الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 297/صيانة العقيدة المحمدية من احتيال النفوس

مجلة الرسالة/العدد 297/صيانة العقيدة المحمدية من احتيال النفوس

مجلة الرسالة - العدد 297
صيانة العقيدة المحمدية من احتيال النفوس
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 13 - 03 - 1939


للأستاذ عبد الرحمن شُكري

نقرأ في كتب السَير عن أناس من السلف الصالح بلغت نفوسهم من الصفاء والتغلب على احتيال الأهواء مبلغاً كان للإسلام حجة أعظم من ألف حجة ودليل من الحجج والأدلة النظرية، وقد بهرت سيرتهم وقدوتهم من عرفها من غير المسلمين فأجلوا ذلك السلف الصالح من أجلها وأجلوا المسلمين من أجلهم ولو أنهم كانوا لا يؤمنون به وامتدحوه كما يمتدح الأب إذا حسنت سجايا ابنه التي بثها فيه. ولكن لا شك أن روح العقيدة الواحدة تختلف في نفوس معتنقيها باختلاف تلك النفوس؛ فإن من الناس القاسي والرحيم والكريم واللئيم والشهم والوغد والمقبل على لذات الدنيا والزاهد فيها والوفي والغادر والعالم والجاهل والذكي والغبي، وقد يعتنق العقيدة الواحدة أناس من كل هذه الطوائف ولكل منهم صفات تغلب على نفسه وتصبغ آرائه وأقواله وأعماله بلونها، وكأنه لا يرى ولا يسمع ولا يحس ولا يعمل إلا وعليه رقيب من تلك الصفات وهي كالقيود لا يستطيع أن يخلص منها. والعقيدة في نفس معتنقها كالماء في الإناء يتخذ شكله؛ فإذا كان الإناء مستديراً كان الماء فيه مستديراً، وإذا كان الإناء مستطيلاً كان الماء مستطيلاً. وكذلك العقيدة تتخذ شكل النفس التي تعمرها. نعم إن العقيدة تخالط النفس والماء لا يخالط مادة الإناء ولا يحدث به أثراً؛ ولكن المشاهد المحقق أن العقيدة تؤثر في النفس بعض الأثر ولكنها لا تستطيع أن تحول طبائعها، وإلا لو استطاعت لما وجد بين معتنقي العقيدة الواحدة الطاهر البريء والمجرم الأثيم والسمح الكريم والوغد اللئيم والذكي الفهيم وذو الفهم البهيم والرحيم والقاسي الزنيم. فالعقيدة فيما هو مشاهد في الحياة لا تحمل النفوس على أن تتخذ شكلاً واحداً بل تبقي النفوس على محامدها ومساوئها، وكما تؤثر العقيدة في النفس بعض التأثير تؤثر النفس في عقيدتها. ومهما اشتركت النفوس المتباينة في شعائر العقيدة فهو اشتراك عام لا يمنع اختلاف النفوس في تفضيل جانب على جانب ومظهر على مظهر من مظاهر الدين، فشكل العٍقيدة في النفس الغليظة القاسية الغبية غير شكلها في النفس الرحيمة الذكية، وتتخذ العقيدة الواحدة أيضاً أشكالاً مختلف في الأمم والأقاليم والأزمنة المختلفة وهي عقيدة واحدة ذات شعائر ومبادئ لا تتغير. والناس قلما يلتفتون إلى فروق روح العقيدة في النفوس المتباينة، وقلما يحسبون حساباً لهذه الفروق بالرغم من أنها قد تجعل الرجلين وهما على عقيدة واحدة وكأنهما على عقيدتين بينهما من البعد مثل ما بين السماء والأرض، وإغفال هذه الفروق يؤدي إلى الاهتمام بمظاهر الدين أكثر من الاهتمام بروحه، والدين معناه في روحه الزكية، فإن رذائل النفوس قد تستولي على مبادئ الدين وتقاليده وعرفه وأخلاقه فلا تأخذ منها غير المظاهر بل إنها قد تزكي نفسها وتهون أمر تركها روح الدين وحقيقته وأخلاقه بالاندفاع في نصرة مظاهره والانفعال في نصرتها وقد يكون انفعالاً لا يُخْفي العقلُ الباطنُ أنه بسبب أن النفس في غيظ شديد من أن روح الدين تخالف أثرتها وفائدتها الدنيوية وأنها لا تستطيع أن توفق بين ورع روح الدين وعفته وبين مطالب الحياة فتضحي بورع روح الدين كي تنال الدنيا أو بعض مطالبها حسب استطاعتها ثم تظهر الغيرة على مظاهر الدين الذي ضحت بروحه وورعه وتغتفر تلك التضحية بتلك الغيرة، والنفس في احتيالها هذا ربما كانت معذورة إلى حد ما إذا لم تغال وتشتط وتقسو وتلوم وتؤذي الناس كي تعذر نفسها لدى نفسها التي ضحت بورع الدين وكفافه وعفته وهي تحسب أنها إذا لم تستطع صيانة روح الدين والتخلق بورعه كي تنال رضاء الله ونعيم الآخرة فهي ربما تنال رضوانه ورحمته ونعيمه بهذا الاحتيال فتجمع إلى نعيم الأخرى الانطلاق في طلب الدنيا وتكفر عن نبذها ورع الدين بالاقتصاص من غيرها وتجعل هذا الاقتصاص قرباناً إلى الله بدل أن تجعل قربانها الصفاء والزهد في الدنايا والعفة عما يتطلبه نيل حطام الدنيا. ولقد قلنا إننا نعذر هذه الروح ونرحمها إذا لم تشتط في هذه الخطة، نعذرها بعض العذر لضعف النفس البشرية ولضرورات الحياة وما تقهر الحياة النفس عليه من الدنايا، ولأن النفس الورعة التقية قد تتردد فيها بالرغم من ورعها هواجس وخواطر طلب الشهوات لنفسها فتحاول أن تكفر عن تلك الخواطر التي تخشاها بالقسوة على من تحبسه مطيعا لها ولأن النفس قلما تفطن إلى باعثها على الانفعال في نصرة مظاهر الدين دون ورعه وتقواه، بل أنها قد تحسب أن الورع هو باعثها وإن كانت لا تتورع، وقلما تفطن النفس إلى أن بين الناس من يستطيعون الجمع بين المجون والقسوة والغباء وبين التدين ونشدان المثل الأعلى بالقول لا بالخلق، وهذه الاستطاعة من مآسي الحياة وربما كانت من ضروراتها المكروهة بسب ضعف النفوس ونقصها وأوضاع الحياة التي تعيش فيها فينبغي لمن يريد صيانة روح الدين والعقيدة المحمدية السمحة الرضية أن يحذر عند أدائه فروض الدين وفروض الحياة وأن يحاسب نفسه حساباً عسيراً عند أداء تلك الفروض أكثر من محاسبتها عند إهمالها لأن أَلذَّ فرض وواجب وأطيبه لدى النفس وأحلاه عندها هو الواجب الذي يُمكِّنها أداؤه من أن تؤذي الناس وأن تَتَشفَّى بأذاهم من متاعب الحياة وإن كانت لا تفطن إلى ذلك. وما أشد إتلاف متاعب الحياة لصفاء النفوس خفية

فالنفس قد تفضل أداء الواجب الذي يمكنها أداؤه من أذى الناس سواء أكان الذي تؤذيه عدواً أو غريباً عنها وإن كانت تفضل أذى الأول، وأسمج فرض وواجب لدى النفس وأبغضه ليها هو الواجب الذي يتطلب أداؤه ترك شيء من أطايب الدنيا المادية أو المعنوية. والنفس قلما يعوزها عذر تحول به ما تجد فيه سعادة ولذة إلى فرض وواجب.

فنصرة العقيدة الرضية الزكية وصيانة روحها وقدسها من احتيال الروح الدنيوية تقتضي دراسة علم النفس وتطبيقه على النفوس وأعمالها وأساليبها ووسائلها واحتيالها للتوفيق بين القدسية والدنيوية ولو بمخادعة نفسها فلا شيء يقتل أمل الإنسانية في صفاء الدين وقدس فضائله من احتيال أهواء النفس على النفس وتزويرها الحقائق تزويراً يخلط بين حقد النفس الشريرة وبين الغضب المقدس للحق، ويخلط بين الباعث السامي للنفس والباعث غير السامي، ويخلط بين صيانة روح الدين وبين التكفير عن قتل روح الدين في طلب الأهواء بالانفعال في نصرة مظاهره. ومن قرأ تاريخ الأديان في العالم وجد أن بعض القبائل المتأخرة ترى مخرجاً لغرائزها الوضيعة عن طريق الدين. وفي الأمم المتحضرة يوجد أناس يسلكون في إخراج غرائزهم التي يستحيون من إخراجها على حقيقتها مسلك تلك القبائل المتأخرة إما لجهلٍ وإما لما يُسمى في علم النفس بالرجعية النفسية إلى صفات عصور الإنسانية الأولى وهذه الرجعية قد يصاب بها حتى المتعلمون وقد تظهر في أمور كثيرة غير أمور العقيدة.

وهذا غير ما يُخْشى على قدسية الدين من رياء المرائين، وأعظم ما يدعو إلى الحسرة والأسف أن ترى روحاً صافية نقية صادقةً في غيرتها على الدين طائعة منقادة لنفس مرائية تبغي حطام الدنيا، وهذه النفس الثانية أي النفس المخادعة عادة تغلب النفس الأولى، الصافية الطاهرة لأن النفس المتلهفة في طلب حطام الدنيا تخلق لها لهفتها ويخلق لها غيظها وخوفها من فوات الحطام انفعالاً شديداً تحاكي به الغيرة على الدين وقلما تستطيع النفس الصادقة في تدينها محاكاة ذلك الانفعال الدنيوي الذي تمده الحياة بقوتها لأنه في طلب أمور الحياة. وقلما تستطيع تمييزه إلا إذا كان لها نصيب من الخبرة بعلم النفس وتطبيقه على أساليب النفوس ووسائلها وهي خبرة لابد منها لصيانة روح العقيدة المحمدية السامية.

ومن الأخطاء التي يقع فيها المفكرون وغير المفكرين أن يحسبوا أن الإنسان على مستوى واحد لا يتغير من حيث روح الدين في نفسه ومن حيث فضائله، والحقيقة هي أن النفس الإنسانية في الحياة كالطائرة الهوائية التي تصادف جيوبا هوائية كثيرة مختلفة الضغط الجوي فتظل ترتفع وتنخفض فجاءة، ولكن كل إنسان يريد أن يستثمر ارتفاعه لمغالطة الناس كما قد يغالطهم في انخفاضه ويعده ارتفاعاً ويوهم أنه كذلك بقوة الإيحاء. وهو لو قصر المغالطة على قوة الإيحاء لهان الأمر ولكن أشد الضرر بروح الدين أن يتخذه المرء وسيلة للإشادة بعلو قدره وإعلان انحطاط قدر عدوه أو عدو صديقه أو عدو قريبه أو من يعاديه قريبه فيصبح الدين في نظره قوة دنيوية للكسب كقوة المصاهرة أو المسامرة أو كقوة المال.

عبد الرحمن شكري