيها ما يرتفع إلى بيان محمد وبلاغة محمد؟ هل استطاع أن يضع للرومان دستوراً يحمي الجمهورية ويحول دون قيم الإمبراطورية كهذا الدستور الذي أوحي به إلى محمد، والذي يَسَّره الله بلسان محمد؟
ثم هذا دانتي. . . هذا الكاثوليكي القح. . . الذي يرفعه مؤرخو الأدب إلى ذروة المجد بما بهرج في الكوميديا الإلهية؟ ماذا جاء به من السحر في هذه المنظومة؟ لقد أثبتنا بما نشرناه في (الرسالة) أن كل شيء رائع في هذه القصيدة ليس من صنع دانتي، بل هو مما سرق دانتي من أخيلة القرآن وبيان الأحاديث في وصف الجنة ووصف الجحيم، وذلك بما أنتشر من ثقافة القرآن وثقافة الأحاديث بعد الحروب الصليبية وقبلها عن طريق الأندلس وعن طريق صقلية إلى فرنسا ثم إيطاليا
ثم هذا ملتون. . . فأين ما جاء في فردوسه من الحرب بين الشيطان وبين المسيح وأجناد المسيح مما جاء في القرآن والحديث من تحاور بين الله العلي وبين إبليس، وبين إبليس وبين ملئه الذين أغواهم فأدخلهم النار ثم تبرأ منهم وهو يرسف معهم في سواء الجحيم؟!
ثم هذا جون بَنْينْ! فماذا جاء به في (رحلة الحاج) مما ليس له مثل بل أمثال تبذه وتزري به في أدب محمد النبي الأمي؟
وهذا بيكون الأديب النائب العام والكاتب الأخلاقي الفيلسوف المرتشي الذي لم يرع لذي فضل عليه فضله ولم يكن عنده من الوفاء ما يجزي به ذوي الأيادي الغر عليه، ماذا كتب في فصوله في الأخلاق مما لم يسبقه إليه الرسول الأعظم؟
والأدباء العظام في عصر لويس الرابع عشر: بيير كورنيل وديكارت وموليير وراسين ولافونتين، إننا نقولها كلمة حق لا تصدر عن حماسة فحسب، بل عن تروية ويقين: إن المُثل الرائعة التي زاد بها هؤلاء في تراث الفكر الإنساني والثقافة الإنسانية هي قل من كثر مما ضاعف به النبي هذا التراث، ونحن نقول المثل لأن النبي لم يكن ضحاكاً كموليير ولا فيلسوفاً كديكارت ولا مؤلف درامات كراسين، بيد أنه مع ذاك أنشأ للإنسانية مثُلاً أسمى مما أنشأ هؤلاء، وأنشأها كلها عن طريق الأدب
والأدباء الذين مهدوا للثورة الفرنسية. . . فولتير وديدرو وبومارشيه ورسو. . . هل أنشئوا ثورة كهذه الثورة التي أنشأها محمد بن عبد الله وقام بها وحده؟! وأين هي الثورة الفرنسية التي انتهكت فيها الحريات باسم الحرية، وخضعت فيها الكرامات والشرائع لجنون الشعب وعربدة النساء ولوثة الأوشاب من تلك الثورة العظيمة في سبيل الحق وخير الإنسانية وانتشال العقل من براثن الأغوال الحجرية التي كان يعبدها الناس. . . هبل ويغوث ويعوق ونسر واللات والعزى وضمار؟! أي الثورتين كانت أروع وأيهما كانت أعود بالخير على الناس وعلى الأفهام؟!
لقد كتب روسو إنجيل الثورة، فهل رسم فيه ما رسم القرآن للناس أجمعين في كل العصور؟! وهل كاتب إنجيل الثورة كهذا الوحي لذي يسره الله بلسان محرر؟!
ثم هؤلاء منشئو الأدب الألماني: جوته صاحب فاوست، وشيللر صاحب وليم تل، ولسنج مؤلف لاوكون، وهم الذين أعدوا الذهن الألماني إعداده الذي غبر عليه قرن ونصف قرن، الإعداد الذي لا يعرف شيئاً وهو المثل الأعلى غير القوة والغَلْب، هل جعلوا ألمانيا تقهر العالم في أقل من عشر سنين كما جعل محمد أمته تصنع ذلك؟ وإذا قدر لألمانيا أن تصنع ذلك، فهل كانت تنشر الأمن والطمأنينة والعلم والنور ودين الحق بالسلام كما نشر العرب ذلك جميعاً في ربوع العالم؟ أم أنها كانت تستعبد الناس وتذلهم وتقول لهم أنتم ساميون وحاميون. . . و. . . آريون. . . أما نحن فآريون نورديّون؟! في حين يقول محمد للناس: (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى!!) أم أدباء روسيا: لرمنتوف وجوجول وتولوستوي ودستوفسكي وترجنيف وبوشكين وجوركي؟! ماذا أسلف هؤلاء جميعاً؟! لقد مهدوا بأدبهم الباكي المتوجع البائس الفقير الغارق في الدموع لهذه الشيوعية المخربة التي تستبد بالناس وتسومهم الخسف وتهدم مساجدهم وكنائسهم وبيعهم وتبيح نساءهم باسم لدولة. . . فكأنهم تخلصوا من راسبوتين ليقعوا في براثن ستالين!!
وبعد. . . فنحن لا نحصي أدباء العالم هنا لنوازن بين ما انتهى إليه أدبهم وبين ما انتهى إليه أدب الرسول الكريم. . . ونحن لا نقص من الآداب الرائعة التي لها قيمتها ولها أثرها لنرفع أدب نبينا بغير حق، بل نحن نقارن بين مُثُل ومُثُل ونوازن بين خير كثير أصاب الإنسانية على يد رجل واحد وخير كثير أصابها على أيدي كثيرين، وشتان بين الأدبين
أما ن يقول أحد إن الأدب هو القصة، فلقد قص الرسول أحسن القصص وأروعه، في أحسن عبارة وأقوى أسلوب. . . وأما أن يقول أحد إن الأدب هو الشعر، فما كان محمد شاعراً، ولم ينبغ له أن يكون شاعراً، ومع ذاك فقد يَسر الله بلسانه في القرآن من المعاني والأوصاف والأمثال والتشريع والحكمة وجمال الأداء، وإعجاز التراكيب، ما لم يتيسر لشاعر من شعراء العالمين. وكذلك حديث رسول الله، فهو ثروة ثانية من أروع صور الآداب، ومنهل عذب للواردين
وأما أن يقول أحد إن محمداً لم يؤلف درامة، فحسبه أنه كان يمثل درامات الحق فوق مسرح الواقع، وليس في الأدب المسرحي جميعاً ما هو أروع من إسلام حمزة أو موت حمزة، وإسلام عمر أو مقتل عمر، وهجرة محمد من وطنه العاق إلى مُهاجَره الصادق، وصبر أصاحبه على أذى قريش وكفران قريش، ورمي المنافقين زوج الرسول بالإفك وصبر عائشة لذلك. . . وهذه المئات والمئات من مشاهد الدرامة الكبرى التي قام بأدائها الرسول، والتي رواها وقص فصولها في واقعه، ويسر الله لسانه بذكرها في قرآنه
صلى لله عليك يا رسول لله إذ يسألك أبو بكر: لقد طُفْت في العرب وسمعت فُصحاءهم فما سمعت أفصح منك، فمن أَدَّبك؟ فتقول: أَدَّبني ربي فأحسن تأديبي!
دريني خشبة