مجلة الرسالة/العدد 294/دراسات في الأدب
→ أعلام الأدب | مجلة الرسالة - العدد 294 دراسات في الأدب [[مؤلف:|]] |
دراسات في الأدب المصري القديم ← |
بتاريخ: 20 - 02 - 1939 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
الأدب والنقد والتاريخ
يبين الأديب شاعراً أو كاتباً عما يدرك ويتصور ويتخيل من مشاهد العالم ومعانيه. يصف مرأى جميلاً أو دميماً ويعرب عن إحساس مؤلم أو لذيذ. وتارة يكون موضوع الأديب مظاهر الأدب لا مظاهر العالم. يصف قصيدة أو مقالاً يبين ما فيهما من بلاغة وجمال أو ما يعوزهما من قوة في المعنى وسلاسة في اللفظ، أو يعرض للشاعر والكاتب يبين ما فطرا عليه من طبع وما واتاهما من علم، وما يسر لهما في موضوعات البلاغة وأساليبها أو يأخذ عليهما قصوراً في الإدراك أو عياً في البيان وهلم جرا. وربما يتناول الباحث موضوعات من الأدب يصف تقلبها على مر العصور، أو طائفة من الأدباءيصف تواليهم على الزمن واخذ بعضهم عن بعض وتقبل بعضهم بعضاً. فيخرج للناس صورة للأدب في عصر أو أعصر.
هذا كله من الأدب، ولا يسوغ أن نخرج من الأدب المقالات التي تنقد الأدب أو تؤرخه
1 - لأن الباحث في قصيدة أو مقال يصف ما أوحت إلى نفسه هذه القصة وهذا المقال وما أدرك فيهما من جمال وما اشرب قلبه من حب أو بغض. وفرح أو حزن. فهو كالذي يصف مشهدا جميلاً أو دميماً في العالم أو أمراً حزيناً أو بهيجاً من أمور الحياة
2 - ولان الناقد والمؤرخ مهما يستعمل الفكر والعقل ويذكر العلل والنتائج إنما يحكم بعاطفة ويقيس بوجدان فلن يستطيع أن يدخل دائرة العلم المحض ما كان موضوع بحثه الأدب والأدباء
يتبين من هذا أن الأدب له فروع: إنشاء ونقد وتاريخ. ويمكن أن نرد هذه الفروع إلى فرعين: أدب ذاتي وأدب موضوعي، وهذا يشمل النقد وتاريخ الأدب ويزيد وضوحاً فيما يلي:
الأدب الذاتي النفسي هو الكلام الذي ينشئه صاحبه إبانة عما في نفسه. والأدب الموضوعي هو الكلام الذي يقصد به تبين ما في الكلام الأدبي من محاسن ومساوئ، أو الإبانة عن فضل شاعر على آخر، أو ترجيح طريقة من البيان على طريقة، أو بيان أطو عصوره المختلفة الخ. . .
والخلاصة أنه الكلام الذي يراد به وصف الأدب والأدباء وفيما يلي أمثلة توضح هذين الضربين من الأدب:
- 1 -
قال البحتري في وصف دمشق:
إذا أردتَ ملأتَ العين من بلد ... مستحسنٍ وزمان يشبه البلدا
يمشي السحابُ على أجبالها فِرَقاً ... ويصبح الروضُ في صحرائها بددا
فلست تبصر إلا وأكفاً خضلا ... أو يانعاً خضراً أو طائراً غَرِدا
وقال أبو هلال العسكري:
أما ترى عود الزمان نَضْرا ... ترى له طلاقة وبشرا
أتته ألطافُ السحاب تتري ... وساقت الجنوب غيما بكرا
تبسط في الصحراء بُسطا خُضرا ... وتمنح الروضة زهرا صُفرا
ونرجسا مثل العيون زهرا ... وأقحوانا كالثغور غُرَّا
كأنما يصوغ فيها تبرا ... كأنما يروق فيها عطرا
كأنما ينثر فيها درّا. . . الخ
وقال أبو الطيب في رثاء أخت سيف الدولة:
طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ... فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدعْ لي صدقه أملا ... شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
تعثرت به في الأفواه ألسُنها ... والبرد في الطرق والأقلام في الكتب
وقال الحسين بن مطير الأسدي أحد شعراء الحماسة يرثي معن بن زائدة الشيباني:
ألِمَّا على معن وقولا لقبره: ... سقتك الغوادي مربعاً ثم مربعا
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خُطِّت للسماحة مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مُترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا
فتىِ عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا ولما مضى معن مضى الجود فانقضى ... وأصبح عرنين المكام أجدعا
وقال ابن المعتز يصف سامرا بعد أن تركها الخلفاء إلى بغداد فسارع إليها الخراب:
(كتبت إليك من بلدة قد أنهض الدهر سكانها، وأقعد جدرانها، فشاهد الناس فيها ينطق، وحبل الرجاء فيها يقصر، وكأن عمرانها يطوى، وكأن خرابها ينشر، وقد وكلت إلى الهجر نواحيها، واستحث باقيها إلى فانيها، وقد تمزقت بأهلها الديار، فما يجب فيها حق جوار، فالطاعن منها ممحو الأثر، والمقيم بها على طرف سفر، نهاره إرجاف، وسروره أحلام؛ ليس له زاد فيرحل، ولا مرعى فيرتع الخ)
في هذه القطع كلها تجد المبين ينشئ ما يترجم عما شعر به وتخيله وتصوره حينما رأى منظراً بهيجاً من السحاب والرياض، أو مرأى كئيباً من الخراب والإقفار، وحينما علم موت صديق يعز عليه أو عظيم، كان يزجى آماله إليه. وكل هذا تصرف
- 2 -
فإذا تبينت هذا فانظر إلى الأمثلة الآتية:
قال القاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني في كتاب الوساطة:
(وقد علمت أن الشعراء قد تداولوا ذكر عيون الجاذر، ونواظر الغزلان، حتى أنك لا تكاد تجد قصيدة ذات نسيب تخلو منه إلا في النادر الفذ. ومتى جمعت ذلك ثم قرنت إليه قول امرئ القيس:
تصدُّ وتُبدي عن أسيل وتتِّقي ... بناظرة من وحش وَجرةَ مطفل
أو قابلته بقول عدى بن الرقاع:
وكأنها بين النساء أعارها ... عينيه أحورُ من جآذر جاسم
رأيت إسراع القلب إلى هذين البيتين، وتبينت قربهما منه؛ والمعنى واحد، وكلاهما خال من الصنعة، بعيد من البديع. إلا ما حسن به من الاستعارة اللطيفة التي كسته هذه البهجة. وقد تخلل كل واحد منهما من حشو الكلام ما لو حذف لاستغنى عنه وما لا فائدة في ذكره لأن امرئ القيس قال: (من وحش وجرة). وعدياً قال. (من جآذر جاسم) ولم يذكرا هذين الموضعين إلا استعانة بهما في إتمام النظم وإقامة الوزن، ولا تلفتن إلى ما يقوله المعنويون في وجرة وجاسم فإنما يطلب به بعضهم الأغراب على بعض، وقد رأيت ظباء جاسم فلم أرها إلا كغيرها من الظباء، وسألت من لا أحصى من الأعراب عن وحش وجرة فلم يروا لها فضلاً على وحش ضرية وغزلان بسيطة. وقد يختلف خلق الظباء وألوانها باختلاف المنشأ والمرتع، وأما العيون فقل أن تختلف لذلك. وأما ما تمم به عدى الوصف، وإضافة إلى المعنى المبتذل بقوله على أثر هذا البيت:
وَسْنان أيقظه النُّعاس فرنّقت ... في عينه سِنة وليس بنائم
فقد زاد على كل من تقدم، وسبق بفضله جميع من تأخر. ولو قلت: اقتطع هذا المعنى فصار له، وحظر على الشعراء ادعاء الشرف فيه لم أرني بعدت عن الحق) أهـ
الجرجاني في هذه القطعة يفضل بيتي امرئ القيس وعديّ على أبيات الشعراء في معناهما، ثم يبين ما فيهما من الحسن وما تخللهما من الحشو، ثم يصف بيت عديّ الثاني بأنه احسن بيت في معناه. فالجرجاني لم يبين هنا عما أحسه هو في وصف العيون، ولكنه ينظر فيما قال غيره فيبين ما فيه من إجادة وتقصير ويبين أي الأبيات ابلغ وهكذا. فهو إنما يصف كلام غيره ويقيسه بذوقه وتصوره
فهذا أدب موضوعي. . .
وقال بشر بن المعتمر:
(ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات؛ فيجعل لكل طبقة من ذلك كلاماً، ولكل حالة من ذلك مقاماً، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار الحالات: فإن كان الخطيب متكلماً تجنب ألفاظ المتكلمين، كما أنه عبر عن شي من صناعة الكلام واصفاً أو مجيباً أو سائلاً كان أولى الألفاظ به ألفاظ المتكلمين إذ كانوا لتلك العبارة أفهم، واليها أحن، وبها أشفق. . . الخ)
وقال أبو العباس الناشئ:
لعن الله صنعة الشعر ماذا ... من صنوف الجهّال منه لقينا
يؤثرون الغريب منه على ما ... كان سهلاً للسامعين مبينا
إنما الشعر ما تناسب في النظم ... وإن كان في الصفات فنونا
فأتى بعضه يشاكل بعضا ... قد أقامت له الصدور المتونا كل معنى أتاك منه على ما ... تتمنى، لو لم يكن، أن يكونا
فتناهى عن البيان إلى أن ... كاد حسناً يبين للناظرينا
فكأن الألفاظ فيه وجوده ... والمعاني ركِّبن فيه عيونا
فإذا ما مدحت بالشعر حراً ... رُمتَ فيه مذاهب المسهبينا
فجعلت النسيب سهلاً قريبا ... وجعلت المديح صدقاً مبينا الخ
ترى في قول بشر والناشئ وصف خطة للبيان، ودعوة إلى طريقة في الإنشاء يريانها الطريقة المثلى وهذا أدب موضوعي أيضاً
واقرأ هذه القطعة أيضاً: قال أبو منصور الثعالبي في مقدمة اليتيمة:
(لم ينزل شعراء الشام وما يقاربها بها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها في الجاهلية والإسلام. . . والسبب في تبريز القوم قديماً وحديثاً على من سواهم في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم
ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة العبارة وحلاوة الحضارة ورزقوا ملوكاً وأمراء من آل حمدان، وبني ورقاء هم بقية العرب، والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينتقده، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل - انبعثت قرائحهم في الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا)
يوازن الثعالبي في هذه الأسطر بين شعراء الشام وشعراء العراق، ويفضل الأولين، ثم يبين الأسباب لتي فضلتهم على غيرهم؛ فهو يصف كلاماً بالجودة وشعراً بالتفوق ويحاول أن يعدد الأسباب التي أجادت هذا الكلام، وقدمت هؤلاء الشعراء
وهذا أدب موضوعي كذلك
واقرأ بعد هذه الجملة من مقدمة كتاب الشعر والشعراء لابن قتيبة:
(هذا الكتاب ألفته في الشعر؛ أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم، وقبائلهم وأسماء آبائهم، ومن كان يعرف باللقب أو الكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره؛ وما أخذته العلماء عليهم من الغلط والخطأ في ألفاظهم، وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرين
وأخبرت فيه عن أقسام الشعر وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها، ويستحسن لها إلى غير ذلك)
تجد صاحب الكتاب يعمد إلى تأريخ الشعراء بذكر أخبارهم وازمانهم والى تاريخ الشعر بذكر ما أخذه المتأخر عن المتقدم من المعاني والأساليب - زيادة على النقد وتبيين المستحسن المستقبح، والخطأ والصواب. وهذا يدخل في الأدب الموضوعي كذلك.
كل الأمثلة التي قدمتها في إجمال هذا الفصل تدخل في الأدب؛ ولكنها يمتاز بعضها عن بعض: في القطع الأربع الأولى أدب ينشئه الشاعر إنشاء ويبتدئه لا يصف فيه كلام غيره، بل يصف ما رأى هو من مناظر، وما شعر به من حزن وألم ونحو ذلك فهذا الذي يسمى الأدب الذاتي
وفي القطع الأخرى تجد أدباً يدور حول الكلام البليغ، أدباً يصف أدباً آخر أو يبحث في قوانين الأدب وأحواله وأطواره وهذا الذي يسمى الأدب الموضوعي
ولكن بعض هذا الأدب الموضوعي يبين محاسن القطعة من الشعر أو النثر أو يبين احسن المناهج التي يسلكها الشاعر أو الكاتب، كما في قطعة القاضي الجرجاني وقطعة بشر ابن المعتمر وقطعة الناشئ وهذا يسمى النقد.
وبعض الأدب الموضوعي يبين التاريخ والتطور كما في قطعة ابن قتيبة. . وهذا تاريخ الأدب.
وفي العدد الآتي نجمل الكلام في النقد وتاريخ الأدب.
عبد الوهاب عزام