مجلة الرسالة/العدد 288/رسالة العلم
→ استخبار صحفي (ريبورتاج) | مجلة الرسالة - العدد 288 رسالة العلم [[مؤلف:|]] |
هجرة الأسماك ← |
بتاريخ: 09 - 01 - 1939 |
لماذا أحاول تصوير العالم وفق الآراء الحديثة
للدكتور محمد محمود غالي
صحيح أن كل أفعالنا وحركاتنا الخاصة بحياتنا اليومية أو اتجاهاتنا الشخصية متعلقة بأحكام لا يمكن للعلم أن يكون الأساس المباشر للتصرف فيها. فإن العلوم كما يقول ريشنباخ لا تجيب أبداً على السؤال الآتي: (ماذا يجب أن أفعل؟) ومع ذلك فإن هناك اتصالاً بسيكولوجية بين درجة معرفة الرجل للعلوم وموقفه إزاء المشاكل التي تعترضه في الحياة وتقديره لبعض المسائل، وإننا نلاحظ أن كل المذاهب الفلسفية أو علم الأخلاق تبدأ بنظريات في العلوم ذاتها، نظريات تتعلق في العادة بصورة من صور العالم، والمتأمل يجد علاقة بين الاكتشافات العلمية الكبرى وأعمالنا أو نوع تفكيرنا. خذ مثلاً انقلابنا في التفكير الفلسفي من جراء اكتشاف كوبرنيك لدورة الأرض حول الشمس، هذا الاكتشاف الذي يذكر الأستاذ محمد مختار عبد الله في إحدى مقالاته الممتعة بجريدة الأهرام في العام المنصرم أنها اكتشافات بدأت من أيام العرب. ولست بصدد أن أناقش أصل الاكتشاف ونصيب كل عهد فيه ولا التحديد من موجة الرجوع عندنا بكل شيء لعهد العرب، وإنما أذكر أن الفكرة في ذاتها خارجة وغريبة عن أعمالنا اليومية - عن علاقتنا سواء بالأشياء أو الرجال أو مظاهر الحياة.
أن تدور الأرض حول الشمس، أو تدور الشمس حول الأرض، فإن هذا قد يُظن من موضوعات الفلك أو من موضوعات الترف في المعرفة. ولكن لنا أن نتأمل الناحية الفلسفية ونتأمل النتائج المترتبة عليها؛ وأولى هذه النتائج أن الأرض ليست هي جوهر العالم وما هي إلا سيار صغير جداً بين كثير من السيارات تدور كغيرها حول الشمس، وهذه الأخيرة أي الشمس ما هي إحدى إلا إحدى ملايين الشموس المماثلة وليست من أكبرها؛ وهذه الملايين تكون عالماً، وهنالك الملايين من ملايين العوالم المماثلة يتكون منها الكون. هنا وقف المرء مخذولاً في تفوقه أمام الظواهر الطبيعية؛ وهنا يتضح له شيء من العلاقة الدقيقة بين الإنسان وبين الأرض التي تحويه وبين الوجود، فالمعرفة العلمية لها أثرها على مشاعرنا وتصرفاتنا، وهذا هو الذي يحدو بالقارئ إلى تتبع مثل هذه المقالات.
إن التفصيلات العلمية بعيدة عن حياتنا اليومية ولكن لمعرفة النتائج والإلمام بالصعوبات التي اعترضت العلماء - أثرها في حياتنا الشخصية.
لذلك لم يتأخر علماء أعلام مثل فابري أستاذ الطبيعة بالسوربون وعضو المجمع العلمي الفرنسي وريشنباخ وغيرهما أن يكتبوا سلسلة من المقالات في المجلات الأسبوعية أو الشهرية أو في الكتب المبسطة. والأخير من كبار الأساتذة السابقين في ألمانيا الذين تنتفع الآن بمعلوماتهم جامعة (استنبول) وتحويهم تركيا الجديدة التي اقتنعت أن بين الذين شتتهم الظروف السياسية في العالم اليوم مواهب يمكن الاستفادة منها.
صحيح أن الشخص العادي لا يعنيه معرفة الظروف التي حدث بباستير إلى اكتشاف ميكروبات الأمراض المختلفة مثل الكلب والحمى الفحمية بقدر ما يعنيه المصل أو الطريقة المعدة للعلاج؛ وقصة اكتشاف كالمت لعلاج الدفتيريا لا تهم الجمهور بقدر ثقتهم اليوم بأن للدفتيريا مصلاً للوقاية منها، بل إن الشخص العادي لا يهمه دوران الإلكترون حول نفسه وحول مركز الذرة بقدر ما يهمه النتائج والانتصارات الفعلية للكهرباء.
ولو أن العالم صورة صادقة لما نراه في حياتنا اليومية. ولو أن مجموعة المعارف التي نُطبقها تمثل لنا صورة صحيحة لهذا العالم لما كان إلا شيئاً كالأشياء المادية التي تحيط بنا، أشياء تتأثر بالقوانين الطبيعية البسيطة التي درسها معظمنا في المدارس الثانوية أو العالية كانتشار الضوء في خط مستقيم وغير ذلك. فالمواد في هذا العالم البسيط حديد وخشب وحجارة نستخدمها لعمل الأدوات والآلات، وتجد أن المادة في هذا العالم البسيط تكون صلبة أو سائلة أو غازية كما أننا نجد فيه الحرارة والبرودة والصوت، بل تجد أيضاً الكهرباء التي لا نراها ولكنها تدخل في كثير من حاجاتنا. هذه الظاهرة ينسى الكثيرون أن يحاولوا تصورها، وكل ما نعلمه أنها تتولد من آلات خاصة وأنه من الممكن نقلها بالأسلاك. وفي هذا العالم البسيط يجري ترام وأمنيبوس، ويقهر الأرض فيه قاطرة وتحلق طائرة وتتعالى أصوات الآلات في المصانع، وتتدافع الأشخاص بالمناكب في مدن مكتظة، وتزدهر الحقول بفعل الفلاح وفعل الجو والماء، وتجري الأنهار وتقام عليها الجسور، وغير هذا على هذه الأرض السيارة والتي نشعر بما فيها وعليها بحواسنا الخمس: السمع والبصر واللمس والذوق والشم ويهيمن عليها وعي وتدبير يطلقون عليهما العقل، وفي هذا العالم البسيط تعلونا سماء زرقاء في مصر ملبدة بالغيوم في غيرها، حيث تجري الكواكب في مجراها، وكل هذا العالم غارق في بحرين كبيرين: الزمن والحيز، هذان البحران أصبحا موضع عناية الباحثين والعلماء المدققين. الزمن والحيز، عاملان نعتقد أننا جميعاً نعرفهما أو هما في غير حاجة لدراسة معينة فقد ألم بأمرهما كل من أتيحت له الفرصة أن يجلس على مقعد بالمدرسة.
هذه الصورة البسيطة للعالم والتي عللها العلماء لنا بقوانين بسيطة سواء في الميكانيكا أو الطبيعة أو الكيمياء لم تعد بسيطة كما عهدناها.
ففي جو التفكير العلمي انقلاب شديد لم يشعر به الرجل البعيد عن الجامعات ومعامل البحث. وشعر به العلماء والجامعيون المشتغلون، والواقع أننا لو انحرفنا قليلاً عن الأوضاع البسيطة التي ذكرناها والأوصاف التي قدمناها وأردنا أن نعرف للعالم صورة أدق من الأولى صورة تنطبق على الآراء العلمية الحديثة، فلا مادة حسب التفكير الأول البسيط، بل إن المادة جسيمات صغيرة جداً في حركة دائمة، وهذه الكوبة المملوءة بعصير البرتقال مثلاً أو الماء الصافي تمثل مجموعة من ملايين الأجسام المتحركة، فهي شبه مجموعة من النحل حول خليتها في حركة دائمة، فكما أنه ليس هناك سطح معين لمجموعات النحل حول الخلية، فإنه لا سطح معيناً للماء في الكوبة بل مجموعات من الجسيمات هنا وهناك تعد بالملايين.
وفي هذا العالم الذي نعيش فيه والمملوء من هذه الجسيمات المتحركة لا ضوء هناك ولا لون ولا صوت، فكل هذه مظاهر لا تختلف إلا بعدد في الذبذبات والتردد؛ فالذي نسميه مادة أو ضوء ما هو إلا كهرباء، بل لا فارق بين الطاقة والمادة، ويمكن القول اليوم أن الاثنين شيء واحد، بل المادة نفسها كهرباء والكهرباء مادة
على أن قوانين هذا العالم المضطرب تختلف حسب صورته الجديدة اختلافاً كبيراً عن الأشياء التي تعودناها في حياتنا اليومية والتي لم تظهر القوانين التي نعدهما صحيحة لنا إلا لأنها متوسطات للقوانين الحقيقية للعالم على صورته الجديدة.
هذا الاختلاف في صورة العالم ومظاهره قد تعدى كل شيء حتى إن القوانين العادية الخاصة بالزمن والمسافة التي تحكم هذا العالم تختلف اختلافاً مبيناً عن التي تعلمناها في المدارس، فالحيز الذي اعتدنا أن نتصور فيه طوبة أمحوتب، هذه الطوبة التي نستعملها اليوم لبناء منازلنا، هذه الطوبة ذات الطول والعرض والارتفاع، هو حيز معوج؛ والمثلث الذي اعتدنا أن نعتبر مجموع زواياه تساوي قائمتين، هو في الواقع ليس كذلك؛ والخط الذي اعتدناه مستقيماً يلتف في النهاية حول نفسه، بل إن الزمن ذاته يحمل في طياته أغرب القضايا بعدم التعيين أو المعرفة، ويتبين لنا ذلك إذا حاولنا أن نحدد زمنيّاً حادثين بعيدين الواحد عن الآخر.
فتبيان هذه الموضوعات وسرد قصة العالم بالتقرب ما أمكن من حقيقته تكون اليوم مجموعة من المعلومات الثقافية ذات الأثر في تكوين الفرد وتفكيره وحكمه على الأشياء.
هذه المجموعة الجديدة تختلف كل الاختلاف عن الصورة التي عهدها القارئ لهذا العالم التي ترتسم في ذهننا بما نراه وما اعتدناه وتعلمناه. على أن المهم في ذلك أن هذه التطورات العلمية الأخيرة التي تلزمنا كما سنرى أن نعامل الأشياء بقوانين مختلفة، كان لها تأثير في عالم الاكتشاف والاختراع مما سيكون له أثر على الجيل القادم.
ليس من السهل أن نطالب كل امرئ بتصديق كل هذه التطورات العلمية الجديدة دفعة واحدة وبدون سابق شرح، لهذا عمدت إلى هذه المقدمة التي نوهت فيها على قدر الإمكان ببعض الموضوعات التي سأتناولها
وكأني أشعر بالقارئ يسائل نفسه كيف وصل العلم لمثل هذه القضايا والتفسيرات الجديدة التي تجعله يتشكك في أبسط الأشياء، في الخط المستقيم الذي اعتاد اعتباره كذلك، في فضاء أقليدس ومحاوره الثلاثة، الذي كان نتيجة طبيعية لتصوره. كيف وصل العلم لهذه التفسيرات الجديدة التي ظاهرها غريب شاذ ولا تدل عليه أعمالنا اليومية؟ ألا تكون ضرباً من التخمين والاجتهاد العلمي الذي يراد به تفسير بعض الظواهر ولن يلبث العلماء حتى يعودوا إلى النظريات القديمة؟ ألا تكون الحال كالصور الحديثة عندما زهد الفنانون في إخراج صورة خالدة مثل (الجيوكوندا) من عمل (ليورناد دي فنسي) فمثلوا لنا وجه المرأة بدائرة داخلها نقطتان، والشجرة بخط أو خطين
ولكني أجيب القارئ أن الأمر ليس كذلك، فليس الذي يدفع بالعلماء لهذه النظريات الجديدة هو حبهم للتخمين، رغبة في جديد وهجر لقديم؛ وبينما يعرف الفنان أن الإقبال على فنه موقوف إلى حد ما على التغيير وترك القديم للحديث، فليس هذا شأن العالم، غذ أنه مثل الرجل العادي على حد سواء يسعى دائماً لتبسيط المسائل وليس له مصلحة في التعقيد. والواقع أنه إذا كان قد وصل الآن إلى مثل هذه الصورة المقعدة للعالم فان ذلك لأنه أراد أن يعرف للعالم حقيقته ويتوغل نحو المعرفة لأقصى الحدود.
على أنه في هذا المجهود الذي يقترب فيه رويداً رويداً من حقيقة الكون وسر الوجود والذي يرسم لنا فيه صورة للعالم أكثر انسجاماً من صورته الأولى، يعمل لتقدمنا إلى الأمام كجنس سوف يختلف فيه الإنسان القادم عن الحالي، كما اختلف الإنسان الحالي عن القردة.
ألم نكشف النار وظلت تجهلها القردة؟ ألن نصنع لأنفسنا طوبة أمحوتب وظلت في الكهوف؟ ألم نكشف أخيراً الكهرباء وإشعاع المادة وتهدم الذرة؟ ألم نعرف القاطرة والطائرة، والتلفون والتلغراف، والمصباح وأنبوبة النيون، والراديو والتلفزيون؟
لقد كلفتني هذه المقدمة والتفكير في المقالات التي تليها قراءة عشرات الكتب وحضور الكثير من المحاضرات فطالعت دي بروي وبران وفابري ومليكان وسودي وإدنجتون وجن ومارسل بول وريشنباخ وغيرهم ممن حاولوا بجانب أعمالهم العلمية أن يقوموا بدور تبسيط العلوم. وقد اعتزمت أن تكون مقالاتي أكثر في التبسيط من هؤلاء، ولكني أرجو ألا أذهب في التبسيط إلى الحد الذي تُقتل فيه الموضوعات وتتهدم فيه فائدة القراء. ولا أدري ماذا كان وقع هذه الكلمات على القراء، فهم أدرى بها مني، وهم الذين يقدرون إن كان هذا التبسيط كافياً. ولا تظن بعد ذلك أنني سأتحدث في المقال القادم في أول درس في الزمن حسب ما يراه إينشتاين، أو الحيز حسب ما يفهمه ريمان، أو أحدثك عن كون يتمدد وفق آراء (دي ستير) وملاحظات هبل أو أدخل بك في الذرة وتهدمها اليوم تحت معاول العلماء مما سيكون موضوع أحاديثي القادمة، ولكني أرجو أن تسمح لي أن أتمم هذه المقدمة التي آمل أن يكون منها فائدة، فأتحدث أولاً عن الطريقة التي يشتغل بها العلماء. ما هي منابعهم؟ ما هي طرائق العلم الحديث؟ فأفرق بين العلم النظري والعلم التجريبي.
وفي هذا سأنتزع كل ما أمامي من الكتب والمؤلفات فأدعها جانباً لأني وقد قضيت زهرة العمر في المعامل، وفي معامل البحث يصح أن أتحدث عن الوسائل الحديثة التجريبية، وأفرق بين عالم التخمين وعالم الحقيقة، وأدل القارئ - كيف يسيطر العلماء اليوم على حالة التقدم.
فإذا انتهيت من هذا في المرة القادمة يصح أن نجول معاً بعد ذلك في الكلام عن الحيز ثم الكلام عن الزمن فنكون قد اشتركنا معاً في أول درس حقيقي من دروس الفلسفة الطبيعية.
محمد محمود غالي
دكتوراه الدولة في العلوم الطبيعية من السوربون