مجلة الرسالة/العدد 294/دراسات في الأدب المصري القديم
→ دراسات في الأدب | مجلة الرسالة - العدد 294 دراسات في الأدب المصري القديم [[مؤلف:|]] |
أين أنا؟ ← |
بتاريخ: 20 - 02 - 1939 |
للآنسة الفاضلة الزهرة
إنّا سلالة أمة تباهي بتاريخها الأمم، فمن الواجب علينا أن نلم بذلك التاريخ المجيد، ونستعرض صوره، لنمكن حلقة من تلك السلسلة الجميلة الغالية، التي تصل بيننا وبين القدم، وتقربنا إلى آبائنا الكرام، أولئك الذين بنوا المجد وشادوه، واستذلوا الزمان وأخضعوه، واكرهوه بباهر أعمالهم على أن يسجل أسماءهم في ديوان الخالدين.
ولقد رأيت أن استمد ذرائع الاتصال والقربى بالتغلغل في قرارة الماضي السحيق، للإحاطة بحياتهم الأدبية، بحيث نستطيع أن نلمس فيها زمانهم وبيئتهم، ونلمح قبساً من نظرياتهم في الوجود، وما اتخذوه لأنفسهم فيه من نظم الاجتماع والسياسة، والدين والأخلاق، لعلنا نتدرج من هذا كله إلى إقامة الدليل القاطع، على سمو المنزلة التي بلغها الأدب المصري القديم، ودحض ما رمى به من النقص والقصور. وقد كان علماء المستشرقين إلى منتصف القرن التاسع عشر يعتقدون أنه قد خلا من القصص وطول العبارة، وانسجام التفكير واستمرار الخيال، وافتقر إلى الفلسفة والنظريات. والواقع أن الأدب المصري القديم كان حافلاً بالثروة المعنوية، وافانين القول، وكان متعدد الفروع والأبواب حتى أنه لم يترك فرعاً إلا تناوله، خلا فرع الشعر التمثيلي. ويرى الدارس للكتابات القديمة خصائص بارعة تميزها عن باقي آداب الشعوب السامية لما يتجلى فيها من حسن الوصف، وكمال الصوغ، وبساطة التعبير، وطلاوة اللغة ومتانتها، وسهولة الألفاظ ورقتها، في إمتاع جزل بليغ. ولقد كان من اظهر تلك المميزات، الوضوح والاستقامة، وأناقة الأسلوب، وروعة التركيب، وجودة المقاطع، ونصاعة المبنى، وإيجاز المعنى وإصابته. على أن هذا الإيجاز كان ينتهي بالكاتب الضعيف في أحايين إلى السخف والعي والركاكة. غير أن الكاتب الأريب، كان يستطيع بقليل من التفنن أن يصور سجية من السجايا. وضاءة الجبين إذ يصف عاطفة من العواطف، قدسية الجوهر سافرة المحيا ولم يكن للكاتب المصري ند في حسن اختيار الألفاظ ووضعها في المكان الملائم لها في الجملة، فأنت تراه يكتب كمؤلفي هذا العصر المجيدين دقة ورقة ومتانة وظرفاً، ويمثل لك الحياة كما تقع في صورة كلامية لا تقل تأثيراً وإبداعاً عن الصورة اللونية المتقنة، فإذا نزل بك إلى ميدان السياسة، تجده يصف لك الملوك والحكام وصفاً دقيقاً، فيقول عن العاهل الجليل: (إنه يعرف كيف يأسر القلوب ويملكها) ويصف القاضي العادل بقوله: (إنه يسلك مناهج الاستقامة ونزاهة القلب). وبألفاظ قليلة منتقاة كان يجلي لنا الحاكم المحبوب المترفق، والقاضي الحكيم المنصف. وإذا عرج على الحياة وألوانها ألفيناه يصف الشباب ولذاته، والمشيب وحسراته، والهرم ومرارته، كل ذلك بأسلوب سهل وإيجاز مبين، لا أثر فيه للصناعة الأدبية المتكلفة فكان فنه الفن الصحيح. وكان من مميزات هذا الأسلوب الموجز الممتع، ما حملته ألفاظه من صور ومقدمات معنوية كانت في الأدب المصري القديم روح المجاز المرسل وعنصر الكتابة البليغة، ويمكننا أن نقتبس أمثلة لذلك كقولهم: (المطيع يطاع!) و (الجاهل حي ميت) وهكذا كانت الجملة القصيرة في الأدب المصري تفرغ في مثل هذا القالب من البساطة وانسجام التفكير ودقة السبك. ومعلوم أن الجملة القصيرة الصحيحة تلخص فكرة العقل القوي الحصيف لأن الإيجاز في الإفهام ممدوح مستحب. ولقد كان الأسلاف يكرهون الإسهاب المخل. والإطناب الممل، فتراهم يجنحون دائماً إلى قرب المجتني، ويعتقدون أن خير الكلام ما قل وجل، ودل ولم يمل، وكانوا في حياتهم اليومية يشمئزون من الثرثار ويعدون الثرثرة مما ينافي عقيدتهم الدينية في اشرف المواهب، واعتاد من يقف منهم في محكمة العدل والدينونة، أمام قضاة (العالم السفلي) في دار الآخرة أن يقول: (أشهد أني لم أكثر من الكلام في حياتي ولم أسترسل فيه بإطناب تمجه الأذان) وكانوا يحبون تنميق اللفظ وزخرفته ولكنهم أجادوا تنقيحه ووفقوا فيه توفيقاً عجيباً دون أن يداخله التعمل. وكذلك كانوا لا يطاولون في دقة التشبيه. والحق أنهم كانوا يرتفعون إلى اجمل سماواتها وأعلاها كلما التمسوها من الطبيعة. وبين أن التفوق في تقريب المثال، دليل القدرة على بعد المنال، والتعميم والإطلاق في رسم الحقائق الناصعة رسماً صادقاً، وعنوان البراعة في الموازنة العقلية والمقارنة الذهنية، بل أنه مجلي الحماسة والحرارة والإخلاص للفن ومعرض العاطفة العميقة الصحيحة التي تفنن الألباب بصحتها وقوتها. مثال ذلك تشبيه الملك رمسيس الثاني (بأسد ظافر يضرب بمخلبه ولا يدبر، يزأر ويزمجر بصوت هائل في وادي الظباء. . .) أو قولهم فيه: (أنه يشبه ابن آوى في سرعة خطاه وسعيه لاقتناص ما يجده والانقضاض عليه كالبرق الخاطف).
وكانت التعبيرات المتجافية الوعرة، والكلمات الغثة المثقلة بالاستعارات الرثة والتوريات المتنافرة، والمترادفات المتقعرة الفجة والمحسنات اللفظية الجوفاء من الأخطاء التي يجهلها المؤلف المصري الذي كان يميل في أسلوبه ولغته إلى الوضوح دون أن يتسامح في لفظة واحدة تطن بلا معنى وبلا غرض. . . وكان آية في الجلاء والأحكام حين يروي حديثاً أو يدون حادثاً، ولعل ذلك راجع إلى سلامة طبعه، واستقامة خلقه، وتمسكه بالصدق، ومقته للمبالغة والغلو، ولم تكن تأليفه صادرة بحال من الأحوال عن انحطاط في التخيل، أو قصور في التصور، أو عجز عن عمق التفكير، لأننا حين نطالع سيرة عظيم من العظماء من خلال منظار الحقيقة، ثم نعمد إلى قراءة الشخصيات البارزة في أقاصيص أولئك المؤلفين ومن جعلوا أبطالاً لها كما ابتكرتها تصوراتهم الخصبة واخترعتها عبقريتهم المبدعة، نرى تخيلاً سامياً معتدلاً رصيناً، يحدوه العقل الراجح، ليطابق الواقع المعقول، ويمنح تلك الشخصيات سحنة جميلة، تدب فيها الحياة الناشطة، فتراها متجسدة حيالنا، لا أشباحاً ضعيفة لا كيان لها ولا جسم. . .
وفي هذا العالم الأدبي العجيب، الذي كان يعنى بالأنواع والنماذج التي يكثر أشباهها في الحياة اليومية، نرى مواطن الشبه الموجودة بين كل فروع الأدب القصصي المصري القديم، وبين القصص التي يتحفنا بها المؤلفون المجيدون في القرن العشرين من اتباع المذهب الواقعي. وتزداد إيماناً بأن عقول أهل الأجيال السالفة لم تكن دون عقول أبناء العصور الحديثة. هذا ولعلنا واجدون في قصة (سانيهات) - ابن الجميزة - صورة أمينة واضحة للحياة والعادات القديمة. ولا يبعد أن هذا الاسم قد أطلق على بطل القصة لكونه عاش حيث توجد شجرة من أشجار الجميز المقدسة التي اشتهرت بها مصر منذ القدم، ولا سيما أن الاسم (سانيهات) معناه (ابن الجميزة) ونحن نرى في موضوع القصة ما كتبه سانيهات هذا عما شاهده في مغامراته أثناء تنقلاته ورحلاته في جنوب شرقي فلسطين. وإني كمصرية يسرني أن اذكر بلسان الإعظام والاكبار، هذا الدليل الذي تقيمه القصة على أن المصريين قد سبقوا ماركوبولو وكولمبس وفاسكودي جاما وماجلان وغيرهم من كبار المستكشفين إلى ارتياد المجاهل، وانهم قد كتبوا قصص هذا الارتياد بيد أجادت نقل ما انطبع في الذهن من صور المرئيات والحوادث بخاصة عجيبة وقوة انتباه فائقة. وقد وصف سانيهات هذه الأصقاع التي رآها وصفاً بارعاً، ورسم الحياة الاجتماعية لسكانها، ومثل أخلاقهم وعاداتهم ونزعاتهم وميولهم اكمل تمثيل واظهر بعد عودته إلى مصر، الفرق العظيم بين حضارة بلاده والحياة البدائية الخشنة التي كان يحياها أولئك القوم. . . وسانيهات هو هذا (الأمير الملكي وحامل خاتم الملك، والصديق المخلص، وأمين شؤون الاجانب، هو المحبوب الملكي التابع للمقام الأسمى) وقد فر من مصر حالما سمع بوفاة الملك امينمعهت الأول مؤسس الأسرة الثانية عشرة، أي قبل الميلاد بألفي سنة. وهو لا يحدثنا في القصة عن هروبه، ولكننا نرجح أنه هرب لأنه كان أحد أبناء الملك من أم لا يجري في عروقها دم الفراعنة ولذلك لا يقدر أن يرث عرش أبيه والى جانبه (أوسرتسن) الابن (الملكي للفرعون) فهو يخشى أن يقتله الفرعون الجديد حتى لا يكون له من ينازعه العرش وينافسه فيه، ويشجعنا على التمسك بهذا التعليل ما جاء في سياق القصة، من اللهج بالإكرام الذي صادفه سانيهات من أفراد البيت المالك عند أوبته من ديار الغربة. ومعلوم أن الفراعنة كانوا شديدي التمسك بعصبيتهم، عظيمي التعلق بأقاربهم فلا يقربون منهم غير كريم النسبة. . .
نعود إلى حديثنا الأول فنقول: أن سانيهات يذكر أنه ولى هارباً من مصر في الليل، وكان (يختبئ في الأدغال نهاراً لئلا يراه أحد من الجيش المرابط على الحدود) وبعد صعوبات جمة ومخاطر عدة وصل إلى سلسلة الحصون التي أقيمت لصد غارات الأعداء على الحدود، وجاوزها في دياجير الظلام، وأنه حين شارف (البحيرات المرة) خارت قوته (وشعر بظمأ شديد، وجف ريقه، وضاقت أنفاسه) فقال في نفسه: هذا نذير الموت. ولكن ثغاء الماشية كان يتطرق إلى سمعه فينعشه وينفخ فيه روح القوة ويطمئنه فيواصل سيره إلى أن يصادفه زعيم إحدى القبائل، فيعطيه (ماء ولبناً مغليا) ويخبرنا بعد ذلك أن كل قبيلة من القبائل العائشة في تلك الأقاليم كانت تكرم مثواه وتستضيفه بدورها، حتى حط رحاله في أرض (أيدوم) حيث أقام سنة ونصف سنة، وإن أمير (تنو) التي زرتها منذ أعوام في جنوب شرقي فلسطين وتقع بين الخليل وبيت جبرين، قد ارسل إليه ودعاه إلى الإقامة عنده. ويحسن بي أن أتقل هنا ما ذكره سانيهات من حسن معاملة ذلك الأمير بقوله: (ومنحني اختيار ما أريده من الأرض حتى تلك الأرض التي كان يملكها في الخارج وهي أرض حسنة. والحق يقال أن ما اعطانيه كان عظيماً، وقد قدمني على أولاده وزوجني من كبرى بناته وأقامني أميراً على قبيلة من خيرة قبائل أرضه). ثم يحدثنا عن اغاراته على القبائل الأخرى ويقدم لنا وصفاً فريداً عن قيامه بمنازلة أحد أبطال تنو. والظاهر أنه كان محسوداً على المكانة التي كانت له في قلب الأميرة العظيمة، وعلى ما أحرزه من مجد الشهرة وفخر الانتصار، فجاء ذلك البطل ذات يوم ودعاه إلى النزال، (رجلاً قوياً لا أخ له في القوة)، وقد (اخضع لجبروته وكان: كل إنسان). وقال: (فلينازلني سانيهات)، وكان يريد أن يقتله، ولكن بطل تنمو تضاءل أمام المصري لخبير بفنون القتال والقائل في ذلك: (وجاء الموعد فالتقينا وناديته أن يبدأ فصوب سهامه ولكني تحاشيتها كلها، وسقطت بقربي سهماً أثر سهم. وهنا فوقت نحوه قوسي وأطلقت السهم. فنفذ إلى عنقه فصاح من شدة الألم وخر على انفه فأخذت قناته وأنفذتها في جسمه، وضعت قدمي على ظهره فهلل البدو، واستحوذت على جميع مقتنايته وماشيته. الشيء الذي كان يريد أن يفعله بي فعلته أنا به).
وأظنني بعد هذا كله لست في حاجة إلى الإشارة إلى أن الآداب القصصية العالمية لم تمنح آية أمة في الوجود ما منحت الأسلاف من التفوق في القصص الخيالية الممتعة التي يعدها العلماء المشتغلون بالمصريات في الوقت الحاضر غاية في سمو التصور ودقة التفكير وسعة التصوير وخصوبة الخيال وسلامة اللغة وسلاسة الأسلوب. ولعل أبدعها (قصة السحرة) التي جمعت ورتبت على طريقة كتاب (ألف ليلة وليلة). فهي في الحقيقة قصة واحدة طويلة. تضم ثلاث أقاصيص متتابعة، ادخل المؤلف كل واحدة منها في التي تليها، وقد عارض سير القصة عينها عند نهاية الجزء الأول منها بشيء جديد، لأنه رأى كما يرى كتاب العصر الحديث في قصصهم ضرورة وقوف القارئ عليه قبل الخاتمة، وهي مهارة أرادها فوفق فيها رغم ما تفيض به سطورها من تحول ساذج معجب لا ترون مثاله في غالبية ما يكتبه كتاب اليوم من الفرنج وغيرهم! وهذه القصة البديعة أشهر من أن تعرف. إلا أن السبيل إلى تلخيصها الآن غير ميسور، ولا يسمح المقام باقتباس شيء مما حفلت به تصانيف الأسلاف من الحكم الخالدة والمواعظ الأبدية والأمثلة العالية والكتب السياسية التي تبودلت بين الفراعنة وملوك الشعوب الأخرى من معاصريهم والرسائل المتبادلة بين الإخوان والأصدقاء وأغاني الحب والتسابيح الدينية، والأناشيد الغنائية والأشعار القصصية الطويلة التي أتوا فيها على ما سعد به ملوكهم من جلال الانتصارات وعز الفتوحات. بيد أنه لا يسعني إلا أن المع في إيجاز إلى كتاب (المحاورة بين مصري ونفسه) تلك المحاورة التي يزخر فيها كل ما يزخر في الحياة النابضة من قوة دافقة، وتمثل صراع الروح والجسد، وأزمات الوجدان الطاحنة، وفورات العواطف المتأججة، وهجسات الضمائر، في مهاوي ضعفها ودركات فورها، أو درجات مجدها وذروات قوتها
وهناك ثلاثة كتب جديرة بالعناية أولها كتاب (بتاهوتب) وهو اقدم كتاب في الدنيا كما يقول المؤرخون. وفي هذا الكتاب فصول ممتعة، فانتم ترون مؤلفها حين يعرض لذكر المرأة يكتب عنها كمؤلفي القرن العشرين - حفاوة وإجلالاً وإكباراً -
أما الكتاب الثاني فهو (حكم الكاتب آني) ولست أريد أن أطيل الوقوف عند هذا الكتاب وإنما أريد أن اذكر منه نبذة واحدة نصح فيها المؤلف الولد برعاية أمه فقال: (ضاعف الطعام والشواب اللذين تقدمهما لأمك فهي التي تعبت في تربيتك ووجودك وأدخلتك المدرسة وعنيت بتهذيبك وتثقيفك. أحذر من أن ترفع يدها إلى السماء ضدك فتسمع الآلهة شكاتها) ويظهر من هذا جلياً أن رياسة الأسرة في ذلك الحين كانت للأم حيث ينبئنا الكاتب أنها هي التي عنيت بتهذيب الولد وأدخلته المدرسة
أما الكتاب الثالث فهو سياسي بحث وعنوانه تعاليم أمينمعهت الأول وهو غاية في الحكمة والحيطة، كتبه إلى امينه يحذره ممن حولهم من أهل البلاط ومن دسائسهم الكثيرة
وهنا اكتفى بما تقدم مبرهنة على أن مصر بأدبها القديم قد كانت أستاذة الدنيا ومعلمة الوجود، وحسبي أن اختم بقول مسيو سانتهلير: (لست أريد أن أرد على الذين يتهمون اليونان بعدم معرفتهم القراءة ولكتابة إلا بهذه الكلمة وهي: كيف يجهل اليونان القراءة والكتابة وقد كانت تربطهم بالمصريين صلات قوية؟!!)
وجدير بهذا كله أن ينبه غافلنا، ويشعرنا بحاجتنا إلى أيجاد أدب قومي يصور المزاج العقلي المصري، ويستمد من صميم الحياة المصرية مادته وعناصره ومسالكه، فيمثل حالتنا الاجتماعية، وحركاتنا الفكرية، والعصر الذي نعيش فيه لكي تكون لأدبنا شخصية بارزة ممتازة، تضمن لنا المكان العالي الذي نريد أن نشغله بحق في خريطة الوجود.
(الزهرة)