الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 283/للتاريخ السياسي

مجلة الرسالة/العدد 283/للتاريخ السياسي

بتاريخ: 05 - 12 - 1938


المفاوضات وتأثير ألمانيا فيها

للدكتور يوسف هيكل

(تعقدت المشكلة التشيكوسلوفاكية في شهر أغسطس (آب) سنة 1938 وأخذ تعقدها يزداد حتى كادت تفجر قنبلة الحرب العالمية. غير أنه لا يزال هناك أمل في إيجاد حل لهذه المشكلة عن طريق المفاوضات بين الحكومة التشيكوسلوفاكية وممثلي حزب السوديت. وبعرضنا لها نتكلم عن المناورات الحربية الألمانية ومهمة اللورد رنسيمان، ونبين تطورات المفاوضات، ونذكر تأثير خطاب الهر هتلر على مسيرها.)

غادر اللورد رنسيمان لندن إلى براغ في أغسطس (أب)، موفداً من الحكومة البريطانية بالاتفاق مع الحكومة الفرنسية، ليكون وسيطاً بين حكومة براغ وحزب السوديت. وكانت مهمته بذل الجهود لمنع فشل المفاوضات السائرة بين الدكتور هودزا رئيس حكومة تشيكوسلوفاكيا، وممثلي الهر هنلاين رئيس حزب السوديت. وفي حالة فشل هذه المفاوضات أعد اللورد رنسيمان مشروعاً من عنده، يوفق به بين وجهتي نظر الفريقين المتنازعين، ليضمن السلام ويبعد شبح الحرب العامة، الذي كان يحوم في جو أوربا الوسطى.

ولما أخذ اللورد رنسيمان يدرس الوضعية في تشيكوسلوفاكيا، جابهت ألمانيا العالم باستعداداتها الحربية الهائلة التي دعتها مناورات اعتيادية تاريخ ابتدائها 15 أغسطس (آب).

وفي الواقع كانت التعبئة، أي التجنيد، لهذه المناورات تعبئة عامة أقلقت الدوائر السياسية واضطرب منها الرأي العام. إذ صدرت الأوامر بتعبئة جميع الأطباء والممرضات. وتلقى الرجال القادرون على حمل السلاح والذين لم يدعوا إلى الخدمة حتى ذلك الوقت، الأمر بأن يكونوا في كل وقت مستعدين لتلبية أوامر السلطات، وحظر على كل ألماني دون الخامسة والستين من العمر مغادرة ألمانيا إلى بلد آخر. وألغيت جميع إجازات العمال في السكك الحديدية، وأبطلت معظم قطارات السفر لإفساح المجال للقطارات العسكرية، وصادرت السلطة معظم سيارات (الباصات) (أتوبوس). وأخذت إنشاءات الطرق نحو الحدود التشيكوسلوفاكية تسير بسرعة عظيمة، وإقامة القلاع على ضفاف الرين وإتمام خط (سيكفريد) المواجه لخط (ماجينو) تجري بسرعة لم يسبق لها مثيل. ثم أرسلت الجيوش إلى حدود تشيكوسلوفاكيا، واحتلت القوى العسكرية قلاع الرين والثكنات المواجهة للحدود الفرنسية.

وكان الغرض من هذه الاستعدادات الحربية الهائلة، غرضاً سياسياً هو التأثير على سير المفاوضات بين حكومة تشيكوسلوفاكيا وممثلي حزب السوديت، والتهويل على حكومتي لندن وباريس، لتفسحا المجال لتحقيق المطالب الألمانية.

في هذا الجو الصاخب سارت المفاوضات بين الدكتور هودزا، والهر هنلاين. وكان الأول، أي رئيس الوزارة التشيكوسلوفاكية يستند في موقفه إلى تحالفه مع باريس وموسكو، وإلى التحالف العملي بين لندن وباريس. وكان الثاني أي رئيس حزب السوديت يستند إلى الهر هتلر. وكل منهما كان يعتقد أنه الأقوى، وكل منها كان يريد من الآخر أن يتراجع عن موقفه. ولهذه انقطعت المفاوضات مراراً، ولم تستأنف إلا بفضل جهود اللورد رنسيمان وتسامح الحكومة التشيكوسلوفاكية. ورغم ذلك كانت نهايتها فشلا تاما. وإننا لذاكرون أهم تطوراتها:

قدم حزب السوديت الألماني مذكرة إلى حكومة براغ، في 7يوليو (تموز) الفائت، وعرض فيها الدخول في مفاوضات على أساس تحقيق المطالب التي جاء ذكرها في المذكرة وهي لا تختلف عن المطالب الثمانية التي أعلنها الهر هنلاين في خطابه الذي ألقاه في كارلسباد في 23 ابريل (نيسان) سنة 1938. وكانت الحكومة حينئذ آخذة في وضع نظام الأقليات، وفي 9 يوليو (تموز) اجتمع الدكتور هودزا مع مندوبي الهر هنلاين وباشروا المفاوضات. وفي 15 منه صدر بلاغ رسمي مشترك يشير إلى أن الاتفاق تم على أن تكون مذكرة السوديت ونظام الحكومة بشأن الأقليات بمثابة أساس مفاوضات بين الحكومة والسوديت.

سارت المفاوضات، وكان يحضرها مندوبو الأحزاب البرلمانية في تشيكوسلوفاكيا، فظن الرأي العام أن الطرفين واصلان إلى نتيجة إيجابية تؤدي إلى الوفاق بينهما وزوال خطر الحرب العالمية.

ولكن بينما كانت المناورات الحربية الألمانية على أشدها، والرأي العام متجه نحوها، أعلن مندوب السوديت، في 17 أغسطس (آب)، عدم قبولهم النظام الجديد الذي وضعته الحكومة لتحسين حالة الأقليات. وأبلغوا اللورد رنسيمان بأنهم لا يرون فائدة من مواصلة المفاوضات مع الحكومة.

اهتم اللورد رنسيمان للموضوع، وبذل جهودا في إقناع مندوبي السوديت بضرورة العدول عن رأيهم هذا، فطلب وفد السوديت مواصلة المفاوضات مع الوزارة فقط، مفاوضة الند للند في جلسات لا يحضرها مندوبو الأحزاب البرلمانية. فقبلت الحكومة طلب السوديت، بعد تدخل الدكتور رئيس الجمهورية التشيكوسلوفاكية واللورد رنسيمان في الموضوع على أثر ذلك وافق مندوبو السوديت على مواصلة المفاوضات مع الوزارة ولكنهم أصروا على رفض الاقتراحات التي عرضت عليهم.

عمدت الحكومة إلى منح السوديت الألمان امتيازات جديدة كتعيين عدد كبير من رجالهم في وظائف كبيرة مختلفة. غير أن حزب السوديت قابل هذه الامتيازات بالاستخفاف والامتعاض. وللوصول إلى اتفاق حاولت الوزارة التشيكوسلوفاكية في 25 أغسطس (آب) إيجاد قاعدة جديدة للمفاوضات، غير أنه ظهر في اليوم التالي أن الأزمة التشيكوسلوفاكية بلغت حد الخطر، إذ شقة الخلاف واسعة بين الطرفين يتعذر سدها، لوقوف حزب السوديت موقف المتصلب والمتشبث بمطالبه كاملة غير منقوصة. وكانت ألمانيا تشجعه على هذا الموقف وتحثه على عدم التساهل. وأخذت الصحف الألمانية حينئذ تحمل حملة شعواء على تشيكوسلوفاكيا من أجل حوادث تافهة لا قيمة لها ولا أهمية. وكان ذلك دليلاً على أن ألمانيا لا تريد حل مسالة السوديت بمفاوضات حرة

وبسبب خطورة الحالة الدولية ضاعف اللورد رنسيمان نشاطه بإيعاز من لندن، وبذل جهوداً لمتابعة المفاوضات، فاجتمع في 28 أغسطس (آب) بالهر هنلاين، وقصد مساء 29 أغسطس (آب) قصر الرياسة وقابل المسيو بنيش ومهد الاجتماع الهر هنلاين بالرئيس وشاع حينئذ أن ذلك الاجتماع يأخذ مكانه بعد ظهر 30 أغسطس (آب). غير أن هذا الاجتماع لم يتم، وبدلاً منه اجتمع الرئيس بنيش بالدكتورين كورندت وسبدوسكي من زعماء السوديت. وعرض عليهما اقتراحات جديدة للحكومة التي وضعت على أساس تقسيم البلاد إلى مناطق ذات حكومات مستقلة لها سلطات واسعة على مثال سويسرا. وقد أكدت المقامات المتصلة ببعثة اللورد رنسيمان أن السوديت الألمان لا يرفضونها إذا تركوا وشأنهم. ولم يقع عليهم ضغط من جهة الألمان. وفي 2 سبتمبر (أيلول) اجتمع الدكتوران كوندت وسبيدسكي برئيس الجمهورية من جديد، وبسطا له آراء السوديت في الاقتراحات الجديدة، التي قدمها إليهم في 3 أغسطس (آب)، وهي تدل على أن حزب السوديت لم يقرر رفض اقتراحات الحكومة بل أبدى في صددها تحفظات كثيرة يتطلب الاتفاق عليها مفاوضات شاقة طويلة

وفي هذه الأثناء أي في أول سبتمبر (أيلول) كان الهر هنلاين قد ذهب إلى (برخستكادن) لمقابلة الهر هتلر بإيعاز من اللورد رنسيمان. ولدى عودته ذهب المستر جوانكين، مساعد اللورد رنسيمان إلى بلدة آش في 4 سبتمبر (أيلول) وقابل الهر هنلاين واطلع منه على ما دار بينه وبين الهر هتلر من حديث، ثم عاد وأطلع اللورد رنسيمان على ما سمع من الهر هنلاين

وبعد عودة الهر هنلاين من ألمانيا اجتمع بمندوبي السوديت الذين كانوا يفاوضون الحكومة، وعلى أثر ذلك نشر حزب السوديت في 5 سبتمبر (أيلول) بلاغاً له مغزاه، طلب فيه تحقيق مطالبه الثمانية التي أعلنت في كارلسباد، حالاً وغير ناقصة

جدت حكومة براغ في 5 سبتمبر (أيلول) في وضع اقتراحات جديدة لحل مشكلة السوديت، راعت فيها تحقيق مطالب الهر هنلاين الثمانية، حسما للنزاع، وتحقيقاً للوصول إلى اتفاق سلمي.

وفي اليوم التالي قابل الدكتور بنيش زعماء السوديت وأسلمهم الاقتراحات الجديدة، أو ما سمي (المنهاج الرابع). وهذا المنهاج محتو على تسع مواد توجز كما يلي:

1 - تمثيل الجنسيات والعناصر بالوظائف الحالية والمستقبلية نسبة لعددها

2 - تعيين الموظفين في الأقاليم من جنس أكثرية السكان

3 - تجديد نظام الأمن بتقسيمه إلى بوليس الدولة وبوليس الأقاليم، ويعين للأقاليم بوليس من جنس سكانها

4 - مساواة لغات الأقليات باللغة التشيكية

5 - القيام بعمل واسع النطاق في سبيل إنماء الحركة الاقتصادية في المناطق الألمانية التي أصيبت بأشد أضرار الأزمة. منها منح هذه المناطق قرضاً تبلغ قيمته خمسة ملايين جنيه بشروط متهاودة

6 - تقسيم البلاد مقاطعات مستقلة استقلالا ذاتياً ومتساوية في الحقوق على أساس عنصرية السكان

7 - إنشاء إدارة خاصة للأقاليم في جميع الإدارات المركزية يديرها وطنيون، لمعالجة المسائل المتعلقة بجنسياتهم

8 - المحافظة على حقوق المواطنين القومية بقوانين خاصة، ويكون للهيئات التمثيلية المختلفة حق الاعتراض على أي تدخل في حقوق أو مصالح الجنسيات التي تمثلها. وستكون سجلات خاصة لكل جنسية

9 - اتخاذ احتياطات حالية للوصول إلى اتفاق على هذه النقاط التي لا تتطلب احتياطات تشريعية. أما فيما يتعلق بوضع قوانين جديدة، فإن الحكومة ستحضرها بالاشتراك مع حزب السوديت الألماني. وستعرض المشروعات على البرلمان وتنفذ بأسرع وقت ممكن

قابل الألمان السوديت اقتراحات الحكومة هذه بارتياح، وقبلوها في 7 سبتمبر (أيلول) أساساً للمفاوضات، لأنهم رأوا فيها تحقيقا يكاد يكون تاما لنقاط كارلسباد الثمانية، فساد التفاؤل وعظم الأمل بالوصول إلى حل ودي. غير أنه في اليوم نفسه وصلت براغ أنباء حادث (ماهريش استراو) فأثارت غضب الألمان السوديت فقرروا قطع المفاوضات. أما حادث ماهريش استراو فيوجز فيما يلي:

وصل في 6 سبتمبر (أيلول) كثيرون من ممثلي حزب السوديت الألمان إلى ماهريش استراو لمطالبة السلطة بالتحقيق في بعض الأخبار التي يؤخذ منها أن الألمان السوديت الذين كانوا قد اعتقلوا عوملوا في السجن معاملة سيئة. ولما دخلوا دار المحافظة تجمع الأهالي الألمان خارج الدار. فأعمل البوليس الركبان فيهم الضرب بالعصي والسياط لتفريقهم. ويقال أن البوليس ضرب اثنين من نواب السوديت على الرغم من تلويحهما بشهادتيهما القانونية

اهتمت حكومة براغ لهذا الحادث، واتخذت التدابير لعدم تكرره، ولتحسين معاملة المساجين الألمان. وطلب رئيس وزارة براغ مقابلة النائبين كوندت وروش، فاجتمع بهما يوم 7 سبتمبر (أيلول) ودارت محادثة سوي على أثرها حادث مهريش استراو وانتهت بالاتفاق على استئناف المفاوضات

وبينما كانت حكومة براغ جادة في حل المشكلة التشيكوسلوفاكية بالاتفاق مع السوديت الألمان بمنحهم مطالب زعيمهم الثمانية، فاجأت جريدة التيمس، المعروفة بعلاقتها الوثيقة مع حكومة لندن، العالم في 7 سبتمبر (أيلول) مقترحة في مقال رئيسي، حل المشكلة التشيكوسلوفاكية عن طريق فصل الأقاليم السوديتية وضمها إلى ألمانيا. ومصرحة ((بأن إرادة الأهالي الذين يعنيهم الأمر ستكون عاملا له أهمية فاصلة في أية تسوية يرضى أن تكون دائمة) وهذا الحل غاية ما يصبو إليه السوديت الألمان، وما يرمي إليه الهر هتلر. غير أن السوديت الألمان لم يجرءوا حتى ذلك التاريخ على طالبه، ولم يأملوا تحقيقه

وبينما كانت المفاوضات تسير في براغ بصعوبة ومشقة، ومن غير أن توصل إلى نتيجة إيجابية، قرب يوم الاثنين الموافق 12سبتمبر (أيلول) وهو تاريخ إلقاء الهر هتلر خطابه التاريخي، الذي كان ينتظره الناس في جهات الدنيا الأربع. فأحالوا نظرهم عن تشيكوسلوفاكيا، واتجهوا نحو نورمبرغ، حيث أنتقل إليها مركز النظر في المشكلة التشيكوسلوفاكية، وحيث يلقي زعيم ألمانيا كلمته الخطيرة

كان خطاب الهر هتلر شديد اللهجة عنيفاً، ولم يكن في الإمكان في أحوال دولية عصيبة كأحوال شهر سبتمبر (أيلول) الفائت، أن يلقي زعيم ألمانيا خطبة أشد لهجة من الخطاب الذي ألقاه في مؤتمر نورمبرك وكان (ضربة أصابت أساس سياسة التوفيق التي سار عليها المستر نيفل تشمبرلين)، كما قالت النيويورك تايمس في 13سبتمبر

فقد حمل فيه على الحكومات الديمقراطية حملة شعواء، ملؤها السخرية والازدراء، وهاجم حكومة براغ هجوماً عنيفاً بعبارات ملؤها الإهانة والتحقير. ومما قاله بصدد المشكلة التشيكوسلوفاكية:

(. . . إني أعلن أن هذه المخلوقات المضطهدة (أي السوديت الألمان) إذا لم تحصل على حقها وعلى المساعدة التي تستطيع المطالبة بها فإنها ستنال هذا الحق وهذه المساعدة منا. . لقد سبق لي أن أعلنت أني لا أتحمل بعد الآن أن يظل هؤلاء الملايين الثلاثة مضطهدين، وأرجو من رجال سياسة الدول الأجنبية أن يعلموا أن هذا ليس كلاماً بلا معنى). وبعد أن ذكر الفوهور أن ألمانيا ضحت كثيراً في سبيل السلم قال (إن الشعب الألماني ليس مستعداً لأن يقبل آلام ثلاثة ملايين ونصف مليون أو يشترك في تحملها. أني أستطيع أن أؤكد لساسة لندن وباريس أننا عازمون على الدفاع عن مصالحنا في جميع الظروف. وأني أفضل أن أتحمل الضيق والخطر والاضطهاد على أن أعدل عن تحقيق هذا الواجب)

وبعد أن أبان الأعمال التي قام بها منذ 28 مايو (مايس) الأخير لتعزيز قوى ألمانيا الحربية قال: (لقد بذلت هذا الجهد لأضمن السلم، ولست على استعداد لأن أشاهد اضطهاد الشعب الألماني في تشيكوسلوفاكيا بهدوء لا حد له. إنهم يريدون الشروع في مفاوضات وتسويف الأمور ولكن ذلك لا يمكن أن يدوم)

(إن ما يريده الألمان هو حق تقرير مصيرهم بأنفسهم، وهذا ما يتمتع به كل شعب بدون شك. إني أريد أن ينتهي اضطهاد ثلاثة ملايين ونصف مليون من الألمان في تشيكوسلوفاكيا، فان المسألة مسألة مواطنين ألمان، ولا أرغب في أن تنشأ على الحدود الألمانية فلسطين أخرى، فألمان تشيكوسلوفاكيا لن يظلوا بدون دفاع ولن يتركوا لأنفسهم. . .)

وقد ختم الهر هتلر خطبته بقوله: (إننا لن نذعن بعد الآن لإرادة أجنبية، وإنني أقسم على ذلك وليساعدني الله)

أصر الهر هتلر في خطابه على وجوب إعطاء السوديت الألمان (حق تقرير مصيرهم) ولم يطلب صراحة فصلهم عن حكومة براغ وضمهم إلى ألمانيا، لعلمه حق العلم بأن الألمان السوديت إذا أعطوا حق تقرير مصيرهم يقررون الانضمام إلى الريخ الألماني، وليظهر للعالم بأن ألمانيا لا تريد التوسع في أوربا وإنما البلاد المأهولة بالألمان، خارج حدود الريخ، تريد الانضمام إليه

كان لخطاب الهر هتلر تأثير عظيم على نفسية الألمان السوديت وأنتج تغييرا أساسيا في مطالبهم القومية، إذ أعلنوا أن مطالبهم الثمانية المعلنة في كارلسباد لم تعد أساسا صالحا للمفاوضات. وطافت جموعهم في الشوارع طالبة الاستفتاء، وقامت مظاهرات نادى القائمون بها بالانضمام إلى ألمانيا، هاتفين: (شعب واحد ريخ واحد، زعيم واحد).

أدى هذا الهياج إلى حدوث اضطرابات ومصادمات اضطرت الحكومة إلى إعلان الأحكام العرفية. غير أن ذلك لم يرق حزب السوديت فأنذر الحكومة في 13 أيلول وقدم إليها مطالب منها إزالة هذه الأحكام. وأمهلها ست ساعات، مهددا بعدم استئناف المفاوضات. وردت الحكومة على هذا الإنذار بأنها لا ترى مانعا من قبول مطالب الحزب إذا وجه الزعماء إلى الشعب نداء يناشدونه فيه احترام القانون والنظام، وجاء وفد منهم إلى براغ للمفاوضة في هذا الشأن.

لم يأبه حزب السوديت لرد الحكومة، بل أصدر بلاغا جاء فيه (أنه لم يعد من الممكن مواصلة المفاوضات على الأسس التي اتبعت حتى الآن. ولذلك أعفى الهر هنلاين الوفد من مهمته وشكره على جهوده). وفي اليوم التالي طلب حزب السوديت رسميا من حكومة براغ أن يكون للألمان السوديت حق تقرير مصيرهم. ونقل الحزب مركزه من براغ إلى اشن ليكون قريباً من الحدود الألمانية.

وفي 16 أصدر الهر هنلاين بيانا قال فيه (إننا نريد أن نعيش عيشة الألمان الأحرار، إننا نريد أن نعود إلى الريخ). وأخذت صحف الألمان تحمل حملة عنيفة على تشيكوسلوفاكيا، ومما قالته جريدة (فولكشر بيوساختر) صباح 17 سبتمبر (أيلول)، أن الوقت قد حان لا بعاد المسيو بنيش عن مسرح السياسة الدولية الأوربية وإزالة دولة من خريطة أوربا.

إن انقطاع المفاوضات أضاع الأمل في الوصول إلى حل سلمي دون تدخل الدول الأخرى)، وقال اللورد رنسيمان في الكتاب الذي أرسله إلى المستر تشمبرلن في 21 سبتمبر (أيلول) إن مسئولية قطع المفاوضات النهائية في رأيي، تقع على الهر هنلاين والهر فوتك، وعلى هؤلاء من مؤيديهم، داخل البلاد وخارجها، الذين كانوا يحضون على أعمال العنف وعلى الأعمال غير الدستورية)

أقلق خطاب الهر هتلر وما تبعه من اضطرابات وقطع المفاوضات في تشيكوسلوفاكيا، الرأي العالمي وبالأخص في لندن وباريس، ودعاهما إلى بذل آخر ما لديهما من جهود في سبيل حفظ السلام. فما هي هذه الجهود؟ وماذا كانت ثمرتها؟ هذا ما سنعرضه في مقال آخر.

يوسف هيكل