مجلة الرسالة/العدد 286/الحقائق العليا في الحياة
→ الحج | مجلة الرسالة - العدد 286 الحقائق العليا في الحياة [[مؤلف:|]] |
للتاريخ السياسي ← |
بتاريخ: 26 - 12 - 1938 |
الإيمان. الحق. الجمال. الخير. القوة. الحب
للأستاذ عبد المنعم خلاف
الإيمان والعلم:
لا حاجة بنا إلى إفاضة القول في أن العلم بمعناه الحالي - وهو اليقين والإثبات المبني على التجربة والمشاهدة الحسية - إنما هو من أدوات الإيمان بالخالق المدبر. فلو فرضنا وقالت كل الفلسفات والجدليات إنه ليس هناك خالق للكون لظل العلم وحده يقول بوجود ذلك الخالق. لأن كل ما في الطبيعة يشير ويصيح بأن له خالقاً عالماً يقف أمامه العقل العلمي حائراً دهشاً من سر صنعته وتركيبه وإعداده الأشياء للحياة!
واعتقادي أن أكبر خادم للإيمان هو العلم الكوني، وأن المختبرات والمعامل لو أنصف الناس لعدوها من أقدس المحاريب التي يعبد فيها الإله وينعت بما يليق بكماله وجلاله.
والإلحاد بين علماء الطبيعة أقل منه في أي طائفة من طوائف علماء العلوم أو الفنون الأخرى. ولذلك قال القرآن (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وصدر الآية يدل على أن العلماء هنا مقصود بهم علماء الطبيعة والمتأملون فيها إذ يقول (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفاً ألوانها، ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك. إنما يخشى الله من عباده العلماء)
ولو أن علماء الطبيعة يدخلون معاملهم ومختبراتهم مستحضرين روح العبادة كما يفعلون إذ دخلوا إلى المعابد إذاً لتنزل عليهم إلهام وتوفيق ولذات لا تفنى.
العلم لا سلطان له على البحث في ذات الخالق لأنه ليس من مجاله فمجاله ما يقع تحت الحواس، وإنما يستطيع أن يستنتج صفات الخالق. وهو في هذا الاستنتاج يلتقي مع الفلسفة، فأرسطو الفيلسوف وأرسطو العالم الطبيعي التقيا في إثبات (السبب الأول) وكذلك اسحق نيوتن الفيلسوف والعالم التقيا في قوله (إن خالق هذا الكون على علم تام بعلم الميكانيكا!) وقل مثل ذلك في بقية العلماء الإلهيين كباستور وغيره من العلماء الذين إن ألحدوا في إله الكنيسة فلن يلحدوا في إله الطبيعة الذي هم أقرب الناس إلى معرفته وتقدير صفاته.
ومن المؤسف أن إله الكنيسة في أغلب الأديان غير الإله كما يدركه العلماء في الطبيعة. هو إله بشري يتشكل في أجساد البشر في بعض الأديان، خاص بقبيل من الناس في بعضها الآخر، محب للدماء في البعض الثالث، محب لعذاب الناس وفناء أجسادهم في البعض الرابع، معقد فيه ناسوت ولاهوت وأقانيم متعددة في البعض الخامس. وهكذا وهكذا مما يعذر العلماء السائرون مع الفطرة البسيطة إذا كفروا به وآمنوا بمن يجدون يده في الطبيعة
وهنا يمتاز الإسلام امتيازا رائعاً في تقديم صورة للإله هي أسمى ما يمكن أن يدركه عقل علمي عن الكمال الإلهي مع بساطة واستيعاب هما سر الفطرة وطابعها الذي يأخذ بنواصي جميع الناس علمائهم المنتهين وجهالهم المبتدئين ومن بينهما في آفاق المعرفة والإدراك في القطبين وفي خط الاستواء وفي الشرق والغرب.
والواقع أن كل الأديان الإلهية قدمت هذه الصورة التي يدرسها العقل. ولكن يد التحريف وحب التأويل وتزيدات الكهان وعوامل الفناء التي لحقت الأديان وتقلبات الحوادث بنصوصها الأصلية هي التي مسخت الصورة الرائعة الكاملة التي قدمها الرسل عن الإله كما أوحى إليهم.
لقد وصف الإسلام الإله بما يرضي جميع الناس، فوصفه بأنه جبار قهار، ورحيم لطيف، ومنتقم ورؤوف، إلى آخر الأسماء الحسنى حتى يرضي أمثال زنوج أفريقيا وبرابرة التبت الذين لا يعبدون الإله إلا إذا كان جباراً، ولذلك يصورون آلهتهم كالفيلة بصور هائلة ذات عدة رؤوس وأيد وأرجل، وليرضي أمثال اليونانيين الذين كانوا يتخيلون آلهة متعددة للرحمة والجمال والتناسق والقوة والحب والحرب وغيرها.
وكأن الإسلام يقول لهؤلاء وهؤلاء: ربكم واحد فيه جميع ما تتصورون جميعا من الصفات الحسنى، فالتقوا جميعاً في رحابه بعبادة واحدة وأسلموا وجوهكم وقلوبكم إليه. (ولله المشرقُ والمغربُ فأينما تُولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله) (هو الله الذي لا إله إلا هو الملكُ القدوسُ السلامُ المؤمنُ المهيمنُ العزيزُ الجبارُ المتكبرُ. سبحانَ الله عمَّا يشركون، هو اللهُ الخالقُ البارئُ المصوّر له الأسماءُ الحسنى)
ولذلك حينما وصف الإسلام لنيتشه أو شوبنهاور - لا أذكر - قال لمحدثه (إذا كان الإسلام كما وصفت فنحن كلنا مسلمون!) مع أنه كان ملحداً منكراً لعقيدة الجماهير
ولبساطة العقيدة الإسلامية ووضوحها وقوتها وتمشيها مع الفطرة لم يجد الإلحاد طريقاً إلى الذين اشتغلوا قديماً بالفلسفة والعلم من المسلمين؛ لأنهم كانوا مزودين بتلك الصور الواضحة البسيطة من قضايا الدين. وكانت الفروض التي قرءوها في الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية فروضاً ناقصة أو معقدة أو مختلة لا تنهض أمام ذلك اليقين الفطري الذي يستطيع الفلاح والفيلسوف أن يفهماه ويعتقداه بكل راحة وطمأنينة في الإسلام
وعلى العكس عند غير المسلمين، فقد كان كل فيلسوف لابد أن يكون (هرطيقا) ولذلك كان كل من يدرس الفلسفة مطارداً من السلطة الدينية لأنها تعلم أن العقيدة الموروثة ستهزم أمام التفكير؛ ولما خابت المطاردة، نظرا إلى نزوع الناس وتطور الزمان وهجوم العلوم، زعموا أن الدين قلبي وجداني فقط لا أثر فيه للتفكير، وإنما يستند إلى ذلك الشعور، ليقولوا بعد ذلك إن الإنسان يستطيع أن يجمع بين متناقضين أحدهما يسكن فكره والآخر يسكن قلبه! مع أن أساس الدين قائم على التفكير وإلا ما لزمت حجة الله أحداً من خلقه مادام فكره لم يعقل ولم يفهم وهو منصف، بل مادام فكره ينقض ما يأتي به الدين في بعض الأحيان
ومن المؤسف أن المسلمين ورثوا هذه الفكرة الباطلة مؤخراُ من أرباب الأديان الأخرى، مع أن الإسلام قائم على التفكير، وحجته العقل، ومعجزته عقلية دائمة تسير مع رشد الإنسان وتقول له (لا تقْفُ ما ليس لك به علم) (والذين إذا ذُكروا بآيات ربهمْ لم يخرُّوا عليها صمّاً وعُمياناً!)
وآفة الإسلام هي جهل أكثر المسلمين بأصوله وتفاصيله، واتباعهم القضايا التي لم تمحص وتنطبق على بيئتهم وما فيها، وتسليمهم بالنظريات الغربية كما يسلمون بالمسائل العلمية المادية
وأحسب أن أكثر قادة الفكرة والمصلحين الغربيين لو أتيح لهم أن يطلعوا على الإسلام الصحيح لتغيرت أحكامهم التي أرسلوها في مسائل الخلاف بين الدين والعلم. ويكفي دليلاُ على ذلك مقال فلتير في مارتن لوثر: (إنه لا يصلح أن يحل نعل محمد. . .) مع أن فلتير لم ينصف محمداً للسيرة المشوهة التي لم يتهيأ له أن يعرف عن محمد سواها
ومن قرأ كتاب (الزنجية تبحث عن الله) لبرناردشو يدرك أن (شو) ارتفع بمحمد والإسلام إلى قمة الأنبياء والنبوة. وسيرة (جوته) تدل على أنه افتتن بالإسلام، ولذلك شرع في تعلم العربية وفي تأليف (رواية) عن محمد. وقد مدح أسلوب القرآن وطريقته ككتاب دين. وكلمة شوبنهاور أو نيتشه التي أشرنا إليها سابقا تدل على أن أي عقل متمرد قد يجد سلامه وطمأنينته في الإسلام. ومقال كارليل عن رسول الإسلام لا يغيب عن بال أحد
وهكذا وهكذا مما لا مجال لذكره الآن، ومما يبين قوة غزو الإسلام للعقول المتمردة والآراء الفلسفية، ومما لا يصح معه إدخاله مع غيره في مسائل الخلاف بين العلم والدين
واعتقادي أن الإسلام هو الذي يستطيع وحده أن يحمي الإيمان من أن تجرفه تيارات المادية والإلحاد، وهو الذي يستطيع أن يقره في كل نفس كما هو في الطبيعة البشرية بجانب (نزعة الإثبات) التي أنتجت العلم و (نزعة التأمل) التي أنتجت الفلسفة بحيث يعود الإيمان باعث فخار بين الناس كما كان وكما يفتخرون الآن بالعلم والفلسفة، لا كما يغضي بعضهم منه حياء إذا قيل عنه إنه مؤمن، وترجمة هذا القول عند الجهال بالعلم والدين معا: إنه مخرف.
وقد تراكمت عقد خفية في نفوس إنسانية هذا العصر حول الدين لأن كثيراً من الذين ينتسبون إليه حملوا عليه ميراثاً كبيراً من الخرافات ومن تضييق الواسع ومن غباوة بعض رجاله الذين لا يعرفون المهمة الأصلية فيه، ومن تحويل التدين الى نوع من الهستريا المنفعلة المغفلة عن حكمة الله في اختلاف الإنسانية في الآراء والمعتقدات.
وكم هي كبيرة جناية الرموز والطقوس وثياب رجال الدين وشاراتهم وسماتهم التي تميزوا بها من غيرهم! إنها جناية تحويل الملكية العامة إلى احتكار. . . وجناية إقامة السدود والقيود على الطريق الواسع الذي يوصل كل شخص إلى الله. . وجناية إقامة السدود والقيود على الطريق الواسع الذي يوصل كل شخص إلى الله. . . وجناية تحديد أبواب معينة لا يحل لأحد أن يجتاز إليه من غيرها، وجناية إقامة حراسة وخفارة عليها من فئة معينة ربيت تربية خاصة منفصلة عن تربية بقية الناس لا يدخل أحد إليه إلا بإذنها. . . وجناية تحديد بقع ضيقة من الأرض لا يحل التعبد له إلا فيها، بعد بخور وعطور وطبول وزمور. كأنهم يستحضرون عفريتاً من الجن إلى حفلة زار!)
وقد أطلق الإسلام الدين من كل هذا الذي ألصقه به الأطفال والمجسمة والمشبهة، وجرد محيط العبادة من التماثيل، والصور والرموز، وجعل الأرض كلها مكان عبادة فأعاد الى الطبيعة قيمتها كمحراب دائم للصلاة. وجعل روح الدين في الشارع والسوق كروحه في المسجد: ففي السوق والشارع عبادة عملية، وفي المسجد عبادة نظرية هي موقف تصفية وجرد لشؤون الحياة كلها!
ولم يجعل طبقة معينة تحتكر شؤون الدين وتلبس زيا خاصا بها بل حتم على جميع معتنقيه أن يكونوا علماء به ما أمكنهم العلم، ورأى لأئمته ألا يتزيوا بزي خاص حتى لا يشعر الناس بانفصال حياة الدين عن حياة الدنيا.
ولو فهم الناس أن الدين في الشارع والسوق أهم منه في المعبد لتغير وجه الحياة وسير التاريخ، ولحت المشكلة التقليدية الموروثة المعنونة (الدين والدنيا)
من هنا يتبين لنا أن عبء المسلمين فادح وحسابهم عسير أمام الله والحق والبر بالإنسانية، لأن إهمالهم إصلاح نفوسهم وتثقيفها وإعدادها بما في الإسلام لأداء رسالته العالمية هو الذي يجر على الناس كل المشقات والمصائب والحيرة والضياع، وهو الذي يخرج من حظيرة الإيمان كل عقل غربي كبير بما يقرؤه من الفروض الفلسفية وبما يلمسه من وجوه الخلاف بين قضايا العلم وبعض نصوص دينه تهافته التي تدل أول نظرة صحيحة إليها أنها من غير المنبع الإلهي.
ومن الغريب المؤسف أن القائمين على الشيوعية أو الفوضوية مثلاً يجاهدون في سبيلها جهاداً مستميتاً لينشروها ويجعلوها دين الناس ويحسبون أنفسهم أصحاب رسالة يجب أن تتم وتشمل الأرض جميعها. . . بينما المسلمون الذين عندهم علاج كل نكبة في العقل أو في النفس أو في المال يجهلون مهمتهم ولا يؤدون رسالتهم كما كان أجدادهم الأقدمون يؤدونها ويموتون في سبيلها على ضفاف الكنج وأسوار الصين وشواطئ بحر الظلمات، وهم معتقدون أنهم يؤدون إلى الناس أعظم خدمة وأكبر منة تطيب بها نفوسهم عن اقتحام ديارهم وثل عروشهم وهدم أصنامهم الحسية والمعنوية! إن إنسانية الشرق والغرب لا تزال حائرة ترسل روادها وأرصادها (للبحث عن غد) يشرق عليها ضحاه وهي في واحة السلام والطمأنينة. . . لا تزال (زنجية تبحث عن الله)! والمسلمون الذين أسعدهم الله بمعرفته وبالطمأنينة والهدى لا يشعرون بتبعاتهم الثقيلة نحوها، ولا يزالون يعيشون لأجسادهم وأنفسهم فقط. . . بل إن الثقة بما عندهم قد ذهبت عنهم. وقاتل الله الجهل وحياة الفسولة!
(الرستمية)
عبد المنعم خلاف