مجلة الرسالة/العدد 297/المُروءة مصادرٌ مَطويَة
→ محمد الأديب الأعظم | مجلة الرسالة - العدد 297 المُروءة مصادرٌ مَطويَة [[مؤلف:|]] |
روح الإسلام في العبادة ← |
بتاريخ: 13 - 03 - 1939 |
لِلدكتور بشر فاِرسِ
المروءة (أو المروّة) من الألفاظ التي يكثر ورودها في النصوص العربية القديمة ولاسيما في الكتب التي ألفها أدباء العهد العباسي. وهي، من باب آخر، من الألفاظ المشتبهة في اللغة العربية لتضارب الأقوال فيها وتدافع التعريفات لها. وقد عظم شأنها على تعاقب الأيام حتى تناولها المتكلمون والمتصوِّفة فنزلت منزلة الفضيلة بل منزلة مبدأ (أخلاقي). وذلك ما دفع بعض المستشرقين والشرقيين أن يعدوها، وهماً، رأس الفضائل الجاهلية
والذي يبدو لي أن المروءة أفادت، أولّ أمرها، الرجولة الحسية أي شدة الأسر، ثم الرجولة المعنوية أي السجايا الرفيعة، سجايا السيد مثلاً. ولذلك قرنها نفر ممن تكلموا عليها بالسيادة أو السؤدد. وهذان المفادان: الحسي والمعنوي، ظلا يتنازعان المروءة، فاتصل الأول بالحياة المادية ولحق الثاني بمكارم الأخلاق. وقد غلب الجانبُ المعنوي الجانبَ الحسي بفضل الإسلام. (وهنالك أحاديث غير صحيحة في المروءة وعظمة شأنها) وأخذ ذلك الجانب الغالب ينتقل على مدار الأيام من موضع إلى موضع؛ فدلت المروءة على العفاف والأدب والفضل والإنسانية والسرو؛ ثم قامت لفظاً واقعاً على محاسن جمة، على أقلام المحدثين والمتكلمين والأخلاقيين والفقهاء. وأما المتصوفة فأنزلوها منزلة الفتوة، فتجاورت اللفظتان في ميدان الأخلاقيات المجردة. وقد اتفق لها أن تنحرف إلى هنا وإلى هنا على ألسنة العامة قديماً في الأندلس وحديثاً في مصر والشام
كل هذا الحديث مع ما تحته من التفصيل والتبيين تجده في فصلٍ من فصول كتابٍ من هذا القلم يخرج باللغة العربية بعد أيام، وعنوانه (مباحث عربية) وعنوان الفصل (المروءة في اللغة والعرف). وقد انسقت إلى النظر في هذه اللفظة يوم كنت أؤلف (العرض عند العرب الجاهلية) ثم انصرفت إلى استجلاء غوامضها وتمحيص مدلولاتها باستقصاء المصادر والمراجع فنشرت فيها فصلاً في (تكملة دائرة المعارف الإسلامية) البارزة في هولندة (الجزء الرابع)
وأما هذه المصادر والمراجع فمتشعبة غزيرة، فيها المطبوع والمخطوط؛ وفي القراء من أصاب في كتب الأدب أشباه (العقد الفريد) (وعيون الأخبار) و (الموشي) و (أدب الدن والدين) أبواباً في المروءة. بل هنالك كتاب أُفرد لها، عنوانه (مرآة المروءات) لأبي منصور الثعالبي (مصر 1898). ومن المصادر المطوية كتاب (مرآة المروّات) لعلي بن الحسين ابن جعدويه، كتبه للوزير نظام الملك (456 - 485هـ) وكتاب ابن جعدويه مُجرىً على أسلوب كتاب الثعالبي مع ميل إلى الناحية الدينية بل الصوفية. وقد اهتدى إلى مخطوط ابن جعدويه المستشرق الأستاذ تيشنر فوصفها في المحلة الاستشراقية (الجزء الخامس 1932).
والذي في نيتي ههنا أن أنشر مصدرين آخرين. أما الأول ففصل في المروءة والسؤدد من مخطوط عنوانه (كتاب مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب وبدايع الأوصاف وغرايب التشبيهات) لمجهول، وقد أصبته في المخطوطات المخزونة في دار الكتب الوطنية في ليدن ورقمه 409.
وأما الثاني ففصل في المروَّة من مخطوط مخزون في أيا صوفيا تحت رقم 2049 ويقع في ص206. وقد أشار الأستاذ تيشنر إليه في المقال المنشور في المجلة المذكورة، ثم بعث إلي وسمح لي بنشرها، فله الشكر.
وفي المصدر الأول تعريفات وأقوال في المروءة على أنها لون من ألوان السيادة وشرط من أشراطها وأما الثاني ففيه محاولة لرد معنى المروءة إلى المدلول الأصلي من ناحية الاشتقاق ثم نظرة (أخلاقية) في شأنها، طرافتها ذلك التفريق الذي بين المرأة والرجل.
ا - مخطوط ليدن
(ص11) (الفصل السابع في السودد والمروّة)
(قال النبي ﷺ: تجافوا عن عقوبة ذوي المروة ما لم يقع حداً. وإذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. قيل لقيس ابن عاصم: بِمَ سدت؟ قال: ببذل الندى، وكف الأذى، ونصر المولى. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: إن للناس وجوهاً يرفعون حاجة الضعيف فأكرمهم. وقال عليه السلام: أقيلوا الكرامَ عثراتِهم. قال معاوية لابنه يزيد: ما المروة؟ قال: إذا ابتليت صبرت، وإذا أنعم عليك شكرت، وإذا قدرت عفوت. قال: أنت مني، وأنا منك. وسئل بعض الحكماء عن المروة، فقال: إسرار ما تحَب (تحِب) أن تعلن، ومواطاة القلب اللسان. وقيل: المروة ألا تعمل شيئاً في السر تستحي منه في العلانية. يقال: كان سَلم بن نوفل سيد كنانة فجرح رجل ابنه، فأتى به، فقال له: ما أمنك (ص11 م) من انتقامي؟ قال: فلم سودّناك إلا أن تكظم الغيظ وتعفو عن الجار وتحلم عن الجاهل وتحتمل المكروه؟ فخّلى عنه. دخل جُذيم بن أوس الطائي على معاوية، فقال: من سيُدكم اليوم؟ قال: من احتمل شتمنا، وأعطى سايلنا (سائلنا) وأغضى عن جاهلنا، وأغتفر ضَرَبنا (ضرْبنا) إياه بعصيّينا (بعصيّنا). وقال عدي بن حاتم: السيد، الأحمق في ماله، ذليل (الذليل) في عرضه، المطرحُ لحقده، المعّني (المعنيّ) بأمر عامته. يقال الارتقاء إلى السوود صعب، والانحطاط إلى الدَّناة (الدناءة) سهل. قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سّيد قومك؟ قال: أنا، قال: ولو كنت كذا ما قلته. مال (قال) معاوية لوفد: كيف كان قطبة بن زيد فيكم؟ قالوا: كان إذا حضر أطعناه، وإذا غاب شتمناه. قال: هذا والله السودد المحض. قال عمرو بن عبيد: لا يكمل مروة الرجل في دينه حتى يكون فيه ثلاث خلال: يقطع رجاه مما في أيدي الناس، ويستمع الأذى فيحتمل، ويحب للناس ما يحبَّ (يحبُّ) لنفسه. قال ابن عمر: إنا معاشر قريش نعد الحلم والجود السودد، ونعد العفاف وإصلاح المال المروة. سأل معاوية (ص12) الحسن بن علي رضى الله عنه - عن المروّة. فقال: حفظ الرجل دينه وإحرازه نفسَه من الدنَس وقيامه لضيفه وآد (أداء) الحقوق وإفشاء السلام. بعث رسول من خرسان إلى سَوار بن عبد الله القاضي يسأله عن المروة ما هي، فقال الإنصاف والتفضل. وقال علي رضى لله عنه: ثلاث من كن فيه استوجب بهن أربعاً (ثَلثاً تصويب في النص) من إذا حدث الناس لم يكذبهم، وإذا وعدهم لم يخلفهم (يخلفهم)، وإذا خالطهم لم يظلمهم؛ فإذا فعل ذلك فقد وجبت اخوته وكملت مروته وحرمت غيبته. قال ابن عمر: ما رأيت أحداً أسود من معاوية، قيل: يا أبا عبد الرحمن: أهو خير من أبي بكر وعمر؟ قال: هما خير منه، وهو أسود منهما. قيل له: هو أسود أم عثمان؟ قال: إن عثمان لسيّد، ومعاوية أسود منه.)
ب مخطوط ايا صوفيا.
وأما المروة فلها اشتقاقان من أحدهما يقتضي أن يكون هي والإنسانية متقارنتين، وهو أن يجعَل من قولهم: مَرُؤ الطعام وامرأة (وأمرأة) إذا تخصص بالمري لموافقته الطبعَ، فكأنها اسم الأخلاق والأفعال التي تْقلّبها (تقبلها) النفوس السليمة. فعلى هذا يكون اسماً للأفعال المتحسنة كالإنسانية. والثاني أن يكون من المرْءِ فَيُجعل اسماً للمحاسن التي يختص بها الرجل دون المرأة فيكون كالرجولية؛ وذلك أخص من الإنسانية، إذ الإنسانية يشترك فيها الرجال والنساء، والمروة أخص بكثير مما يكون فضيلة للمرأة يكون ذاية (رذيلة) للرجال كالبله والخفر والبخل والجبن، ولهذا قيل الخلايق الرجال (خلايق الرجال) أرذل أخلاق النساء، فالكيس والشجاعة والجود رذيلة لهن.)
بشر فارس