مجلة الرسالة/العدد 281/نظرة خاطفة
→ من الأدب المنحول | مجلة الرسالة - العدد 281 نظرة خاطفة [[مؤلف:|]] |
بين الفن والنقد ← |
بتاريخ: 21 - 11 - 1938 |
تطورات الأدب الحديث
للأستاذ فؤاد الطوخي
لو بعث أعرابي في الجاهلية وقرأ ما تفيض به أقلام الكتاب في هذا العصر لأعجزه فهم المعاني والمرامي، بل لأعجزه فهم التراكيب والأساليب، ولخرج من مطالعته وكأنه لم يقرأ ولم يفقه شيئاً. ذلك لأننا نكتب بلغة الغرب وندرك الأشياء بعقول هي أقرب ما نكون إلى عقول الغربيين، ونستمد منهم العلم ونستوحيه، ونرتوي من مناهلهم ونعترف، ولا يزال العالم العربي كله يترسم خطاهم ويلف لفهم، ويعاونه على ذلك مرونة اللغة، فهي تتسع لمختلف الأساليب وشتى التراكيب، ولا تنقصها الإبانة عن معاني الغرب كما أبانت عن معاني الشرق.
وهذا التطور الناشئ من طغيان أدب الغرب على اللغة قد ثقلت موازينه على التطورات الطبيعية التي تصيب اللغات من توالي الأجيال وما يلابسها من اختلافات في عالم الفكر وأساليب الحكم وصعود في المشاعر الإنسانية وهبوط. وما الأدب الرفيع إلا دعامة من مقومات الأمة، ومظهر من مظاهر حياتها ونزعاتها؛ بل ترجمان نهضتها يكشف عن أسرارها ويظهر ما كمن في نفسيتها وما استتر. فلما تهيأت أسبابه إبان النهضة المصرية الحديثة في عهد الخديو إسماعيل لم يكن بين المصريين من يعرف الصحافة أو يستسيغها، فنشطت جماعة من أدباء سوريا وممن كان الاستبداد التركي قد أرغمهم على الهجرة إلى أرض الفراعنة - إلى غرس بذور الأدب، فرحب بهم إسماعيل باشا وشجعهم على إصدار الصحف والمجلات وإنشاء فرق التمثيل وقرض الشعر وتأليف الكتب الأدبية. واتصلت مصر بسوريا اتصالاً أدبياً وثيقاً، ولسنا نقول إنهم أجادوا فيما أخرجوه للناس بادئ ذي بدء، ولكن معظم تلك الأقلام على اختلاف ألوانها لا يروقك منها اليوم إلا النذر اليسير. ولم ينزل المصريون إلى هذا الميدان إلا بعد فترة من الزمان. وكان الأزهر الشريف يومئذ يغط في الجمود غطيطاً حتى جاءه جمال الدين فأحيا مواته ونفخ فيه من روحه، وغادر مصر بعد قليل وقد أسلم راية النهضة إلى الأستاذ الإمام العظيم الشيخ محمد عبده، فعمل مع من التف حوله من تلاميذه الأخيار على إعلاء كلمة الأدب، وأرسل من صحن الأزه الشريف شعاعاً من النور لم يلبث أن بسط رواقه على بعض الأرجاء. ومنيت هذه النهضة بصدمات عنيفة يوم أرغم نصيرها ومحييها الخديو إسماعيل على اعتزال الحكم، وعاد الجمود ولكن لا يمكث طويلاً، وإنما يمكث إلى أن تدور دورة الأيام وتهدأ الأعصاب ويستجم الأدب قوته ويستعيد سيرته، إذ هيهات أن يحول حائل دون نمو شجرة أحكم زرعها وقوى أصلها. وما هي إلا عاصفة أثارها العرابيون حتى نفض الأدب عنه غبار الهدأة وخرج يتلمس مكانه تحت الشمس، وكان الشيخ محمد عبده فارس هذا الميدان أيضاً فجال بقلمه وصال، بل كان رئيس الوزارة نفسه البارودي شاعراً وكاتباً، وملأ عبد الله نديم الميادين والطرقات بخطبه وقصائده وأزجاله، وعالج آل المويلحي فنوناً من الأدب لا تزال بلاغتها تهز القلوب وتثير الشجون. وجاء الاحتلال فجاء معه الجمود للمرة الثالثة، ولكن لا ليستقر أيضاً وإنما يهدأ قليلاً ريثما يعود الأدب من جديد ملكاً ذا سطوة وبأس منادياً بالحرية مصوراً شعور الأمة بمقت الحكم الأجنبي.
وفي ذلك الحين بدأ نجم شوقي يعلو ويلمع، وتلاه حافظ، وتربع على دست الصحافة الشيخ علي يوسف في دار (المؤيد) ثم تلاه الأستاذ الإمام أحمد لطفي السيد في دار (الجريدة) وكانت لا تزال الصحافة السورية راجحة الكفة قوية الشكيمة. وأناخت على الأدب الحرب العظمى بكلكلها ولكن ما جاءت سنة 1919 حتى وصل الأدب ما انقطع، ولا حق ما سابق، وهب أقوى سلطاناً وأكبر نفوذا. فازدادت المجلات والجرائد المصرية دون السورية زهوراً وانتشاراً، واتسع مجال التأليف، وتعددت نواحي التفكير.
وأبرز ما يبدو في الأدب العربي الحديث هو الحيرة وعدم الاستقرار والخلو من الوحدة والتجانس والتماثل؛ فهو لم يعد بعد طور التكوين ولم تقم له شخصية جلية فهو في ذلك إنما يتمشى مع روح الأمة ومشاغلها وأمانيها، ففي مصر مثلاً كان أكبر ما يشغل الأذهان ويتغلغل في النفس هو السعي في سبيل الحرية، فانطبع الأدب بهذا الطابع وظهر أثره في الصحف والمجلات والخطب والتقارير وما إلى ذلك، فتغنى الشعراء بأناشيد وطنية تمس نواحي الأمل تارة، ونواحي الألم تارة أخرى، وكلما تطورت المواقف تطور معها الأدب وجرت بها أقلام الكتاب من حيث يشعرون أو لا يشعرون
ومن العجب العجاب أن الأدب الرفيع قد لاقي من صنوف التنكيل والمقاومة من جبروت الحكومات المستبدة، ومن استهتار الجمهورية ومن إغضاء أغنيائنا عن تعضيده ما لو حدث في غير مصر لتحطمت الأقلام ونضبت الإفهام، وساد الظلام، ولكن كتابنا استبسلوا واحتملوا الفواجع في سبيل الأعراب عن آرائهم الحرة، فنالوا تقدير العارفين وخلدوا في تاريخ مصر المجاهدة صحائف من نور. على أنه لن يمر زمن طويل، ما لم تتأثر مصر بمؤثرات دولية ليست في الحسبان، حتى تهب من أقصاها إلى أقصاها إلى الأخذ بأسباب الإصلاح ويتبع ذلك تطور وتجديد في عالم الفكر وعالم القلم، وتدور رحى المعارك الصحفية على الأعمال لا على الأشخاص، وعندئذ تبرز الشخصية المعنوية للأمة وتبرز معها شخصية الكتابة والكتاب فتستقر في قرار مكين وتصبح في مأمن من زعازع السياسة ومنازع الأغراض فلا يعصف بها استبداد، ولا يلويها عن قصدها حب في سيطرة أو استبعاد
على أنه رغم تلك الاضطرابات العامة والقلائل الجمة، فان مصر بحمد الله قد ظفرت بطائفة من الكتاب لا تقل علماً وأدباً وقوة ومغامرة عن أمثالهم في أعظم الأمم المتحضرة المجاهدة، وما ذك إلا لما هم عليه من ذكاء نادر وعلم وافر ومضاء في العزيمة وقوة في الشكيمة. وإذا حق لمصر أن تفخر بأبناء الجيل الحاضر فمن الأنصاف أن تضع في مقدمتهم الأساتذة الكرام (العقاد، والزيات، وهيكل، وطه حسين، والمازني، وزكي مبارك، وسلامة موسى) وغيرهم
والظاهر أن الحكومة قد فطنت إلى ضرورة تشجيع الأدب فقررت منذ عام وبعض عام منحهم جوائز على موضوعات يتبارون فيها، فكانت فكرة موفقة، ولا نعلم لماذا لم تستمر في ذلك! ولعلها تذكر أن من أكبر الأسباب التي دعت إلى ظهور طائفة كبيرة من الأدباء والشعراء الخالدين في العالم العربي، الصلات القيمة والمنح الكريمة التي وهبها إياهم الخلفاء تقديراً لنبوغهم وتشجيعاً لغيرهم. ولسنا بملتمسين غير العدالة - إن لم يكن الحق - إذا نحن وجهنا نظر حكومتنا إلى ضرورة منح المجلات الراقية في مصر إعانات كفيلة بتوطيد دعائمها حثاً لها على الاستزادة من خدمة قرائها تعميماً للثقافة وتعضيداً للعلم، ولها في ذلك أسوة بالمدارس الحرة ودور المسارح والملاهي
فؤاد الطوخي