مجلة الرسالة/العدد 282/على الخبير سقطت
→ في غار حراء | مجلة الرسالة - العدد 282 على الخبير سقطت [[مؤلف:|]] |
ليلى المريضة في الزمالك ← |
بتاريخ: 28 - 11 - 1938 |
للأستاذ قسطاكي بك الحمصي
أطلعني بعض الأصحاب الأفاضل على العدد 277 من مجلة الرسالة الوضيئة، وقد رأوا فيها اسم هذا العاجز مذكوراً في مقالة على كتاب المبشرين جاء في حاشية منها استشهادي بأخلاق ونزائع الأخ الحبيب بل أستاذي الجليل الشيخ إبراهيم اليازجي رحمه الله فلم أر بداً من إجابة طلب الأستاذ العلامة صاحب المقالة، وقد دلني قوله على يقين حضرته بما كان بين الإمام وبيني من متين الود والإخلاص ومستسر الأحاديث واتصال المكاتبة مدة ربع قرن أو تزيد
ولقد أورد حضرة الصديق الفاضل صاحب الرد على المفترين ما نشره في الضياء الإمام اليازجي رداً على صديقه وصديقي الإمام صاحب المنار - طاب ذكرهما - ما فيه بلاغ
على أني وفاء بعهدي عند الوداع الأخير لذلك الإمام الجليل بترديدي قول الشريف:
لا دَرَّ دَرِّى إن مطلتك ذمة ... في باطن متغيب أو بادي
وكرامة لتحقيق بغية هذا الأستاذ الجليل أشفع الحجة بالحجة فأقول:
إن الشيخ اليازجي لفرط شغفه بلغته العربية كان منصرفاً عن جميع الملاذ الدنيوية لا يطرب لشيء كطربه لأحاديث اللغة والفنون، وقد جذبه ذلك الشغف إلى إجلال القرآن واحترامه إجلالاً واحتراماً لا يفوقه فيهما أكابر أئمة المسلمين، لأنه هو عماد اللغة العربية وركنها الشديد، وهي التي أفنى أيام حياته كلها في حبها. وكان رحمه الله يقول: لولا القرآن لماتت اللغة العربية، وبموتها تنقرض الأمة العربية وتتداخل في أصول جيرانها الأقوياء والعياذ بالله. وقال لي يوماً في عرض الحديث عن الطاعنين في لغة القرآن كلاماً أذكر معناه وإن تبدلت الألفاظ:
من المعلوم أن القرآن أنزل لدعوة قوم إلى عبادة الله والإيمان برسالة محمد، وكانوا هم وكثير غيرهم من قبائل العرب عباد أصنام، وهم أهل لغاتها، ولم يكن لهم يومئذ كتب لغة وقواعد نحو وصرف، ولا يعرفون من ذلك سوى أشعارهم وأحاديثهم وما يرونه من أقوال خطابائهم وفصحائهم، فلو رأوا في لغة القرآن عوجاً أو أمتاً ومحمد يتحداهم بفصاحة لغة كتابه وفيه: (قل لئن اجتمعت الأنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) وكثير من أمثال هذه الآية. أقول لو رأوا فيها أغلاطاً تخالف متداول لغاتهم لأنكروها عليه وهم لم يقفوا في معاداته وإنكار رسالته عند حد، فقد قالوا عنه أوله؛ إنه شاعر مفتون وساحر ومجنون، وأمثال هذا من القحة والشتم فما الذي صدهم عن المجاهرة في الطعن على لغة الكتاب بعد كل التحدي المؤلم الذي كان يتكرر في آياته؟ فان زعم الطاعنون اليوم أن أولئك قد طعنوا ولم يصل إلينا كلامهم أجبناهم أن الكتاب ذكر قولهم فيه إنه مجنون، وهل هناك نعت يعد أشد إيلاماً من هذا النعت؟
وجملة القول أن الإمام الشيخ إبراهيم اليازجي كان يرى في المطاعن المذكورة نقص اطلاع أصحابها على علوم اللغة وقواعدها وتشعبها في القبائل الكثيرة من العرب. والكتاب كما هو معلوم لم ينزل لأهل قبيلة أو قبيلتين من أفصح القبائل العربية بل لجميع العرب، كما أن واضعي القواعد العربية وجامعي لغاتها لم يحيطوا في كتبهم بكل ما تداولته جميع تلك القبائل، بل اقتصروا على الأفصح تارة وحيناً على الأشهر والأعم لتكون اللغة في ميسور المتعلمين، وهم مع كل احتياطهم وأخذهم بالأحزم لم يجمعوا إلا نحو الثلث من ألفاظ اللغة كما روي كثير من أكابر العلماء كأبي عمرو بن العلاء وابن سيرين وغيرهما. وقل مثل ذلك في قواعدها. قال ابن جني: أخبرني فلان عن فلان عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني في كتابه الكبير في القراءات قال: قرأ علي أعرابي بالحرم (طيبي لهم وحسن مآب) فقلت له طوبى، فقال طيبي، فأعدت فقلت طوبى فقال طيبي، فلما طال علي قلت طوطو قال طي طي. أفلا ترى إلى هذا الأعرابي كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء ولم يؤثر فيه التلقين؟
وقال: سألت يوماً محمد بن العساف كيف تقول ضربت أخوك. فقال أقول ضربت أخاك. فأدرته على الرفع فأبى وقال لا أقول ضربت أخوك أبداً
وحكى الكسائي أن قضاعة تقول مررت بّهْ والمالُ لِهْ وأنه فاش في لغتها
ونحن نعلم أن بعض العرب قالوا مررتُ بأخواك وضربت أخواك، وكل هذه وغيرها لغات كثيرة موثوق بها وردت عن العرب. والقرآن ورد على سبع لغات منها، فالطعن في لغته أو لغاته ضعف وقوف على لغات العرب وأقوال العلماء والشراح وهو أمر مفروغ منه
وقال أبن جني: قلت مرة لأبي بكر أحمد بن علي الرازي رحمه الله وقد أفضنا في ذكر أبي علي ونبل قدره ونباوة محله: أحسب أن أباً عليّ قد خطر له وانتزع من علل هذا العلم ثلث ما وقع لجميع أصحابنا. فأصغى أبو بكر إليه ولم يتبشع هذا القول
فإذا كان ابن جني وهو الإمام الجليل بين العلماء المتقدمين والمتأخرين يقول عن أستاذه أبي علي الفارسي وما أدراك من هو؟ إنه انتزع من علل العلم ثلث ما وقع لجميع العلماء إلى عهده وهو يخشى أن يكون قد اشتط في هذا الحكم، فما عسى أن يبلغ علم هؤلاء الطاعنين في لغة القرآن من علم أبي علي الفارسي وابن جني وأمثالهما من المتقدمين وفلاسفة الإسلام وشراح القرآن؟
هذا الكلام وأمثاله دار كثيراً بيني وبين الشيخ إبراهيم اليازجي، وكل من نقل عنه وأذاع حرفاً مخالفاً لما رويته من مذهبه أعلاه أعده كاذباً مختلقاً مفترياً يستوجب اللعنة من الله والناس
وفي الختام أكرر الشكر لحضرة الأستاذ العالم الأجل الذي استشهدني فوفقني لنفي الافتراء البحت وأشكر لصاحب الرسالة الأديب الفاضل إفساحه صفحة منها لكلامي. لا برح خير معوان لنشر الفضائل، ولا زالت رسالته لأفصح اللغات أم الرسائل
(حلب)
قسطاكي الحمصي