الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 288/الفكاهة والطغيان

مجلة الرسالة/العدد 288/الفكاهة والطغيان

بتاريخ: 09 - 01 - 1939


للأستاذ عباس محمود العقاد

ملَكة الفكاهة نعمة من نعم الحياة، وخاصة من خواص الإنسان، وعلامة من علامات الارتقاء. ولكنها خليقة أن تعدَّ في النقم إذا هي سوغت ما لا يساغ وأباحت ما لا يباح، كالإذعان لحكم طغيان، والاجتراء على حقوق أو حرمات.

سمعت من سعد زغلول رحمه الله أن (أحمد زيور) في الوزارة أخطر من عبد الخالق ثروت ومَن على طرازه، لأن أحمد زيور لا يثير الغضب في المصريين بل يحفز فيهم ملكة الفكاهة ويقلب الأمر من جد إلى مزاح؛ وهم لا يكرهون ذلك، وقد يستمرئونه ويمضون فيه، فيقبلون على يديه ما لم يقبلوه على أيدي الآخرين، ويأتي الخطر من هذا الباب.

وذكرت هذا وأنا أقرأ الفكاهات التي يرويها الرحالون والناقدون الاجتماعيون عن الألمان والروس والطليان وسائر الأمم التي يحكمها أصحاب السلطان المطلق في هذه الأيام.

فينبغي أن نعلم أن هذه الأمم تصنع ما يصنعه المصريون أحياناً من مقابلة الطغيان بالفكاهة، ومن مجازاة السطوة بالنكتة، فيصول عليها الحاكم وهي تضحك منه، وتتفكه بالأحاديث عنه، وتظن أنها أخذت منه بمقدار ما أخذ منها، فتستريح إلى هذا القصاص!

قيل أن القائد جورنج يحب النكتة البارعة، ويطرب للفكاهة الجيدة، ويود لو يسمع ما يتداوله الناس من أقاويل السخر والمزاح عن الحكومة الحاضرة في البلاد الألمانية، ولكنه لا يصل إليها لخوف الناس من كتابتها أو الجهر بها، فاتفق وسائق سيارته على أن ينقلها إليه كلما سمع شيئاً منها، وله خمسة قروش على كل نكتة مقبولة.

قال الراوي: فطاب المورد للسائق المحروم وحرص على احتكار البضاعة كلها في هذه السوق. ثم جاء إلى القائد يوماً بحفنة صالحة من النوادر اللاذعة، فداخل القائد شيء من الغيظ وأشفق من ذيوع هذا الضرب الأليم من التنكيت، وقال كأنما يحدث نفسه: (ليضحكوا ما شاءوا. . . إنهم لا ينسون على كل حال أنهم أعطونا تسعة وتسعين في المائة من أصواتهم في الانتخابات الأخيرة. . .!)

فصاح به السائق وقد خاف على مورده المحتكر: سيدي القائد! من الذي باعك هذه النكتة؟!

وروى الراوون أيضاً أن زوجة شابة انتظم زوجها في إحدى الفرق العسكرية الحديثة فطال غيابه عن المنزل وامتدت ساعات التدريب إلى ما بعد الهزيع الأول من الليل، حتى تعودت أن تنام ولا تنتظر أوبته حين يؤوب. وتمادى على ذلك فترة طويلة، فأحبت أن تنبهه بعض التنبيه عسى أن يحتال للخلاص من هذا التدريب أو من تلك المواعيد، فتركت على الموضع الخالي من السرير ورقة كبيرة أشبه شيء باللوحة التي تكتب للتذكار، على بعض الأنصاب والآثار، وكتبت عليها: (هنا!. . . حيث كان يرقد زوجي قبل التحاقه بالفرقة العسكرية). . . فضحك حين رآها. وسمع الجيران بالخبر فضحكوا وتناقلوا الورقة بينهم بضعة أيام. . . وسرى الخبر إلى مكتب الاستطلاع فضحك أيضاً ولكنه اعتقل الزوجة أياماً في معتقل التأديب أو العقاب).

أما في الروسيا فالفكاهات التي يخترعها الظرفاء للضحك من النظام القائم فيها لا تحصى، ولا تقل في الرواج عن الفكاهات الألمانية.

قيل إن مندوباً من مندوبي الحكومة أراد أن يستطلع طِلْع الفلاحين الذين يطوفون أو يساقون إلى الطواف بضريح لينين وهو معروض فيه مكشوفاً للأنظار.

فسأل واحداً منهم: ما رأيك فيه. .؟ أي في الزعيم لينين.

فأجاب على البديهة: حاله مثل حالنا. . . ميت ولكنه لا يدفن!

ووقف فلاح على مقربة من آلة المذياع وهم يركبونها، فسمع المهندس يقول: إن كل كلمة تلفظ هنا تدوي في جوانب العالم كله. فهل منكم من يريد أن يقول (كلمة واحدة) باسم الروسيين؟ فأومأ الفلاح أن نعم. . . وتقدم إلى بوق المذياع فصاح: (النجدة!)

وقفزت جماعة من الأرانب من الحدود الروسية إلى الحدود البولونية، فدهش الحراس البولونيون لكثرتها وسألوها: ما الخبر؟ فقال واحد منها: إن مكتب الاستطلاع قد أصدر أمراً بالقبض على جميع الزرافي التي في الأقطار الروسية. . . قال الحارس: وما شأنكم أنتم وأنتم أرانب ولستم بزرافي؟! فقال الأرنب: (صحيح! ولكن هل لك أن تثبت ذلك لمكتب الاستطلاع؟!)

وعمت الشكوى من مكتب الاستطلاع هذا فأشاع الظرفاء الروسيون أن الزعيم ستالين قد أمر بتسريحه وشدد على رجاله أن يتلطفوا إلى الناس غاية التلطف لينسوهم فظاعة ماضيه.

إلا أن الفلاحين المساكين لم يسمعوا بهذا الذي أشاعه الظرفاء البلديون، فبينما كانت طائفة منهم في مركبة كبيرة إذ عطس أحدهم عطسة عنيفة سمعها من في الطريق، فأطل واحد من رجال مكتب الاستطلاع في المركبة وسأل: من الذي عطس هذه العطسة؟

فاضطرب الركب وسرى فيهم الرعب وطفقوا يلكزون العاطس المتواري أن يبرز نفسه ويحمل وحده وزر عمله ولا يجور على أصحابه جميعاً بجريرة عطاسه، فلم يسع الرجل إلا أن يعترف بالحقيقة ويقول في كثير من الوجل والتلعثم: أنا. . .!

قال الراوي: فانحنى مندوب مكتب الاستطلاع تنفيذا لأمر الزعيم ستالين وقال: يرحمك الله!

ويروي الظرفاء الروسيون أن طوفاناً من السباب والتبكيت والتعزير سمع ذات يوم في الحجرة المجاورة لمكتب الرفيق ستالين. فانتظر الحجاب حتى يفرغ الزعيم من حديثه، ثم فتحوا الباب ليسحبوا منه الرجل المنكود الذي وقعت على رأسه كل هذه الشتائم والمقذعات، فما راعهم إلا أن يبصروا المكتب خالياً وليس فيه أحد غير الزعيم.

- أين الرجل المنكود الذي كنت تشتمه؟

- فأجاب الزعيم: أنا هو. . . وقد فرغت الساعة من حصة المناجاة!

عرضت هذه النوادر و (القفشات) وعرضت معها نوادر المصريين وقفشاتهم للرومان والترك وقره قوش وسائر الحاكمين الذين نالوا من المصريين بالقسوة، ونال منهم المصريون بالنكتة، فورد على خاطري هذا السؤال العجيب: لو كنت حاكماً طاغياً ماذا أصنع لهؤلاء الساخرين؟ هل أطلق لهم العنان يرسلون النكات والقفشات حيث يشاءون؟ أو أحسب حساباً لعواقب هذه النكات والقفشات فاحجر على أصحابها ومذيعيها وأتعقبهم بالمصادرة والجزاء؟

إن النكتة تلطف وطأة الظلم وتوهم المظلوم أنه ينتقم لنفسه بعض الانتقام فتهوّن عليه الشدائد وتروضه على الصبر والانتظار، فهي من ثم معين للحكام على المحكومين.

إلا أن النكتة قد تزري بالمهابة وتعصف بالرهبة وتجعل الحاكم المخيف أضحوكة في الأفواه ومهزلة للسامرين؛ فهي من ثم مضعف لسلطانه ومجرئ على مقامة ومحرض على الثورة والانتقاض.

هي بلسم للمظلومين فهي مقبولة

وهي سلاح للمظلومين فهي مرهوبة

فماذا يحسن بالحاكم المستبد أن يصنع مع هؤلاء المازحين؟

ليس لهذا السؤال جواب فاصل فيما أحسب، ولكني أقرر الحقيقة إذا قلت إن المحكومين لا يحاربون الظلم بالفكاهات والنكات إلا إذا كان للصبر بقية، وفي قوس الاحتمال منزع كما يقولون، وإن الحاكمين لا يتسمحون في قبول الفكاهات والنكات إلا إذا كان للقوة بقية وللثقة بدوام السلطان مجال فسيح.

أما إذا ضاقت الصدور ونفذت الحيل فالمحكومون لا يعتصمون بالفكاهة والتنكيت بل يغضبون ويثورون.

وكذاك إذا ضاعت ثقة الحاكم بدوام سلطانه لم يصبر على السخرية والمزاح، وعالج الحجر عليها عسى أن يستعيد شيئاً من المهابة والامتناع.

وبعد هذا وذاك يجب علينا أن نفرق بين الفكاهات، وأن نفرق كذلك بين الطبائع التي تتخذها وسيلة لحرب الحكومات.

فالفكاهة التي قوامها تلفيق الجناسات اللفظية والملاحظات الشكلية لا تخيف أحداً من العقلاء. أما الفكاهة المخيفة حقاً فهي تلك التي تنفذ إلى العظم وتسري إلى قرارة الأمور، ولا ينطبع على هذه الفكاهة إلا أناس يعملون حين يتفكهون، ويجترئون حين يسخرون.

عباس محمود العقاد