مجلة الرسالة/العدد 282/في غار حراء
→ الحقائق العليا في الحياة | مجلة الرسالة - العدد 282 في غار حراء [[مؤلف:|]] |
على الخبير سقطت ← |
بتاريخ: 28 - 11 - 1938 |
للدكتور عبد الوهاب عزام
هذا يوم الأحد رابع عشر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائة وألف، ونحن في البلد الأمين مكة وقد قضينا مناسك الحج. . .
قلت لبعض الرفقاء: هلم إلى غار حراء. فأخذنا سمتنا صوب الشمال ضحوة النهار، منا الراكب ومنا الراجل، وملء القلوب اشتياق وسرور، وعلى الوجوه التهلل والبشر
بلغنا جبل النور - جبل حراء - بعد أربعين دقيقة. وملنا مع الدليل ذات الشمال فإذا امرأة تنحدر من السفح مسرعة تصيح: (أنتم غادين؟) فقلنا: ما تبغين؟ قالت: هنا الطريق. فاتفقنا على أن تهدينا السبيل إلى الغار. ونظرنا إلى الجبل فإذا السفح ينتهي إلى قمة شاهقة ملساء، قطعة واحدة من الصخر قاتمة
سارت فاطمة أمامنا مصعدة خفيفة سريعة لا تبالي الشوك والحصى وأطراف الصخور الحديدية كأنها أروى ترتع على السفح
سارت في طريق معلمة يبين فيها بين الحين والحين تمهيد الإنسان؛ هنا حجارة مرصوصة يرتقي عليها الصاعد، وهناك جدار صغير من حجارة مركومة أو مبنية تعصم المرتقى أن يزل عن الطريق
تتابعنا صاعدين جاهدين منحنيين على المرتقى الصعب، وما في النفوس من رفعة الذكرى أجل وأرفع، وما يبهر النفس من رهبة المكان أبهر وأروع، مما يثقل الجسم في توقل هذا الطود العظيم. وكأنما نرتقي في التاريخ وعبرته، ونصعد في جلال الحق وعظمته، ونطمح إلى السماء، لا إلى قنة حراء. ألسنا مقدمين على مشرق النور، ومطلع الحق، ومهبط الوحي، وملتقى السماء والأرض؟ لكأن هذه الأشعة المرتدة عن هذه القمة الملساء العالية بقية من نور الحق تتألق في حراء، أو آي من القرآن لا تزال ترددها الأصداء
صعدنا ثم صعدنا حتى انتهينا إلى صخرة مُظلة، فأوينا إليها قليلاً نستجم ونمسح العرق. ثم رقينا تتلوى بنا الطريق ذات اليمين وذات الشمال حتى بلغنا مستوى فيه حوض كبير طوله ثمانية أمتار وعرضه ستة وعمقه أربعة، بعض جوانبه الصخور، وبعضها جدار من الحجر، تجتمع فيه مياه المطر. وقد صادفنا فيه ماء صافياً بارداً فشرب من شرب وتوضأ من شاء، وجلسنا هناك جلسة شربنا فيها الشاي واسترحنا، وجمعنا قوانا لبلوغ القمة
على ذروة الجبل بقية جدار تحيط بمستوى ضيق في وسطه صدع في الصخر. يزعم العامة أن عند هذا الصدع شُقَّ صدر الرسول. وللعامة في الأمكنة المقدسة أوهام يصلونها بمواضع من الأرض والجبال والأبنية والأشجار. وكأن السلطان عبد العزيز رحمه الله صدَّق هذا الزور فأمر أن تبنى على المكان قبة عالية كان ارتفاعها ثمانية أمتار. فلما جاء الوهابيون هدموا القبة والجدار إلا بقية
وقفنا على الذروة نسرح العيون حولنا بين جبال وأودية ونرى مكة وجبالها وقلاعها ودورها
هذه قمة حراء فأين الغار؟ جنوبي هذه القمة درجات هابطة على السفح منحوتة ومبنية، هبطنا زهاء ثلاثين درجة ثم سرنا فملنا نحو اليمين إلى صخرة هائلة مائلة على الجبل، وتخللنا مسلكاً ضيقاً قصيراً بينها وبين السفح إلى مستوى صغير، فإذا أمامنا سفح منقطع ينحدر إلى أرض سحيقة، وعلى يميينا قمة حراء التي كنا فوقها، وعلى يسارنا الغار: غار حراء العظيم! فجوة ضيقة تميل على مدخلها صخور تدعم بعضها حجارة مبنية. فأما سعة الغار فمرقد ثلاثة متجاورين، وأما علوه فقامة رجل، وفي نهايته صدع ترى منه الأرض والجبال إلى مكة.
هنا فر محمد بن عبد الله بنفسه - فر إلى ربه من ضوضاء الحياة وأكاذيبها، من مظالم الناس ومفاسدهم، من باطل العقائد وزورها - أوى إلى هذا الجبل، إلى هذا الغار، إلى قلب الخليقة! هنا طود أشم يطل على أودية ألحت عليها الشمس المحرقة ليس بها من معنى الحياة إلا نبت ضئيل، وليس بها من ذكرى الحياة إلا أثر السيل بعد المطر. ووراء الأودية جبال شامخة تتداول عين الرائي؛ وعلى بعد مكة، بين هذه الأودية والجبال وتحت هذه السماء الصاحية حقائق لا يشوبها تمويه ولا تزوير، ولا يلحقها تبديل ولا تغيير، ولا يمسها رياء ولا نفاق.
فرّ محمد إلى هذه الحقائق لا فرار الراهب يترك الناس لينجو بنفسه، ولكن كما يلجأ إلى الشاطئ من يحاول إنقاذ إخوانه الغرقى. هنا جمع محمد نفسه وفتح قلبه وناجى ربه، وهنا تجلى الله لهذه النفس الزكية، وأضاء على هذا القلب الطاهر، هنا جاء الوحي ونزلت الآية: (اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم) وهي فاتحة القرآن، وغرة الإسلام، ومسجلة سعادة الإنسان. لله ما وعى هذا الغار من آيات! ويا عجباً كيف ثبت على هذه الرجفات، و (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله!). قلت من قبل في شعر الصبا:
لعل جبال مكة لا يزال ... يجلجل فوقها هذا المقال
ويخفض رأسها ذاك الجلال ... وما نسيت بغار حراء ذكرى
والآن أقول: ألا يسمع هنا ذلك الصوت مدوياً مردّداً؟ ألا يرى هنا هذا النور طائفاً بحراء متلألئاً؟ ألا يجد الواقف هنا روحا من الإيمان، ويسمع وحياً من القرآن؟
خرج محمد صلوات الله عليه من هذا الغار، من حضن هذه الخليقة وهو أشبه شيء بها؛ خرج حقيقة من حقائق الله نقيّة جليّة صريحة، لا تبديل ولا تزوير، ولا لبس ولا تغرير، ولا خفاء ولا اضطراب. خرج قانوناً من قوانين الله التي تسّير الشمس والقمر والنجوم، وتمسك السماء والأرض، يمضي قُدماً إلى الغاية المقدورة مضى النجوم في حبكها، والشمس في فلكها
تمثل الرسول هابطاً من حراء وقد حمل عبء النبوة واضطلع بأمانة الرسالة، وأفضى الله إليه بوحيه وكلفه هداية خلقه
ليت شعري أهبط ونفسه قريرة هادئة كما ينزل النور من الشمس والقمر، أم نزل ونفسه جائشة مجلجلة كما ينزل الغيث بين الرعد والبرق؟ لست أدري، ولكنه نزل ديناً جديداً، وعصراً وليداً، وتاريخاً مديداً، وإصلاحاً شاملاً، وهدى كاملاً، ورحمة للعالمين
أيها الغار! يا مولد الحق، ومطلع النبوة، ومأوى محمد! لولا أن محمداً الكريم نهانا لقبلت أحجارك واكتحلت بترابك
أيها الغار! من لي فيك بخلوة، من لي بخلوة فيك!
ناداني صحبي: هلم فقد حان الرجوع، فعدنا إلى مكة
عبد الوهاب عزام