مجلة الرسالة/العدد 286/المذياع الآدمي
→ تنظيم الإحسان | مجلة الرسالة - العدد 286 المذياع الآدمي [[مؤلف:|]] |
مصر والعروبة ← |
بتاريخ: 26 - 12 - 1938 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
حالة نفسية غير نادرة، ولاسيما في الأيام الغائمة أو الماطرة.
على الأفق البعيد رباب مسف جاثم، وفي الجو شوب من ضباب كالغبار يحجب صفاء السماء، والأشجار هنا وهنالك كأنما تتوارى من الناس، وعلى النفس سآمة قائمة لا تتحرك كأنها فرغت من النقاش والسؤال عن الأسباب، وخلصت إلى اليقين والقرار، وكل شيء عبث. . . وكل عمل عقيم. . . وما هذه الدنيا القاتمة بالباطل، وما هذا العناء في غير طائل؟ باطل الأباطيل. . . قبض الريح. . . متاع الغرور!
حالة غير نادرة
لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها فلسفة حياة وصبغت بها وجه الكون، وبسطتها على الدنيا، أو قبضت الدنيا حتى انطوت فيها، وكنت من المتشائمين
لم تكن الحالة الأولى من نوعها، فلهذا لم تكن فلسفة باقية، بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تنتزع منها زاوية صغيرة يهمس فيها هامس مسموع مستجاب: كلا! ليست الدنيا كذلك. ليست الدنيا كذلك. . . إنما هي نوبة تزول، وركود راحة بعد جهاد، أو ركود استجمام قبل وثوب
وحالة أخرى غير نادرة، ولاسيما في أيام الإشراق والنضرة والإقبال، صيفا كانت أو شتاء، وربيعا كانت أو خريفا. فهي شائعة موزعة بين جميع المواسم والفصول
لمعة الشعاع على الصخرة الملقاة تبعث الفرح من أعماق السريرة، ورجفة الورقة على الغصن رقص وانتشاء، ومشية المسرع استطارة سرور، ويمشي المتأني فكأنه يتملى متعة المشي ويستوفي نعمة الرياضة، ومنظر الشجرة كأنها باثفة تنطلق في السماء، وليست بالجاثمة المقيدة بالغبراء، وكل شيء حسن كما هو في غير حاجة إلى تفسير أو عافية منظورة، وليس في الإمكان أبدع مما كان
حالة غير نادرة
لكنها لو كانت الحالة الأولى من نوعها لجعلتها كذلك فلسفة حياة ونفثتها في ضمائر الكون، ورأيت الدنيا معها فردوسا سماويا لا حدود فيه ولا انتهاء لمشاهده ومعانيه، وكنت ف عليين ولا يغنيني أن أقول: كنت من المتفائلين
ولم تكن الحالة الأولى من نوعها فلهذا لم تكن فلسفة باقية بل كانت حالة عابرة غير نادرة، واستطاعت النفس أن تملك زمامها وهي إلى جوارها فلا يزال فيها هامس مسموع مستجاب يردد في غير إلحاح ولا إعنات: كلا. لست في عليين، لست في عليين!
أإذا عرفنا أسباب الحالة الأولى جاز لنا أن نقول: إنما هي ضلالة في الحس من أثر الغيم أو من أثر السوداء أو من أثر المعدة الشاكية؟
كلا. لأن معرفة السبب الذي يريك الشيء لن تنفي وجوده، كما أن شعورك بألم الآخرين من أجل القرابة بينك وبينهم لا ينفي أنهم متألمون وأن الألم موجود هناك. ثم نقترب من المحسوسات فنقول إن رؤيتك الجراثيم بالمجهر وعلمك بأن المجهر هو سبب الرؤية لا ينفي الجراثيم ولا ينقض صحة ما تراه
وكذلك الحالة الثانية لا يدحضها أن تعلم أسبابها، وهي الإشراق والصحة وامتناع الأكدار والأحزان، فإن العلم بأسباب إحساس من الأحاسيس لا يقدح في حقيقته ولا في صواب الشعور به حيث كان.
لذلك أقول إن السريرة الآدمية كالمذياع، وإن الدنيا المحزنة والدنيا المفرحة ودنيا القنوط ودنيا الرجاء موجودة لا تظهر للنفس إلا حين يصل المفتاح الى وجهته المرسومة، وإلا فهي صمت وخفاء
في النفس الإنسانية متسع لجميع العوالم، ولكنها تتهيأ لكل عالم من هذه العوالم بحالة من الحالات، أو بمفتاح من المفاتيح، فإذا هو موجود مسموع منظور محسوس، وإذا أنت لا تسمع غيره ولا تعيش في غيره، لأن إدارة المفاتيح كلها هي الفوضى التي يبطل فيها الإحساس، ويفسد فيها التعبير المفهوم، فهو إذن لغط وأصداء
إن كنت تسمع حديث القاهرة فليس معنى هذا أن حديث باريس باطل، وإنما معناه أن المفتاح في هذا الاتجاه وليس في اتجاه غيره، وحديث باريس بعد ذلك صادق عند أناس آخرين صدق حديث القاهرة، وغيره من الأحاديث
وإن كنت في دنيا من دنياوات الإقبال والتفاؤل فليس معنى ذلك أن دنيا السآمة والقنوط عدم وضلال، وإنما معناه أن المفتاح هنا، وأنه لو تحول قليلاً لأصبح هناك!! امتناع الحس لا يدل على امتناع المحسوس
وبهذا نفسر العبقرية التي ترى الأخيلة والشكول والمعاني والتوفيقات حيث لا يبصرها أحد ولا يسمعها أحد ولا يدري بها أحد، ولكنها تظل في صمتها وخفائها حتى تصادف من يدري بها ويستمع إليها، فهي موجودة له معدومة لسواه
وبهذا نفسر الصوفية التي تلمح من الخفايا ما ليس يلمحه المصاقبون والجيران، وتقترب من الآمال والمخاوف قبل أن يقترب منها المزاملون والرفقاء، وتبصر بعيني (حزام) والناس من حولها ضاحكون لا يصدقون، وإن قال لهم ألف قائل:
إذا قالت حزام فصدقوها ... فإن القول ما قالت حزام
لأن ما يرى بالعين على مسيرة يوم سوف يرى بالعين على مسيرة ساعة. أما ما يرى بالسريرة فقد تكثر فيه المغالطة والمكابرة كلما اقترب واقترب حتى تتناوله جميع السرائر: أهذا الذي أنبأتنا به؟؟ لا. إنك أنبأتنا بغير هذا، ولن تزال في ضلالك القديم!!
ولنهبط من العبقرية والصوفية إلى المشاهد الملموسة في حياة الحيوان.
فأين من الناس من يشعر بأن ملامسة اليد للمنديل تترك فيه أثراً من الرائحة المحسوسة يشمها الأنف بعد أيام؟ وأين من يثبت لهم ذلك لولا أن شاهدوه وكرروا شهوده من بعض الحيوان؟؟
أفينقض (وجود) تلك الرائحة أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الحيوان إلا لأنه كلب يشم بحاسة الكلاب؟
أفينقض (وجود) تلك المعاني والتوفيقات أن يقول قائل: بل ما أدركها ذلك الناظم أو ذلك الموسيقي إلا لأنه مجنون مخبول؟
فلم لا يكون الخبل المزعوم هو المفتاح الذي يوجه السريرة إلى وجهة تلك المعاني والتوفيقات؟؟ ولم ننكر (المحطة) لأننا لا نملك المفتاح وإن رأينا من يسمعها ويروي لنا ألحانها وأناشيدها في تناسق وانتظام؟
فالعالم حافل بما يحس ويشعر
حافل بالمنظورات وإن لم يشهدها كل نظر، وحافل بالمسموعات وإن لم تسمعها كل أذن، وحافل بالطعوم وإن لم يذقها كل لسان، وحافل بالحياة وإن لم تتصل بها اتصال التعاطف والتفاهم كل حياة
فلم لا نقول على هذا القياس إنه حافل بالمعاني، وحافل بالمدركات، وحافل بالوحي والتعبير، وإن العبقري له حاسة في الروح تلتقط هاتيك المعاني والمدركات من حيث لا يحلم أحد بموقعها هناك؟؟
لم لا نفهم أن المحسوسات الذهنية التي تتناولها العبقرية لن تنفد بالتقاط الأذهان منها لأنها ليست بأجسام، وأن الشيء الذي ليست له مادة تنفد لن يرى على وضع واحد بل يرى على ألوف الألوف من الأوضاع حسب من ينظرون إليه وينفذون فيه؟
لم لا تكون الدنيا مفرحة محزنة، عادلة ظالمة، منظومة مشتتة، لأن هذه المعاني لا تتناقض في عالم الإلهام كما تتناقض السوداء والبيضاء في عالم العيان، وإنما يصعب التوفيق بينهما في إلهام واحد كما يصعب التوفيق بين مفاتيح المذياع، فنخرج إذا أدرناه جميعا من الفهم والنظام، إلى أصداء لا تقبل الفهم ولا النظام؟
إذا مرت بي حالة عابرة إلي جانب الحزن والقنوط قلت هي حالة صادقة في مفتاحها
وإذا مرت بي حالة عابرة إلى جانب الفرح والرجاء قلت هي أيضاً حالة صادقة في مفتاحها
ولم أقل إن العالم السرمدي ينحصر في هذه أو في تلك، ولكني أتلقى درساً من المذياع وأومن بأن السريرة الإنسانية أكبر - على الأقل - من صندوق الكهرباء، وإن عالم الإدراك أكبر - على الأقل - من مراكز الإذاعة، وأن الوصلة بين الطرفين أكثر على الأقل من الموجات القصار والوسطى والطوال
عباس محمود العقاد