مجلة الرسالة/العدد 286/للتاريخ السياسي
→ الحقائق العليا في الحياة | مجلة الرسالة - العدد 286 للتاريخ السياسي [[مؤلف:|]] |
من رحلة الشتاء ← |
بتاريخ: 26 - 12 - 1938 |
جهود المستر تشمبرلين وما أدت إليه
للدكتور يوسف هيكل
من الممراندوم إلى مؤتمر مونيخ
ظنت الدوائر السياسية أن الأزمة الدولية قد انفرجت بقبول تشيكوسلوفاكيا مشروع لندن، وهو عبارة عن تحقيق مطالب الهر هتلر. وغادر صباح 22 سبتمبر (أيلول) المستر تشمبرلين لندن إلى ألمانيا مرتاح النفس مطمئنها. وقبل صعوده إلى الطائرة قال: (إن تسوية المشكلة التشيكوسلوفاكية تسوية سلمية تعد شرطاً أساسياً لتفاهم الشعبين الإنكليزي والألماني. وقد كان هذا الشرط أيضاً أساساً ضرورياً للسلم الأوربي الذي ترمي إليه جهودنا، وإني أرجو أن تفتح زيارتي الطريق التي تؤدي إليه)
وبعد ظهر يوم وصوله إلى (كودسبرغ) اجتمع بالمستشار الألماني، وعرض عليه ما اتفقت عليه حكومتا لندن وباريس، من التنازل عن الأقاليم السوديتية لألمانيا، وتعيين حدود جديدة لتشيكوسلوفاكيا، وضمانها ضد الاعتداء غير المحرض عليه
لم يعترض الهر هتلر على فكرة الضمان، غير أنه أبان لا يضمن الحدود الجديدة إلا إذا كانت الدول الأخرى، ومن بينها إيطاليا، ضامنة لها أيضاً؛ وأنه لا يشترك في الضمان الدولي لتشيكوسلوفاكيا إلا بعد أن تنال الأقليات الأخرى فيها مطالبها. أما الاقتراحات الثانية التي وضحها له المستر تشمبرلين، فلم يقبلها الهر هتلر، بحجة أنها لا تحقق حلاً سريعاً، وتعطي فرصاً عديدة للتشيك للتهرب منها. وقد أصر على ضرورة حل سريع للمشكلة التشيكوسلوفاكية، وأخذ يوضح للمستر تشمبرلين نوع هذا الحل الذي وضعه فيما بعد بمذكرة (ممراندوم)
كم كانت دهشة المستر تشمبرلين عظيمة عند ما وجد نفسه في وضعية لم تكن منتظرة قط. إنه كان يعتقد اعتقاد اليقين، أن ما عليه عندما يذهب إلى كودسبرغ إلا أن يبحث مع الهر هتلر الاقتراحات التي قدمها إليه، بحثا هادئاً يؤدي إلى الاتفاق السريع عليها. لأن الهر هتلر أعلم المستر تشمبرلين في برختسكادن أنه إذا قبل مبدأ حق تقرير المصير، فإنه مستعد ليبحث معه الطرق والوسائل لتنفيذها. ولما قبل المستر تشمبرلين هذا المبدأ، وقدم مشروع لندن المبني عليه، رفضها الهر هتلر رفضاً باتاً حين ابتداء المحادثات. كان ذلك صدمة عنيفة للمستر تشمبرلين، وخيبة لآماله التي كان يعلل النفس بها. ولكي يهون عليه الهر هتلر ذلك، ويجد لموقفه المناقض مع قوله عذراً، قال لرئيس وزارة إنجلترا إنه لم يخطر على باله أنه (أي المستر تشمبرلين) يتمكن من العودة إلى ألمانيا حاملا قبول مبدأ حق تقرير المصير
كانت الصدمة عنيفة حتى أن المستر تشمبرلين شعر أنه في حاجة إلى الوقت ليفكر فيما يجب عليه عمله، فانسحب، وقبل انسحابه طلب من الهر هتلر أن يعيد له التأكيد بعدم الزحف على تشيكوسلوفاكيا أثناء المحادثات، فأكد له الهر هتلر ذلك
وكان موعد متابعة المحادثات الساعة الحادية عشرة والنصف من اليوم التالي؛ وكان المستر تشمبرلين يتأكد من أن الهر هتلر لم يفهم حق الفهم ما كان يقول له عن طريق المترجم، لهذا فكر أم من الحكمة أن يرسل إليه قبل الشروع في المحادثات، ملاحظته كتابة على مطالب الهر هتلر الجديدة. ومما قال في ملاحظاته أنه سيرسل المطالب إلى الحكومة التشيكوسلافية، وأبان الصعوبات العظيمة التي تحول دون قبولها. ولما تسلم المستشار الكتاب، أظهر رغبته في الجواب عليه كتابة. ولذلك ألغى الاجتماع لمتابعة المحادثات وأرسل الجواب بعد الظهر.
ظن المستر تشمبرلين أن التأخير في إرسال الجواب ناجم عن إجراء بعض تعديلات في مطالب الهر هتلر. وعندما تسلم الكتاب خاب ظنه، إذ وجده يحتوي على توضيحات للمطالب ولا يعدل فيها شيئاً. فطلب المستر تشمبرلين نص المطالب، وصورة من الخريطة المرفقة بها، لإرسالها إلى براغ، وعزم على العودة إلى لندن. فقدم إليه ذلك خلال اجتماعه بالهر هتلر الذي ابتدأ الساعة العاشرة والنصف من مساء 23 سبتمبر (أيلول) واستمر حتى الصباح الباكر.
وقبل أن يودع المستر تشمبرلين الهر هتلر، قال له زعيم ألمانيا إن بلاد السوديت آخر الأراضي التي يطمع فيها بأوربا، وإنه لا يرغب في أن يضم إلى الريخ شعوباً غير ألمانية. وقال أيضاً إنه يرغب في أن يكون صديقاً لإنكلترا. ثم أردف قائلاً: صحيح أن هناك مسألة المستعمرات، ولكنها لا تولد حرباً، ولا تنتج تعبئة عامة
عاد المستر تشمبرلين إلى لندن في 24 سبتمبر (أيلول)، حاملا مذكرة الهر هتلر بدلا من الموافقة على اقتراحات لندن. وهذه المذكرة تحتوي على النقاط التالية
1 - سحب جميع القوى التشيكية من جند وشرطة وبوليس جمارك وحراس حدود من المقاطعات التشيكوسلوفاكية المعنية في الخريطة المرفقة، والتي يجب أن تسلم إلى ألمانيا في 1 أكتوبر
وتحتل الجيوش الألمانية هذه المقاطعات دون اعتبار وجود الأكثرية التشيكية في بعض أجزاء هذه الأقاليم. وتسليم هذه الأقاليم يكون بحالتها الراهنة، أي من غير تخريب وإتلاف أي شيء من الأملاك والأموال، حتى إنه لا يجوز سحب المواد الغذائية والبضائع، والحيوانات، والمواد الخام.
2 - إجراء استفتاء في المقاطعات التي فيما وراء المقاطعات التي ستحتل، والمبينة في الخريطة، قبل 25 نوفمبر تحت إشراف لجنة دولية. ويحق الانتخاب للأشخاص الذين كانوا يقطنون هذه المقاطعات في 28 أكتوبر سنة 1938، وكذلك للأشخاص الذين ولدوا.
3 - تعيين لجنة ألمانية تشيكية، ولجنة دولية، للحدود الجديدة الناجمة عن الاستفتاء. . .
4 - تشكيل لجنة ألمانية تشيكية لتسوية التفاصيل الأخرى. وعلى الحكومة التشيكية أن تسرح حالاً جميع الألمان السوديت الذين يخدمون في الجيش والبوليس، وأن تخلي جميع المسجونين من السياسيين الألمانيين.
أرسل المستر تشمبرلين المذكرة إلى حكومة براغ لدى وصوله لندن في 24 أكتوبر فوصلها مساء ذلك اليوم. وفي اليوم التالي تسلمت حكومة المستر تشمبرلين جواب حكومة الجنرال سيروفي، الذي أكدت فيه أن مطالب الهر هتلر، بصفتها الحالية، غير مقبولة بلا قيد ولا شرط، لأسباب ذكرتها، ومنها أن هذا الممراندوم يحرم تشيكوسلوفاكيا، من بلادها الصناعية، ومن تحصيناتها، ومن أموالها المنقولة، من قطارات وعربات، بل يحرم المزارعين الذين يريدون الرحيل عن وطنهم من أخذ مواشيهم وحيواناتهم وهو يدخل 836000 تشيكي تحت السيادة الألمانية. أما المقاطعات التي تريد ألمانيا إجراء الاستفتاء فيها فتحتوي على 1. 116. 000 تشيكي و 144. 000 ألماني! وهو يقصي الدول الغربية، (أي فرنسا وإنكلترا) عن تصفية بقية المسائل ويضع تشيكوسلوفاكيا تحت رحمة ألمانيا. والممراندوم لا يذكر شيئاً عن ضمان الحدود الجديدة
ذعر الرأي العام، واضطربت الدوائر السياسية من ممراندم الهر هتلر. وأصبح الكل يعتقد أن الحرب واقعة لا محالة. وتواردت ألوف الرسائل على المستر تشمبرلين وعلى زوجته، شكر مرسلوها فيها مساعيه للسلم، وابدوا في منع الحرب وأظهروا كرههم لها. وذهب المسيو دلادييه والمسيو بونيه مساء 25 سبتمبر (أيلول) إلى لندن، لتداول الأمر، فوقفا فيها على جواب حكومة براغ. وفي اليوم التالي تابع ممثلو الحكومتين درس الموقف، فأكد مسيو دلاديبه لزملائه البريطانيين أنه إذا هوجمت تشيكوسلوفاكيا فإن فرنسا تقوم بواجباتها نحوها. فأجاب المستر تشمبرلين، أنه إذا كانت نتيجة هذه الواجبات اشتباك الجيوش الفرنسية مع القوى الألمانية، فإن الحكومة الإنكليزية تشعر بأنها مجبرة على معاضدتها. وقد صدر في اليوم نفسه بيان بهذا المعنى. وفي 26 سبتمبر (أيلول) أعلنت تشيكوسلوفاكيا التعبئة العامة، واتخذت فرنسا إجراءات حربية واسعة، وأمر وزير البحرية البريطاني، دوف كوبر، الأسطول بأن يكون على استعداد. فأصبح الرأي العام ينتظر انفجار قنبلة الحرب العامة من ساعة إلى أخرى.
(للمقال بقية)
يوسف هيكل