الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 288/الشريف الرضي وخصائص شعره

مجلة الرسالة/العدد 288/الشريف الرضي وخصائص شعره

مجلة الرسالة - العدد 288
الشريف الرضي وخصائص شعره
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 09 - 01 - 1939


للأستاذ عبد الرحمن شكري

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

على أن الوجدان يفيض في شعر الشريف حتى من غير الاستعانة بهذه الصيغ البيانية. أنظر إلى وصفه حبيبته في قوله:

تُحَبِّبُ أيامَ الحياةِ وإنها ... لأَعذبُ من طعم الخلود لطاعم

وتراه يستجمع أساليبه البيانية كلها في قصائدهِ الطويلة المشهورة كرثائه للصابي وللصاحب في قصيدتيه التي يقول في مطلع واحدة:

أعلمت مَنْ حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟

وفي مطلع الأخرى:

أكذا المنون تُقَطِّرُ الأبطالا ... أكذا الزمان يضعضع الأجْبالاَ؟

وهاتان القصيدتان من أفخم قصائده في الرثاء وإن كان الحنين فيهما أقل منه في قصائده في رثاء أهل بيته. وله في رثاء الصابي قصائد أقل فخامة وإن كانت أكثر حرقة. ومن أكثر قصائد الشريف في الرثاء وجداناً قصيدته العينية المشهورة التي يقول فيها:

لله نفرة وجد لست أملكها ... إلاّ تذكرتُ إخوان الصفاء معي

وفيها يقول:

الآن نعلم أن العيش مُخْتَلَسٌ ... وأننا نقطع الأيام بالخُدَعِ

أُخَيَّ لا رغبت عيني ولا أذني ... من بعد يومك في مَرْأَى ومُستَمَعِ

وقصيدته التي يقول في مطلعها:

قف موقف الشك لا يأس ولا طمع ... وغالط العيش لا صبر ولا جزع

وهي في نظري من أكثر قصائده في الرثاء وجداناً. ومن قصائده الوجدانية في الرثاء في آل المسيّب العينية التي يقول فيها:

وفارقني مثل النعيم مفارقاً ... ووَدَّعَني مثل الشباب موَدِّعا

ومن قصائده الحبيبة في الرثاء قصيدته في رثاء أمه وهي أكثر وجداناً من قصيدة المتنبي في رثاء جدته التي يقول فيها: وإنْ لم تكوني بنت أكرم والد ... لكان أباك الضخم كونك لي أمَّا

وللمعري قصيدته الطويلة الفخمة في سقط الزند في رثاء أمه التي يقول فيها:

مضتْ وقد اكْتهلت فخُلتُ أني ... رضيع ما بلغتُ مدى الفِطام

ويقول:

سألتُ متى اللقاء فقيل حتى ... يقوم الهامدون من الرجام

فليتَ أَذِينَ يوم الحشر نادى ... فأجهشت الرمام إلى الرمام

ولكن قصيدة الشريف أسهل وأسلس وأكثر وجداناً وهي التي مطلعها:

أبكيك لو نقع الغليل بكائي ... وأقول لو ذهب المقال بدائي

وهي كلها ألصق بالموضوع من بعض أجزاء قصيدة المعري. ولابن نباتة السعدي قصيدة تستجاد في رثاء أمه يقول فيها:

فَقدْتُ كبيراً بِرَّ أم حَفِيَّة ... كما فقد الثَّدْيَ المعلّل مُرضعُ

تُبادرُ نحوي تبتغي أن تسرني ... ولم تدْرِ أني بالسرور أُرَوَّعُ

إلى أن قال:

إلى أي تعليل وأي مَبَرَّةٍ ... وود نصيح بعد ودك أرجع

ولأَمْرٍ ما تذكرني قصيدة الشريف بقصيدة كوبر الشاعر الإنجليزي في رثاء أمه؛ ولعل الذكرى لأثرهما في الوجدان فحسب لا لشبه كبير.

وللشريف قصيدة في التعزية تستحب للتلطف في التعزية تلطفاً يجيده الشاعر الوجداني وهي التي مطلعها: (لو رأيت الغرام يبلغ عذراً).

وقصائد الشريف في رثاء جده الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مشهورة جيدة فخمة، ولكنها في نظري من حيث هي شعر وجداني أقل مما ذكرت من القصائد. وربما أكون مخطئاً، وهي لا ينقصها التحرق والتأسف ولكن قيمة الشعر الوجداني ليست بالتحرق والتلدد فحسب، ولا بالفخامة ولا بدقة المنطق ولا بعكسه، وقد يكون الشعر الوجداني عكس المنطق إذا كان العكس يعبر عن صدق العاطفة، فقول الشريف في تشتت قومه وآله:

ما كان ضر الليالي لو نفَسْنَ بهِم ... على النوائب واستثناهُمُ القَدَرُ ليس من منطق العقل ولا هو عكس المنطق الناشئ من مبالغات أهل الصنعة المزيفة بل هو منطق الوجدان الذي يعبر عن النفس؛ فإن كل نفس في الحياة تطلب أن تُسْتَثنَى من آلام الحياة وصروفها ومنطق عقل صاحبها يعلم أن هذا طلب محال. فالشعر الوجداني توفيق ويصادف هوى النفس ومنطقها حتى لكأنه يخلق لها سمعاً يصغي إليه وقلباً يطرب له. وقد يكون البيت الواحد منه ألصق بالنفس وأثمن من قصيدة فخمة سواء أكانت من شعر التلدد، أو من الشعر التعليمي المحض المستقل عن العاطفة، أو من شعر الزخارف وألاعيب الذكاء في تبذله ولهوه. أنظر مثلاً إلى أبيات الشريف التي يذكر فيها كيف أنه يدافع الهموم بذكرى النعيم الزائل بينما غيره يدفعها بالخمر أو سماع الأغاني ولكنه يفيق من نشوة الذكرى كما يفيق غيره من نشوة الخمر؛ وهي الأبيات التي أولها:

إذا ضافني هم أمَلُّ طروقه ... ببعض الليالي أو أضيق به صبرا

إلى أن يقول بعد صحوه من الذكرى:

فما كان إلا خلسة ثم أنني ... رأيت يدي مما علقت به صفرا

وهي أبيات ليس فيها خيال غريب ولكن قيمتها في صدق وصف حالة للنفس ووسائلها في تعللها. وللشريف قصائد شهيرة في الإخوانيات قلما تتفق لشاعر آخر في صدق قولها وبساطتها وقربها من النفس وفي مظاهر الوجدان فيها مثل قصيدته في مودة الحب، وهو موضوع قلما يطرقه شعراء العربية عند وصف الحب في أشعارهم، أنظر إلى قوله فيها:

أينعت بيننا المودة حتى ... جَلَّلَتنا والدَّهرَ بالأوراق

أو قوله فيها:

في جبين الزمان منك ومني ... غُرَّةٌ كوكبية الائتلاق

ومن قصائده المشهورة قصيدته التي يقول فيها لصديقه:

كأنكَ قدمة الأمل المرجى ... عليَّ وطلعة الفرج القريب

والقصيدة التي يقول فيها:

وكم صاحب كالرمح زاغت كعوبه ... أبى بعد طول الغمز أن يتقوما

وهي من قصائده التي ترد كثيراً في كتب المختارات، وحق لها أن تختار. والشريف إذا جُوفِيَ عبر عن شعوره بقوله: ويُظهِرُ لي قوم بعاداً وجفوة ... وما علموا أني بذلك أفرح

فيكون هو المعزز المكرم بقوله هذا. وأنظر إلى الوجدان في قوله:

تُحَبِّبُ أيام الحياة وإنها ... لأعذب من طعم الخلود لطاعم

وهو لا يفحش في هجائه كما يفعل الشعراء ولكنه مع ذلك يدمغ خصومه، أنظر إلى قوله:

من كل وجه نقاب العار نقبته ... كالعر مر عليه القار والقطر

يَصْدَى من اللؤم حتى لو تعاوده ... أيدي القيون زماناً لا نجلي الأثر

وهي مبالغة ضرورية لأنها نكتة يراد بها السخر. وانظر إلى قوله:

تمسكوا بوصايا اللؤم تحسبهم ... تتلى عليهم بها الآيات والسور

وقوله:

لو عِيْدَ من داء الفهاهة واحد ... عادوه من عي إذا حضر الندى

وأشعاره في الشيب كأشعار أخيه المرتضى مشهورة، وقد عنى بشعرهما في الشيب صاحب كتاب (الشهاب في الشيب والشباب) وهو باب من الشعر الوجداني أيضاً. وهذه النظرة في ديوان الشريف تثبت ما قدمناه في أول المقال من أنه أكثر نصيباً من شعر الوجدان ولكن ليس له في وصف الطبيعة كقصيدة أبي تمام التي أولها (رقت حواشي الدهر فهي تمرمر) أو كقصيدة البحتري التي يقول فيها (وجاء الربيع الطلق يختال ضاحكاً) أو (شقائق يحملن الندى فكأنه) أو وصف بركة المتوكل أو وصفه آثار الفرس وغيرها من شعر الوصف التصويري. وليس له كوصف ابن الرومي غروب الشمس في قوله (وقد رنقت شمس الأصيل الخ) ولم يسر شعره في الأمثال كما سار بعض شعر المتنبي، ولم يولع بالبحث في الحياة والكون كما يفعل المعري، ولكنه مع ذلك قد أمن زلل المبالغات والتشبيهات البعيدة المرفوضة، وأمن الفتور وأمن المعاظلة والتواء القول وأمن الألاعيب اللفظية. وشعر الوجدان ليس بأقل منزلة ولا أقل أثراً في النفس من أبواب القول الأخرى التي بزه فيها منافسوه، فهو إذاً أقل منهم منزلة وله مع ذلك نظرات صائبة تدل على عقل وذكاء وذوق في اختيار ما يقول ورفض ما لا يجمل به أن يقول. أنظر إلى قوله في وصف لذة القسوة المركبة في بعض الطبائع:

يهش للمرء تغريه أظافره ... كما تهش سباع الطير للجيف إذا نجا من يديه غير منعقر ... أفنى أنامله عضاً من الأسف

وقوله:

يصل الذليل إلى العزيز بكيده ... والشمس تُظلِمُ من دخان الموقد

وقوله في أثر الأفذاذ في حياة الناس وتاريخهم:

ولولا نفوس في الأقل عزيزة ... لَغَطَّى جميع العالمين خمول

وقوله:

رب نعيم زال ريعانه ... بلسعة من عقرب الحاسد

وقوله:

كفى بقومٍ هجاءً أن مادحهم ... يهدي الثناء إلى أعراضهم فَرَقاً

وكل هذه نظرات صائبة في النفس، وله أشياء كثيرة من أمثالها، ولا غرابة أن تكون للشاعر الوجداني نظرات صائبة في النفوس. وله أيضاً وصف بديع كما قال في وصف الفرس:

إذا تَوَجَّسَ كان القلبُ ناظرَهُ ... والقلب ينظر ما لا ينظر البصر

وقال في وصف تردد الجميل في النعيم وتشبيهه بتردد القُرْط الجميل في اهتزازه على جانب الوجه الجميل بعد تشبيه تردد الحبيب في النعيم بتردد النسيم ولعبه بالأغصان:

ينأى ويدنو على خضراء مورقة ... لعب النُّعامَى بأوراق وأغصان

كالقُرْطِ عُلِّقَ في ذِفْرَى مُبَتَّلَةٍ ... بين العقائل قُرْطَاهَا قليقان

وهذا الوصف إذا تُؤُمِّل وجد وصفاً مطرباً

عبد الرحمن شكري