الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 297/حرارة الأيمان

مجلة الرسالة/العدد 297/حرارة الأيمان

بتاريخ: 13 - 03 - 1939


للدّكتور إبراهيم بيومي مدكور

ما أرهب ذلك الجيش السائر والبحر الزاخر والجمع الثائر يخوض غمار المعركة في عزمة رجل واحد وهمة قلب صادق فلا يلبث أن يكتب له النصر ويفوز بالغلب على من تفرقت بهم الميول والأهواء! وما أروع تلك الرءوس الحاسرة والأجسام شبه العارية تجتمع في صعيد واحد تسبح الله وتناجيه فلا تخشى بأس حر ولا برد، ولا تألم من صر أو قر! وما أخشع ذلك الناسك الذي حرم نفسه لذيذ الطعام والشراب واستطاب الخشن وغليظ الثياب، وضوي جسمه من طول الركوع والسجود، واحمرت عيناه من البكاء والسهر. كل هؤلاء قد استولت عليهم فكرة وتملكتهم عقيدة، فساروا وراءها طائعين، وائتمروا بأمرها راغبين لا راهبين

وكم من أفكار نسلم بها وآراء نوافق عليها ودعوات نصغي إليها، ولكن طائفة قليلة منها فقط هي التي تنفذ إلى قلوبنا وتمتزج بأرواحنا، فنُصبِح طوع إرادتها ورهن مشيئتها، وما ذاك إلا لأن الدعوات لا تتجه دائماً إلى القلب ولا تخاطب كلها الروح؛ فمنها ما يرمي إلى غاية مادية يتشبث من يرجو أن يساهم فيها بنصيب، ويطمئن إليها من آثر العاجلة على الآجلة. ومنها ما يقوم على الحجة والبرهان والبحث والتعليل، ولغة المنطق لا تلائم الناس على اختلافهم ولا يسمو إليها جمهورهم وعامتهم. لذلك كان أكثر الدعوات حظا من النجاح ألصقها بالقلب وأقربها إلى الفؤاد، وبقدر تفاوت الدعاة في القدرة على تحريك العواطف وإثارة الشعور تتفاوت آثارهم ويزيد أو ينقص عدد أتباعهم، وعن هذا الشعور تنبعث حرارة الإيمان المتأججة، ومن تلك العواطف يتولد صدق العقيدة الباهر، وفي القلب قوى خارقة للعادة وفي الروح أسرار تلين الحديد وتنسف الجبال ولا تبالي بصعاب

هناك ضربان من الإيمان لا سبيل إلى خلطهما ولا إلى إنكارهما: إيمان العقل وإيمان العاطفة، أو أن شئت فقل: إيمان البرهان والتعليل والحجة والدليل؛ ثم إيمان الشعور والإحساس والقلب والروح؛ في أحدهما هدوء التفكير ورزانة المنطق، وفي الآخر حمية الوجدان ونشاط العاطفة. ولئن كان الأول قد استنار بنور الحجة وقوى على مجالدة الخصوم ودفع الشبه، فإن الثاني ينبعث من قرارة القلب وأعماق الفؤاد ولا يرى نفسه ف حاجة إلى برهنة واستدلال، ولا يأبه مطلقاً بخصوم ولا معارضين. والدعوات سياسية كانت أو دينية، إنما تقوم إبان نشأتها على معتنقين اتجهوا نحوها بقلوبهم وتفانوا بها بأرواحهم، فأصبحوا ولا يعز عليهم مطلب ولا تبعد عنهم غاية. وكم سمعنا أن قائداً تسلق مع جنده الجبال واخترق البحار وخاض غمار الشرق والغرب دون أن يتخلف عنه متخلف، أو يقعد عن مناصرته الأتباع والأعوان. وكم روى لنا التاريخ من أخبار زعماء سياسيين أو دينيين كانت إشارتهم وحياً وكلمتهم أمراً، إذا ما تحركوا تحركت الألوف المؤلفة، وإذا ما دعوا لبى الجميع. فإذا ما فترت الدعوة وضعفت العقيدة وخمدت حرارة الإيمان الأولى، أخذ الناس يبحثون في معتقداتهم ويعللون ويناقشون ويعارضون

لهذا كان لابد لكل عقيدة من غذاء، ولكل دعوة من مواد تلهب الشعور وتنمي العاطفة. وما الطقوس الدينية والصلوات المفروضة والأدعية الخاشعة والذكر الدائم والقرابين المتكررة، إلا وسيلة من وسائل جذب النفوس نحو عالم النور والألوهية والإيمان والعقيدة. وعلى نحو هذا يجدُّ السياسيون في إقامة الحفلات، وتنظيم الدعوات والمظاهرات، وإلقاء الخطب المثيرة للجماهير. وإذا استطاع الزعيم أن يكون سياسيًّا ودينيًّا في آن واحد، أو بعبارة أخرى، سياسيًّا وصوفيًّا، توفر لديه كثير من أسباب الغلبة والفوز. وهانحن أولاء نرى زعماء العصر الحاضر يخلطون حركاتهم السياسية بآراء تتصل بالدم والجنسية والدين والعقيدة؛ فالهتلرية مثلاً نظرية سياسية تعتمد على دعائم روحية وصوفية، وهذا من غير شك عامل كبير من عوامل نجاحها وتقدمها. ولقد أجادت سبل الدعاية وأتقنت طرق تنظيم الأتباع إلى طوائف وجماعات يميزها زي خاص وشارات معينة، فزادها هذا تقديساً لإرادتها واستمساكاً بنظريتها. ولعل أعون شيء على تنمية الإيمان والعقيدة أن يحس المؤمن أنه عضو في أسرة وجزء من مجتمع، وأن يشعر المعتقد أن عقيدته ذات سيادة شاملة وسلطان عام. وما نراه من تعصب أعمى أحياناً وغلو في الدين أحياناً أخرى إنما منشؤه تغلب العاطفة على العقل والرغبة في أن نحمل الناس على اعتناق كل ما ندين به من أفكار

اختلف علماء الكلام المسلمون - كما اختلف رجال الدين من المسيحيين - في حقيقة الإيمان، هل يزيد وينقص وهل هو إذعان قلبي فقط أم هو اعتقاد بالجنان ونطق باللسان وعمل بالأركان. وكأني بهم جميعاً قد تناسوا جانبه العاطفي، ولو ذكروه ما وقعوا في كثير من خلافاتهم. فالإيمان على أنه حقيقة وفكرة قد لا يقبل الزيادة والنقص، أما الإيمان الذي هو عاطفة تتأجج لحظة وتخمد أخرى فثمة مجال فسيح لزيادته ونقصه، ويتبع هذا طبعاً أن يكون الاعتقاد قوياً أو ضعيفاً جازماً أو غير جازم. ولا شك في أن الأعمال الخالصة تنميِّه والأقوال الصالحة تغذيه، ومن ذا الذي ينكر ما للدعوة والإرشاد من أثر في تربية النفوس وتهذيبها وما للتقرب والعبادة من قدرة على ربط الأرواح ووصلها بعالم النور والفيض

ولا يضير الاعتقاد في شيء أن يُدْفِئه القلب بحرارته، وتمده الروح بأسرارها. والعواطف كانت ولا تزال، من أهم بواعث التفكير ودواعي العمل. والجماهير أخضع عادة للغة القلوب منهم للغة العقل والمنطق، ورب عاطفة قوية أعون على تحقيق غايات سامية من تفكير عميق.

إبراهيم مدكور