مجلة الرسالة/العدد 284/من رحلة الشتاء
→ للأدب والتاريخ | مجلة الرسالة - العدد 284 من رحلة الشتاء [[مؤلف:|]] |
طاقة أفكار ← |
بتاريخ: 12 - 12 - 1938 |
في مضارب شمر
أكبر بيت من الشعر في الجزيرة (موزوبتيميا)
للآنسة زينب الحكيم
زرت جملة من بيوت البدو عاليها ومتوسطها وفقيرها. فوجدتها كلها تتحد في نوعية النسيج التي صنعت منه، وفي النظم التي اتبعت في إقامتها منذ القدم
أما الفروق التي بينها، فمن حيث الحجم وازدياد الأثاث، وإن محتويات تلك الديار بسيطة ساذجة بوجه عام، ولا تشمل إلا أهم الأدوات الضرورية للحياة المتقشفة. على أن من أكبرها وأعمرها وأكثرها تحضراً، دار ملك البادية شيخ مشايخ شمر
زرت هذه الدار، فإذا بها دار طويلة عريضة، متينة الأوتاد قوية الحبال، مهفهفة الجوانب. كلها من نسيج صوف الأغنام والجمال، على شكل دهليز طويل مقسم إلى حجر، وهذا التقسيم إما بالنسيج أو بالحصير (السمار)، وأرضها مفروشة بالأكلمة أو بالسجاد العجمي الجميل أو بالحصير؛ ويتبع هذه الدار على مسافة قريبة جدا منها دور أخرى، منها ما يختص بالمطبخ أو بالمخازن الخ
وصف الحجرة التي استقبلتني السيدات فيها
خباء من الشعر في أحد أطراف الدار عن يمين الداخل إليها طالما تخيلناه وتمنينا رؤيته، وضع في الجهة اليسرى منه نوع من السرير العريض، عليه فراش وثير مغطى بغطاء من الحرير الخالص الملون. وإلى جانبه (شلت) زرابي مبثوثة على الأرض المغطاة بالسجاد العجمي، وتحت السرير حقائب وصناديق، تبنت فيما بعد أن بها ملابس وحليا، وحلوى تقدم للزائرات
كانت السيدة الأولى التي استقبلتني ابنة الشيخ عجيل الياور، وهي فتاة رائعة الحسن: لون خمري جميل، وخد أسيل، ولحظ كحيل، ووجه مستدير عليه وشم قليل. إذا تكلمت فكأنما صوتها موسيقى الجنة العذبة قد انبعثت إلى عالمنا، دلال في وقار كالنسيم إذا سرى، وكالزهر إذا تماي اسمها ملك وهي ملك حقا، تفيض رقة إذا حودثت، وتذوب عاطفة إذا استلهمت، حياء في غير تعمل، وشمم في غير تكبر. عرفتني بعدد من زوجات أبيها وأخيها، كلهن كحيلات الطرف أو متكحلات، يغطى الوشم الأخضر أجزاء من وجوهم وأجسامهن، فمنهن من غطى كل ذقنها برسومه، أو زججت حاجبيها به، ومنهن من وشمت شفتها بحيث لا تظهر حمرتهما، وإنما اندمج لون الوشم مع لون الشفاه فصار اللون أخضر داكنا. وبعضهن طرزن قبب أعينهن برسوم غريبة، هذا والحناء تخضب أناملهن وأكفهن وكعوبهن
أما (ملك) فكانت في زينتها وأناقتها تفوقهن جميعاً رقة ودقة وملاحة
سألتها كيف تمضى أوقاتها، فقالت إنها لا تعمل شيئاً (هذا لأنها ابنة ملك البادية بالضرورة) قلت: ولكن ألا تضجرين؟ قالت: بلى، ولكن هنا ماكينة خياطة أخيط عليها أحياناً. قلت: وهل تقرئين وتكتبين؟ قالت في غضاضة وألم: لا، إنهم لم يعلموني. قلت: وهل لك شقيقات؟ قالت: لا، أنا وحيدة. قلت: إذن تفضلي معي إلى مصر وأكون أختا لك والدار دارك أنت. توهجت وجنتاها بالدم العربي النقي ولمعت عيناها، وانحبست أنفاسها، ثم قالت في حرارة: لا يسمحون (تعني أباها وأخاها) قلت: قد يسمحان، قالت: قولي لهما
وفعلاً سألت أخاها (لأن والدها كان قد سافر إلى بغداد) إذا كان مما يتمشى وتقاليدهم أن تسافر البنت إلى بغداد أو إلى مصر مثلاً، فقال: هذا ضد نظام العشائر. فسألته لماذا لا تتزوج (ملك) فقال: هي لا تريد، ومن جهة أخرى حتى يتيسر من يناسب مقامها (فهمت من سياق الحديث أن الزواج هناك يجري على أساس سياسي بحيث تصير بعده مصاهرات صداقة واكتساب قوة للعشيرة)
الملابس
أعجبت بثياب تلك البدوية، فعزمت على أن أرتدي زياً كاملا منها حتى أصوَّر به. وأسرعت فأخرجت من صندوق تحت السرير، ثوبين من الحرير أحدهما أحمر والآخر أخضر، باردان طويلة واسعة. فارتديت هذين الواحد فوق الآخر
ثم ارتديت معطفاً من الجوخ الثمين يقارب طول الثوبين، وردنه طويل واسع مفتوح إلى نصف الذراع، ثم ارتديت معطفاً ثانياً من الجوخ أيضاً أقصر من الأول وعلى نظامه فيما عدا ذلك، وهما مزركشان بتطريز جميل. ووضعت على رأسي نوعين من الغطاء، أحدهما رفيع والآخر سميك، وحليت معصمي بجملة من الأساور الذهبية، ووضعت على رأسي حليات ذهبية، وعلق في شعري قرب أذني مثلثين من الذهب الخالص المطعم بالأحجار الكريمة، لا يقل الواحد منهما عن نصف رطل
وطوقت جيدي بطوق من الذهب في إحدى أطرافه حلية ذهبية دقيقة الصنع جميلة المنظر جداً. وفوق هذا كله ارتديت العباءة الصوفية الشفافة، ثم العباءة الصوفية الثقيلة التي تستعمل في الشتاء
شعرت أني مشلولة الحركة، ثقيلة الخطى، لا أستطيع التنفس، عكس ما تتمتع به صديقتي (ملك) البدوية التي تمتاز بخفة الحركة ورقتها. والإنسان ابن العادة
الطعام الذي تناولته في مضارب شمر
من أهم ما كنت أرقب مشاهدته، تناول الطعام على الطريقة البدوية في البادية، ولما كان وصولي إلى مضارب الشيخ عجيل الياور بعد الظهر، فانهم بالضرورة لم يعزموا عليّ بتقديم الغداء، ولا ينبغي أن نتصور أن أهل البادية يستطيعون إعداد طعام بالسرعة التي يؤدي بها هذا العمل في الحضر
ويصعب جداً على نفس البدوي أن يظهر بغير المظهر اللائق به، لا سيما أمام الزوار الأجانب، أو أبناء العشائر الأخرى
وقد قدّم لنا الشيخ الشاي الحار اللذيذ مع اللبن على طريقتنا نحن، فكان أول فنجان من الشاي استسغت طعمه من مدة طويلة، وقدم معه أنواعاً من البسكوت الجاف الأفرنجي
العشاء
وفي المساء حوالي الثامنة، دعينا إلى تناول العشاء في خيمة بيضاء كبيرة أقيمت في وسطها مائدة أنيقة الترتيب إفرنجية. وكان الندل من العرب النجدين السود البشرة، يقدم ألوان الطعام على أحدث نظام، قلت: يا حضرة الشيخ، ما لهذه النظم والقيود أتينا. قال: في الصباح تأكلون على الطريقة البدوية. قلت: ولكننا نسافر في الصباح الباكر، قال: لا، بل تبقون ثلاثة أيام على الأقل، قلت: شكراً، ولكن وقتنا محدود، فقال: إذا يكون الرحيل بعد الظهر وجاء الصباح، وجلسنا حول مائدة الإفطار، وكانت أيضاً على أحدث نظام أوربي أنيق؛ فقلت: حقاً لقد خسرنا القضية في هذه الرحلة يا حضرة الشيخ، قال: لا، الغداء سيكون بدوياً فلا تخافي، وحقاً لقد كان
الغداء البدوي
انتشرنا بعد تناول طعام الفطور في البادية نستجلي مباهجها، ونستكشف أزهارها، ونجمع أنواعها الغريبة، ونبحث عن الكمأة (الكمه) - وهي نوع من الفطر يوجد تحت الأرض، يشبه البطاطس، ولا ورق له ولا فروع - يستعملها البدو كنوع من الخضار يطهى مثل البطاطس. وتجفف منه كميات كبيرة لفصل الصيف المجدب
عند الساعة الثانية عشرة ظهراً دعينا لركوب السيارات، وإذا بها تسير بنا من حيث خيام الشيخ إلى قلب البادية، فقطعنا نحو عشرة أميال على بساط سندسي جميل على أرض مستوية ثابتة، حتى وصلنا مجرى ماء بجري في مساحة طويلة وسط البادية (كونته سيول الأمطار الغزيرة) وهناك وجدنا عبيد الشيخ، قد فرشوا سجادة عجمية نفيسة حمراء اللون، قرب مجرى الماء. ووضعت صينية كبيرة فضية وعليها حَمَل محمر، ومعه أرز الزعفران المزخرف بالكشمش (أي الزبيب)
قال الشيخ: هكذا يكون أكل البدو، وضرب بيمناه في الأرز المحشى به الحمل، وأخذ منه كمية طيبة إلى فمه، ثم بدأ يوزع علينا من اللحم الشهي. فكانت أكله بدوية بحته، بين مظاهر الطبيعة الخلايا، والنفوس العربية الكريمة والأيدي السخية
تفضل الشيخ فسمح لي باستخدام صحن خاص أضع فيه الكمية التي أستطيع أكلها، وما كدت انتهى منها حتى أمر الندل أن يضع لي كمية أخرى، وما أرى وقد حمل المغرفة وملأها بالأرز وفتات اللحم، وينوي وضعها في صحن، فقلت له: لا أريد مزيداً، أشكرك، فظل ممسكا المغرفة بيده الممدودة نحوي وقال: ولكنه أمرني (يعنى أن سيده قال له ضع طعاماً للسيدة) ومن سلوكه وتوخيه تنفيذ أمر شيخه المطاع، شعرت ضمناً أنه يقول (من لم يمت بالسيف مات بغيره)، وكبشة الندل كانت (غيره) على التحقيق ما أشد إصرار البدوي، وما أقوى عزمه فقلت: حسن أطع أمر الشيخ بارك الله فيك. فوضع ما بالمغرفة في صحن وصار جذلاً بعد أن تناولنا الفاكهة، وغسلنا أيدينا بالماء الدافئ والصابون، انطلقنا للصيد. وكانت محاولات الرماة كلها غير صائبة، ما عدا الشيخ صفوك الياور، فقد رأى ثلاثة من طير الحباري الكبيرة، فقال: لأرمينها ونحن في السيارة، أسرع يا سائق ولا تتوقف أبداً أو تبطئ. وهاهو ذا يصيب طائرين من الثلاثة، حملنا واحداً منها معنا هدية لأصدقائنا في أربل، فإن هذا الطير لذيذ الطعم بعد الطهي
وبذلك انتهت زيارتنا للبادية مع شديد الأسف
(للحديث بقية)
زينب الحكيم