الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 281/من الأدب المنحول

مجلة الرسالة/العدد 281/من الأدب المنحول

بتاريخ: 21 - 11 - 1938


في عيد ميلاد المسيح

للمرحوم مصطفى صادق الرافعي

(قلت في العدد الماضي إن صديقاً من أصدقاء الرافعي طلب إليه مرة أن يعد كلمة عن المسيح لتلقيها فتاة مسيحية في حفلة مدرسة أجنبية في ليلة عيد الميلاد. . .

(وكتب الرافعي كلمة في تمجيد المسيح فدفعها إلى صديقه. وألفتها الفتاة في حفل حاشد من المسيحيين، فكانت عند أكثرهم إنجيلا من الإنجيل. . .)

(فهذه هي الكلمة التي عنيت)

سعيد العريان

أيها السادة:

ملك من ملائكة الرحمة، يهبط من سماء الله آتياً من حدود الأبد، ولجناحيه حفيف طالما أنست به نسمات الجنة، وتعلقت بأطرافه أرواح أزهارها الخالدة، كأنها معاني الورد في لفظ عطر الورد. .

صفَّ جناحيه العظيمين ثم خفق بهما خفقة، فانزوت له سماء وسماء، وأسلمه فضاء إلى فضاء؛ فإذا هو في ذؤابة هذا الكوكب الأرضي؛ فوقف هناك عند الحد الذي أقامه الله بين المعنى الخالد والمعنى الفاني، الحد الذي يبتدئ منه ضوء الشمس رقيقاً مستشعراً من رحمة الله، فيكون للمخلوقات الأرضية نوراً وحياة معاً، وهو في أصله لهب ما حق لو ألقيت فيه كرة الأرض لاستحالت في لحظة واحدة شعلة واحدة

هناك حيث تزدحم الأقدار، على مداري الليل والنهار، وقف الملك الكريم ولا تزال على قوادم جناحيه مسحة زاهية من نعيم الخلد، ولا يزال فيها روح من ريحان الجنة. . . وقف ينظر فإذا الأرواح الإنسانية صاعدة من الأرض في زحام، منهزمة من شرور الناس أيَّ انهزام، متقهقرة إلى ربها بعد المعركة بلا نظام.

فصرف وجهة ناحية ثانية، فإذا دعوات المظلومين، وأنات المحزونين، وتأوهات المساكين، وزفرات الوالدات والوالدين

فانفتل إلى ناحية غير الناحيتين، فإذا الحياة الأرضية كأنها خيط وضع من مقراض الفناء بين شفتين، أو غريق يخبط في لجة بين ساحلين، ولا يدري قبره في أي الساحلين، أو المحكوم عليه بالموت أوقف بين سيفين، ولكن الموت واحد في السيفين.

فلم يبق من الجهات الأربع إلا جهة واحدة فتحول إليها الملك، فإذا هناك في أقصى الأفق معنى الرحمة الإنسانية وقد أنكمش وتضاءل واخذ منه الهزال كأنه مريض، أو كأن الحزن على الناس قد أذابه فقطع الرجاء منهم وانزوى في ناحية ينتظر نهاية هذا القدر المنصب من السماء على الأرض.

جزع الملك من ذلك وكاد، وهو قطعة من الخلد، يداخله الخوف ويخالجه الشك وتمسه بعض آثار الحياة الفانية، فقال ما بالى قد تبللت أجنحتي من رشاش هذه الدموع وهذه الدماء، وما بال هذا لعالم الآخر ليس فيه إلا متألم لميت أو متألم لحي أو متألم لنفسه، وما بال الحياة قد أمست من شدة بؤسها وكدرها وهمومها تطحن أكثر مما يطحن الموت؟ هل بقي شيء إلا النفخة في الصور، وبعثرة من في القبور، ووقوف الفلك الدَّوار فلا يدور، وانطفاء نور الأرض فلا ظلوم ولا نور؟

وقف الملك الكريم أربع سنوات وأشهرا وهو ينتظر يوماً يرى فيه السماء مسفرة الوجه برضا الله ونعمته، بعد غضبه ونقمته، فلما سطع ذلك اليوم المضيء وأبرقت بفجره أسارير السماء هز الملك جناحيه على المشرق والمغرب وانتفض في جو الأرض انتفاضة ملائكية أطفأ بردها غيظ القلوب المتأجج الذي تشاتمت به أفواه المدافع زمناً طويلاً، وهب نسيمها الآتي من الجنة فدافع إلى ناحية الجحيم كل روائح البارود ودخان القنابل ولهب النار

ثم ضحك الملك مسروراً فانتثر من ضحكة الابتسام على كل الشفاه، وأصبح جو الأرض من مطلع الشمس إلى مغربها وهو يتلألأ كأنه ثغر طفل يضحك في وجه أمه.

وسمع الملك حمد الناس وشكرهم وتهنئة بعضهم بعضاً، ورأى الأرض وقد سكنت بعد غليانها وأقبل أهلها يصلحون ما فسد، ويبنون ما تهدم، ويديرون في الأرض حركة جديدة ويسخرون العناصر لبناء الطبيعة الاجتماعية أو لهدمها كما كانوا يفعلون

فقال: الآن أصلحت بين الناس وأصلحت الناس للناس، ثم رمى بطرفه إلى الجهات الأربع فإذا معنى الرحمة قد ملأها واستفاض عليها، فهز جناحيه صاعداً في فلك النور، وفي أذنيه تهليل الناس وصلواتهم، حتى إذا انتهى إلى أفقه الأعلى كانت الكلمة الأخيرة التي دخلت معه إلى سماء الله هي نفس الكلمة الأولى التي خرجت من سماء الله

(وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة)