مجلة الرسالة/العدد 286/مصر والعروبة
→ المذياع الآدمي | مجلة الرسالة - العدد 286 مصر والعروبة [[مؤلف:|]] |
الحج ← |
بتاريخ: 26 - 12 - 1938 |
للدكتور طه حسين بك
(أخي العزيز
قرأت مقال الأستاذ ساطع الحصري بك في رسالة الاثنين الماضي، وأظن أن من حقي عليك أن تنشر ردي على هذا المقال، وما أرى أنك تبخل علي بهذا الحق
وهذا الرد فصل من كتاب (مستقبل الثقافة) الذي سيظهر بعد أيام، فهو إذن قد كتب وطبع قبل مقال الأستاذ الحصري. . . ولك أصدق المودة وأخلص الإخاء)
طه حسين
قد أشرت منذ حين إلى أن من الحق على الدولة المصرية للثقافة أن تذيعها في طبقات الشعب المصري من جهة، وأن تتجاوز بها الحدود المصرية إلى الأقطار التي تستطيع أن تسيغها وأن تنتفع بها من جهة أخرى
ولأمر ما قالت بعض الأقطار الشرقية لمصر إنها زعيمة الشرق العربي، ولأمر ما صَّدقت مصر ما قيل لها. فإن كان هذا حقاً فإن له نتائج يجب أن تنشأ عنه وتبعات يجب أن تترتب عليه. وإن لم يكن هذا حقاً فإن من الواجب علينا أن نحققه لأن فيه تحقيقاً لكرامتنا من ناحية، ولأن فيه ارتفاعاً عن الأثرة التي تليق بشعب كريم. والشيء الذي لا شك فيه هو أن الله قد هيأ لمصر من أسباب القدرة على إحياء الثقافة ونشرها ما لم يهيئ لغيرها بعد من الأمم العربية. فمما لا يليق بالمصريين وقد تسامع الناس بأنهم كرام، وزعموا هم لأنفسهم أنهم كرام أيضاً، مما لا يليق بهم أن يؤثروا أنفسهم بما أتيح لهم من الخير ويختصوها بما أتيح لها من النعمة، وإنما الذي يلائم كرمها وكرامتها وما تطمح إليه من المثل الأعلى أن يكون حديثها ملائماً لقديمها، وأن تكون مشرق النور لما حولها من الأقطار، وأن تكون البلد الذي تهوي إليه أفئدة الراغبين للعلم والراغبين فيه
وقد يظن المصريون أنهم يبلون في سبيل ذلك بلاء حسناً. فأحب أن أصارحهم بأنهم لم يفعلوا في سبيل ذلك شيئاً
إن الأقطار العربية تقرأ ما ينشر في مصر من الصحف والكتب والمجلات، ولكن مصر لم تصنع إلى الآن شيئاً لتيسر لهذه الأقطار قراءة كتبها وصحفها ومجلاتها. ولعل من هذه الأقطار ما يلقى كثيراً من الجهد في الظفر بحاجته من هذه الكتب والصحف والمجلات. ولقد يسرت مصر للأقطار العربية قراءة آثارها المطبوعة لما بلغت من خدمة الثقافة إلا أيسرها وأهونها، على أن ذلك يعود عليها بالمنفعة المادية والمعنوية جميعاً
نعم، إن مصر تيسر لبعض البلاد العربية استدعاء بعض المعلمين، ولعلها تنفق في ذلك شيئاً من المال، ولعلها تجد في ذلك شيئاً من الجهد، ولكن هذا من أيسر الأمر أيضاً. وتبعات المركز الممتاز الذي أتيح لها بين الأقطار العربية تفرض عليها أكثر من ذلك. ولست أذكر إلا أمرين اثنين، أحدهما قد أخذت مصر بأسبابه ولكن في بطء وتردد، وهو فتح أبواب مدارسنا ومعاهدنا للطلاب الشرقيين والعناية بهم إذا وفدوا على بلادنا، لا بأن نيسر لهم طلب العلم فحسب بل بأن نيسر لهم حياتهم في مصر أيضاً. وإني لأوازن بين ما تصنعه البلاد الأوربية لتحقيق العناية بالطلاب الأجانب وما نصنعه نحن فأوازن بين الوجود والعدم. ومع ذلك فأوربا حين تعنى بالطلاب الأجانب إنما تنشر الدعوة لنفسها وتستقدم الأجانب لينفقوا فيها أموالهم وليعودوا منها وقد تأثروا بها وأصبحوا لها رسلاً في بلادهم. فأما نحن فلسنا في حاجة إلى نشر الدعوة لأننا لا نطمع في شيء، ولأن الدعوة المصرية تنشر نفسها في الأقطار العربية لما تقوم عليه من الحب والمودة والإخاء. وإنما يجب علينا أن نيسر لطلاب الأقطار العربية الدرس والإقامة في مصر أداء للحق ونهوضاً بالواجب ووفاء للأصدقاء وصرفاً لهؤلاء الأصدقاء عن الرحلة إلى أقطار الغرب إن وجدوا في هذه الرحلة مشقة أو عناء.
والأمر الثاني دعوت إليه سراً منذ أكثر من عشرة أعوام حين تولى حضرة صاحب المقام الرفيع علي ماهر باشا وزارة المعارف للمرة الأولى. فقد شهدت مؤتمراً للآثار عقد في سوريا ولبنان وفلسطين. فلما عدت رفعت إلى الوزير تقريراً خاصاً طلبت فيه أن تنشئ مصر مدارس مصرية للتعليم الابتدائي والثانوي في هذه الأقطار. وكان الذي أثار في نفسي هذا الاقتراح ما رأيته من السلطان العقلي للمدارس الأجنبية على هذه الأقطار. وكنت أرى أن العقل المصري أقرب إلى العقل السوري والفلسطيني وأحرى أن يتصل به ويؤثر فيه تأثيراً حسناً من العقل الأمريكي أو الفرنسي. ولكن وزير المعارف حينئذ نبهني باسماً إلى أن ذلك ليس ميسوراً، فقد تريده مصر ولكن السياسة الأجنبية ستأباه من غير شك. وكان هذا حقاً حينئذ، فأما الآن وقد عقد بيننا وبين أوربا اتفاق مونترو، وقد ظفرت سوريا ولبنان ببعض الحرية، واستقلت العراق، فما أرى أن مصاعب سياسية تقوم دون هذا النوع من التعاون الثقافي بين الأقطار العربية التي تجمعها وحدة اللغة والدين والمثل الأعلى، والتي تشترك في منافع اقتصادية عظيمة الخطر.
ما أظن أن السياسة الوطنية لهذه الأقطار تكره أن تنشأ فيها مدارس مصرية تحمل إلى أبنائها ثقافة عربية شرقية، ويحملها إليهم معلمون شرقيون مثلهم وعرب مثلهم يتحدثون إليهم بلغتهم ويشاركونهم في الذوق والميل والشعور. وما أظن أن السياسة الأوربية تمانع في ذلك وقد تم الاتفاق بيننا وبين أوربا على أن تستقر في بلادنا مدارس أوربية وتستمتع بكل ما يمكنها من النهوض بمهمتها في حدود القوانين المصرية، وعلى أن يكون التبادل أساساً لهذا الاتفاق
وواضح أننا لا نريد أن ننشئ مدارسنا المصرية في فرنسا أو إنجلترا أو إيطاليا؛ ولكن من حقنا أن ننشئ المدارس المصرية في البلاد العربية التي تتأثر بسلطان هذه البلاد ونفوذها تأثراً قليلاً أو كثيراً
ومن المحقق أننا إذا أنشأنا المدارس المصرية في الأقطار العربية فسننشئها وسنسَّيرها على النحو الذي نحب أن تنشأ عليه المدارس الأجنبية في بلادنا وأن تسير عليه أيضاً. سننشئها على أنها معاهد للتعاون الثقافي بيننا وبين أهل هذه البلاد، لا يستأثر المصريون وحدهم بالعمل فيها، بل يستعينون بمن يقدرون على معونتهم من الوطنيين. ولا نفرض فيها الجغرافيا المصرية والتاريخ المصري دون الجغرافيا الوطنية والتاريخ الوطني، وإنما تكون معاهد ينشأ فيها الوطنيون لأوطانهم لا لمصر، وحسب مصر أنها تعين على ذلك وتشارك فيه وتؤدي ما عليها من الحق لجيرانها وشركائها في اللغة والدين والاقتصاد، وحسبها أن تظفر منهم بالحب والمودة والإخاء
وقد يقال إن أعباء الدولة المصرية أثقل من أن تسمح لها بمثل هذا التوسع في إذاعة الثقافة خارج حدودها على حين أنها في أشد الحاجة إلى إذاعة الثقافة داخل هذه الحدود. وقد يكون هذا حقاً من بعض الوجوه، ولكن من الحق أيضاً أن لحياتنا المستقلة تبعاتها، وأن التقصير في النهوض بهذه التبعات لا يلائم ما نزعمه لأنفسنا من الكرامة والزعامة ومما لا شك فيه أن هذه المدارس إن أنشأناها ستكون أنفع لمصر وللبلاد التي تنشأ فيها من كثير من القنصليات والمفوضيات التي نبثها في أقطار الأرض ولا نكاد نجني منها، ولا تكاد البلاد التي نبثها فيها تجني منها نفعا
ومما لا شك فيه أيضاً أن العبء المالي الذي يتبعه إنشاء هذه المدارس لا ينبغي أن يقع كله على الدولة وإنما ينبغي أن يشارك فيه القادرون على هذه المشاركة من المصريين أولاً ومن الوطنيين ثانياً. وحسب الدولة أن تعينها معونة قيمة بالمال والرجال
على هذا النحو تحمل مصر تبعاتها وتنهض بواجباتها الثقافية، وتلائم بين حديثها وقديمها، فقد كانت مصر فيما مضى من العهود الإسلامية مصدر الثقافة والعلم للأقطار العربية في الشرق القريب. لم تقصر في ذلك إلا حين اضطرها السلطان العثماني إلى التقصير فيه. فأما الآن وقد استردت استقلالها فيجب أن تسترد مكانتها الثقافية في الشرق القريب. وهناك بلاد عربية لم ينشئ فيها الأجانب ولا يستطيعون أن ينشئوا فيها المدارس والمعاهد، ولا يجد أهلها فضلا من المال ينفقونه في تنمية الثقافة كما ينبغي. فالحق على مصر أن تسرع إلى معونة هذه البلاد وألا تدخر جهداً إلا بذلته في هذه السبيل، وهذه البلاد هي الحجاز وبلاد الدولة العربية السعودية بوجه عام. وما أشك في أن المصريين يرضون كل الرضى عن إنشاء مدرستين على اقل تقدير، إحداهما في مكة والأخرى في المدينة، بل ما أشك في أنهم يتجاوزون الرضى إلى البذل والإنفاق. وقد علمت أن أهل الحجاز أنفسهم يتمنون ذلك ويلحون فيه
وليس هذا كل ما ينبغي أن تنهض به مصر لنشر الثقافة في الأقطار العربية، بل هناك شيء آخر قد عم الشعور به واشتدت الحاجة إليه حتى أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد له وهو: التعاون على تنظيم الثقافة وتوحيد برامجها بالقياس إلى الأقطار العربية كافة. يدعو إلى ذلك حاجة هذه البلاد إلى توحيد الجهود مادام مثلها الثقافي الأعلى واحداً؛ ويدعو إلى ذلك أن التعليم الحالي في مصر قد بلغ من الرقي درجة تدعوا إليه طلاب العلم في الأقطار العربية، وللتعليم العالي في مصر نظم دقيقة وشاقة قد تحول بين هؤلاء الطلاب وبين الانتفاع والظفر بإجازاته ودرجاته، فلابد من أن يهيأ هؤلاء الطلاب لهذا التعليم تهيئة حسنة تلائم تهيئة المصريين له. وقد اجتمع فريق من قادة الرأي الشرقي العربي منذ أكثر من عام لجنة التأليف والترجمة والنشر وتشاوروا في ذلك كما تشاوروا في غيره من ألوان التعاون الثقافي، ورسموا لذلك خطة وشرعوا له نظاماً. ثم أخذت وزارة المعارف تفكر فيه وتستعد للدعوة إلى مؤتمر عربي شرقي. والذي أرجوه أن يكون انعقاد هذا المؤتمر دورياً وأن يكون هذا المؤتمر متنقلاً في الأقطار العربية على نحو ما يسير عليه المؤتمر الطبي الذي أنشئ منذ حين.
وقد شهدت في العام الماضي - ممثلاً لوزارة المعارف - مؤتمر اللجان الوطنية للتعاون الفكري، فتحدثت فيه إلى المؤتمرين بأن مصر تستطيع أن تكون مركزاً من أهم المراكز لهذا التعاون الفكري إذا نهضت بتبعاتها الثقافية نحو الأقطار العربية. ذلك لأنها بحكم مركزها الجغرافي وبحكم نهضتها الحديثة أصدق صورة لما تطمح إليه عصبة الأمم من هذا التعاون الفكري الخالص الذي يقارب بين الأمم ويلغي ما بينها من الفروق ويرتفع بحياتها العقلية عن ألوان الخصومة وضروب النزاع. فالجامعة المصرية مثلا بيئة تلتقي فيها الثقافات الإنسانية كلها تقريباً، يحملها إليها أساتذة ممتازون من المصريين ومن الأوربيين على اختلاف أوطانهم ومذاهبهم في السياسة والدين والاقتصاد. وهذه الثقافات كلها تلتقي وتمتزج وتصهر في العقل المصري الذي يسيغها ويتمثلها ويطبعها بعد ذلك شيئاً ما بطابعه المصري الخاص. وهو قادر بعد هذا على أن يذيعها في بلاد الشرق شرقية غربية عربية أوربية بريئة مما يفسد الثقافة عادة من التعصب والهوى.
وقد وقع هذا الحديث من المؤتمرين موقعاً حسناً. فهل يقع هذا الحديث من المصريين أنفسهم موقعاً حسناً، وهل يشعر المصريون بأن فرصة ذهبية كما يقال تتاح لهم الآن؟، فلكل شر أثر حسن، والشر أن حاجتنا إلى الأوربيين لا تزال شديدة في التعليم، والأثر الحسن لهذا الشر أننا نستطيع أن نكون رسل العلم والثقافة والأمن والسلم والتوفيق بين الشرق والغرب جميعاً.
فإذا أرادت مصر أن تنتهز هذه الفرصة فذلك يسير عليها لا يحتاج إلا إلى أن تعنى بتقوية الصلة بينها وبين لجنة التعاون الفكري في جنيف ومعهد التعاون الفكري في باريس من جهة، وبينها وبين البيئات والمعاهد العلمية في الشرق العربي، بل في الشرق الإسلامي من جهة أخرى.
طه حسين