الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 288/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 288/رسالة الفن

بتاريخ: 09 - 01 - 1939


تأريخ الفن

للدكتور أحمد موسى

2

وعندما ظهر مؤلف فردرش كرِسْت وزميله جيزنر عن الفن القديم، كان مكان اجتماعهما أشبه شيء بأكاديمية للفن التقى فيها الكثيرون من أهل العلم والفضل من أولئك الذين كانوا يقرؤون كتب الفرنسيين منذ ساندِرت لعدم وجود غيرها من المؤلفات القيمة (والحديثة نسبياً) بغير اللغة الفرنسية.

وعلى رأس هؤلاء الأفاضل يوهان يواخيم فنكلمان الذي إليه يرجع الفضل الأكبر في توجيه العقل الألماني إلى وجوب معرفة الحضارات القديمة ودراستها، إذ بها وحدها يمكن إيجاد أسس النهوض ووسائل التوجيه المنتج وتحسين الموجود وإمكان الابتكار، كما كان له فضل عظيم في إيجاد الدراسات الجامعية المنظمة لعلم الآثار وتاريخ الفن.

وإلى جانب هذا الرجل يجب التنويه برجلين هما هيني وليبرت كما نذكر فون هاجدورن وهاينكن وفون شتوخ، الذين عملوا جميعاً على ازدهار هذا العلم بدافع من أنفسهم في كل إخلاص وصدق.

ومن أهم ما نذكره في مضمار تاريخ الفن القديم على وجه الخصوص تلك الحفريات الموفقة التي أجريت في بومبي بالقرب من نابولي في أواخر القرن الثامن عشر وفي هركولانوم وكذلك الأعمال الأثرية المساحية التي قامت بها البعثة الإنجليزية في أثينا برياسة ستيوارت وريويت والتي ترتب على النتائج الباهرة التي وصلت إليها وما أوجدته من روائع الفن خلال الحفر أن تحول الميل من البحث في روما إلى البحث في بلاد الإغريق عن كل ما تحويه أرضها من كنوز يزداد الإعجاب بها والولوع بدرسها كلما ازداد العثور على شيء من محيطها الهائل. فأصبح ميل العلماء شديداً، كل في مادة تخصصه، إلى الهيلينزم أو الثروة الإغريقية في منطقة هيللاز.

عندئذ ولكثرة ما عثر عليه بدأ الأفراد العارفون يجمعون التحف، وبدأت الحكومات تشجع على أعمال الحفر وتشرف عليها وتأخذ نصيبها مما وجد، وكان ذلك النواة الأولى لإيجاد المتاحف العامة.

ونحن وإن كنا نعلم تمام العلم أن باريس كانت القلب النابض للآثار وتجارة العاديات بالنظر إلى ما جلبه نابليون؛ إلا أن ظهور نتائج الحفريات في روما وفي بلاد الإغريق ووصول أهم ما وجد في أثينا على مرتفع أكر وبوليس من أعظم ما رأت العين من نحت الرخام وأعمال التصوير والحفر التي جمعها البارون إلجين والمجموعة الرائعة التي تمثل الفن الأجيني إلى مونيخ، ومجموعة منحوتات أفاريز معبد برجامون التي تمثل الفن البرجاموني أحسن تمثيل إلى برلين كل هذا قاسم عظمة باريس وجعل من هذه المدن مدارس للفن ولدراسته العليا.

وبتأسيس المعهد الأركيولوجي في روما (1829)، وما قام على تأسيسه من إنتاج هائل ونشاط بديع، وبإيجاد معاهد أركيولوجية لبلدان أخرى - إلى جانب الأكاديمية الفرنسية منذ سنة 1666 - فإن هذا مما ساعد كثيراً على إيجاد المواد العلمية لتاريخ الفن الذي لا يقتصر على ما هو قديم؛ بل يتناول كل إنتاج ففي أياً كان عصره، إلا أن الطريقة التي يسلكها في التسجيل والنقد والتقدير والتأريخ للقديم لا يمكن أن تكون مشابهة لتلك التي يستخدمها للفن المعاصر الذي شوهه ذوو الأغراض والعجزة المدعون ممن يعتمدون على تشجيع غير الدارسين، وعلى دعاية الصحافة التي تدعي حرية الفكر والعمل، لأسباب جوهرية سنذكرها في مقال خاص بفلسفة الفن الحديث

ولقد ظهر بعض الصور المحفور أصلها على لوحات من النحاس - مثّلت روائع العمارة، وأول هذه على ما نذكر، ما أخرجه جون فيليبيا في كتابه 1687. وكذلك أندريه فيليبيا في كتابه: 4 1705. اللذان سلكا فيهما مسلكاً نقديّاً علميّاً للإنتاج الفني الحديث، وكان للكتاب الأول صدى مهد السبيل لترجمته إلى اللغة الألمانية (طبع بهامبورج سنة 1711).

أما تأريخ الفن المتوسط، ولا سيما فن البناء، فقد ظهر الاهتمام به في إنجلترا أولاً وكان هذا في أواخر القرن الثامن عشر.

وفي ألمانيا اشتغل فريق من العلماء بتأريخ فن التصوير الألماني القديم (نسبيّاً) على رأسهم فواسيريه وفون كوانت وفرانس كوجلر وهيدلوف؛ وكان لإنتاجهم ونقدهم صوت مسموع، جعل من الفنانين تلامذة يقدرون الفن القديم (نسبيّاً) ويقتبسون منه ويسيرون على ضوئه ويعملون على إحياء ما بلى منه؛ فظهر أثر الفن المتوسط لا سيما الفن الرومانتيكي.

وظهر في فرنسا مثل هذا الاتجاه على أيد فاضلة نسجل بعضها كفواليه لي دوك ولابورد وشابوي ودوسوميرار ودالي وبالوستر، وظهر في أسبانيا كافيدا، وفي إنجلترا ستريت، وبوجين وجوتر وفرجسون. وكانت النتيجة لهذا المجهود الشامل أن تأرّيخ الفن الوسيط تأريخاً جامعاً كاملاً. وهنا استطاع المؤرخ الفني المستقل أن يربط بين هذه التآريخ بعد التمهيد وتم الأمر في النهاية بوضع تاريخ الفن المتوسط على الأسس الحديثة.

ولتأريخ الفن الإيطالي في عصر النهضة قصة، فجو إيطاليا حبب الرحيل إليها، وجمال الفن الإيطالي لفت النظر إليه، هذا إلى جانب قيمة استقلال البلاد مما يبعد عنها الدهماء من الأجانب فلا يلتقي فيها سوى أهل العلم والفضل من مختلف الأمم؛ فاهتم فريق منهم بتأريخ فن عصر النهضة الإيطالي، ولا نزال نذكر جوتييه وبرسييه وفونتان وليتاروبلي. وكتاب (أبحاث إيطالية) لمؤلفه رومور (طبع برلين في ثلاثة أجزاء 1827 - 31) من خير ما ألّف لهذا العصر، ففيه تناول المؤلف طريقة النقد الفلسفي للفن. وعلى منواله نسج كل من بورشاردت الألماني ولانسي وكفالكاسيل وموريللي الإيطاليين وكروا الإنجليزي، وهؤلاء جميعاً ولا شك أئمة مؤرخي الفن المحدثين.

وفي نفس المرحلة الزمنية كان قد بدأ فريق من علماء هولندا بالاشتغال بتأريخ الفن أمثال شابس وإيمرتسيل وغيرهما؛ على حين اشتغل باسافان وفاجين بمشاهدة التراث الفني وتأريخه على أساس النقد المقارن، واجتهدا في إيجاد صلات وروابط فنية بين إنتاج الأمم المختلفة وطناً المتشابهة إنتاجاً، نتيجة لتشابه الموقع الجغرافي العام وتشابه الوسط الأوربي والعقلية والثقافة التي كانت تحيط بها العقيدة الدينية إحاطة كاملة

إلى هذه اللحظة لم تكن المؤلفات الحديثة عن تأريخ الفن العام قد ظهرت بعد، ولم يكن بد من العمل على إيجادها، فتكاتف لحسن الحظ فريق من علماء الألمان - كسابق تكاتفهم في مضمار تأريخ الفلسفة - على إخراج مؤلف شامل؛ فظهر في الأفق كتاب (شنازة) وبعده بقليل كتاب (لوبكه) وبعده الكتاب القيم (لأنطون شبرنجر) وقسمت الكتب إلى عصور والعصور إلى مراحل والمراحل إلى شعوب فكان منها تاريخ الفن القديم بما فيه تاريخ فن ما قبل التاريخ، وتاريخ الفن المتوسط وتاريخ الفن الحديث، هذا فضلاً عن تقسيم الإنتاج الفني نفسه إلى عمارة ونحت وتصوير وفنون رفيعة وموسيقى وغيرها

وكان للتصوير الفوتوغرافي قيمة في المساعدة على إخراج الكتب مزوّدة بصور الإيضاح التي يعتمد عليها تاريخ الفن كل الاعتماد والتي بدونها يفقد المؤرخ الفني أهم مادة من مواد درسه، حتى لترى بعض الجامعات تشترط على طالب تاريخ الفن والآثار الدراية التامة بالتصوير الفوتوغرافي الذي بدونه لا يتم له العمل.

وظهرت معاجم ودوائر معارف للدراسات الفنية والآثار ننعم بها، فضلاً عن المجلات الخاصة وعن تقارير أعمال الحفر والاستكشاف الخ.

وكان للتقدم الباهر في علم الجيولوجيا قيمته وأثره في تاريخ الفن وعلم الآثار كما كان لتقدم دراسة الأنثروبولوجيا أكبر الأثر في تحديد الإنتاج الفني لكل شعب.

من كل هذا نرى أن تأريخ الفن والكتابة فيه وتناوله بالنقد ليس بالأمر اليسير وليس مما يباح في البلاد المحترمة لغير المتخصصين.

أحمد موسى