الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 281/من روائع أدب الغرب

مجلة الرسالة/العدد 281/من روائع أدب الغرب

بتاريخ: 21 - 11 - 1938


الإنسان

'

لشاعر الحب والجمال لامرتين

للأديب حسين تفكجى

- 1 -

(أرسل إليك يا صاحبة السمو، قبل أن أضع رأسي على الوسادة، الكتاب الصغير الذي تفضلت بإعارتي إياه البارحة، ويكفيك أن تعرفي أنني لم أنم وبقيت ساهراً، حتى لاحت تباشير الصباح، وخرجت طيور الفجر من أعشاشها، لأتمم قراءته ولأطلع على ما احتواه بين جلدتيه، من روائع المعاني، وجميل القول. سوف لا أتنبأ لك بشدة تأثيره في أذواق الجمهور من القراء إذ يكفي أن أجعل من نفسي ذلك الشعب الذي سيطلع على هذا الكتاب لأقول: إن هناك رجلاً، وسيشغل الكثير من صفحاتنا)

(من كتاب تاليران إلى الأميرة تالمون)

- 2 -

(وعقب مدة قليلة أثار هذا الكتاب فضول الطبقات الراقية في الروسية. فان النبيلات تجادلن وتسابقن لاقتناء نسخة منه؛ فالتي خانها الحظ ولم تحظ باقتناء هذه النسخة، كانت تكتب في دفترها مقاطع من أجمل الأشعار التي قالها لامرتين، وتجبر نفسها على حفظ أشياء منها. فالسعيد من اقتنى كتاباً من (التأملات) إذ كان يحرص عليه كمن يحرص على مفتاح النجاح وطريق السعادة

(من مذكرات أتون شي)

- 3 -

يا لجريمة لامرتين الفظيعة! فهو سبب نصف جنوننا، فنساؤنا يردن أن يكن أمثال إلفي (فكم أصابنا البرد وألزمنا الفراش أياماً طويلة، لأننا أردنا أن نتمثل شعره، فسرنا على شاطئ البحيرة الزرقاء، نتأمل جمال القمر في السماء، وبدائع أمواج الماء، وروائع الطبيعة على الغبراء، في الليالي الباردة التي كانت تحمل إلينا معها نسيم الليالي الغابرة التي قطعها لامرتين، بينا عوامل الأمراض تنازعنا قوانا وتسلط على أجسامنا)

(إن لامرتين واللورد بيرون، أدارا رؤوس نساء الجيل الحاضر، ولفتا أنظارهن إلي عظمة الوجود والحب)

(الكونتس داش)

- 4 -

أيها الشاعر الباكي، أيها الناظم الشاكي، أيها المؤلف الغائب عن عيني، إنك رمز الجبن والخوف

(فما أشبهك بورقة خريف جففت يد القدر خضرتها، وجردتها من رائع نضرتها، تناقلها نسمات النهار الباردة بين وديان غير معروف مداها، وجبال غير مفهوم منتهاها، تحط دون أن تعرف أين، وترقب النسيم ليرفعها من مكانها إلى حيث لا تعرف إلى أين!

ماذا يحوي شعرك من جمال؟

ما الذي يضم بين أبياته من نضرة؟

لا شيء!

ما معنى الشاعر المحتضر؟

قصيدة يأس من الحياة وخوف من النضال من أجل الوجود. أيها الحيوان الباغم، لست أول نائح على أريكة خضراء، فقد سبقك كثيرون، ولكنك كنت موفقاً في التعبير عما تكنه جوارحك

(موريس ألبر)

آراء متناقضة، سطرتها أقلام كتاب متباينين، لتقدير مزايا ومساوئ شاعر، فمنهم من تأمل في قطعة الخلود، وعرف في شعره معنى الحياة، وفهم بين أبياته مفهوم الحقيقة؛ ومنهم من حمل على هذا الشاعر الباكي الذي لا يرى فجر الحياة إلا من وراء منظار أسود، ولا يتأمل وجه البسيطة إلا بالنشيج والبكاء. فكل ما يقع تحت عينيه يرمز إلى ذلك الحب الذي قضي وحل اليأس مكانه في سويداء الفؤاد

نحن لم نأت بهذه الآراء لنوازن بينها، ولنميز بين حسنها وقبيحها، بل أتينا بها لأنها تعبر عن موجة الأفكار التي اجتاحت عصره، وعن الأثر الذي أحدثه كتابه الصغير (التأملات) الذي أصدره الشاعر، فترجم قطعة من شعره سماها (الإنسان) وأهداها إلى اللورد بيرون الشاعر الإنكليزي الذي قتل في حرب استقلال اليونان، والذي كان لامرتين معجباً بشعره، مأخوذاً بروعة ألفاظه إذ قال اللورد بيرون في نظري هو أكبر شاعر عرف الطبيعة في زمننا الحاضر. إن من شعره ما يسرني، وإن من بيانه ما يسحرني، إذ وجدت في أقواله خيوط أمل تربط أصواتاً تجيش في صدري، وتفور في سويدائي)

ولكن بالرغم من أن تفاؤل لامرتين يقابله شك بيرون، فان الشاعر لم يجد مانعاُ من أن يرسل هديته إلى نقيضه في أقواله لأنه أراد أن يجره إلى أفكار أقل شيطانية من أفكاره الأولى

فهل أصاب أو أخطأ؟ لا نعرف! بل نحكم عليه بعد قراءة الشعر الذي أرسله إلى الشاعر الشاك

الإنسان

- 1 -

أنت الذي يجهل العالم أسمك الحقيقي، أيها الروح الخفي الشاك. مهما كنت يا بيرون شيطاناً أو ملاكاً، عبقرية ميمونة أو مشؤومة، فإن أغانيك تصوب إلى نفسي بريق الأمل، وتحمل إلى روحي دعة الحمل

أعشق في أشعارك الخالدة أنغامها الغريبة كما أعشق ضوضاء العاصفة المحتدمة، الذي يمتزج بهدير الصاعقة ويعلوا مع أصوات الشلالات المنحدرة

إلى الليل تأوي، وإلى الرعب تلجأ

ما أشبهك بجبار الفضاء، وملك الصحاري! بالنسر الذي يكره السهول ولا يهوي سوى الصخور الوعرة، التي ألبستها يد الشتاء ثوبها الناصع، والتي تفتت تحت ضربات الصواعق المتوالية. يجد لذته على شواطئ غطيت بحطام البواخر الغارقة، وملئت بأشلاء السفن المحطمة. ويذهب عنه حزنه مرأى الحقول المخضبة بدماء المعكرة. بينها البلبل الغريد، ينشد أسقامه، ويغني آلامه، وهو يبني عشه على شواطئ السواقي الجاريات، بين الحقول الزاهرات

يجد النسر لذته فوق قم الأنوس، التي تخترقها الذرى الحادة كأسنة الرماح، فيشق فضاءها بجناحيه، تاركاً ظله يرتسم فوق الهوات الفاغرة فاها. وهناك وحيداً يصيخ لصيحات الفريسة المتعالية التي تحيط به أعضاؤها المختلجة، فوق صخور تقطر زواياها دماُ. وعندما تحتدم رياح العاصفة ينام مسروراً فوق بقاياها

- 2 -

ما أشبهك بنسر السماء هذا يا بيرون!

فن أصوات اليأس أجمل أغانيك

الألم هدفك، والرجل ضحيتك

سبرت بعينك كالشيطان غور الهوة طياتها نفسك، غمرتْ بعيداً عن الإله والأضواء، بعد أن ودعت أملاً راحلاً. فأنت مثله اليوم تسيطر على الأرجاء المظلمة، والأصقاع المعتمة. فاجعل عبقريتك التي لا تقهر تعلو بلحن جهنمي، وتنشد أنشودة الظفر تحت ظلال عرش إله الشر

- 3 -

ولكن أية فائدة تجنى من نضال النهاية المحتمة؟

بأي شيء يدفع العقل العنيد القدر؟

ليس له كالعين، إلا أفق محدود!

فلا تسدد جميل أنظارك إلى أبعد من هذا المدى، ولا تقدح زناد فكرك دون نفع وسدى، فنجد كل شيء منا يفر. الكل ينطفئ كالشمع. الكل يمحى من الوجود. ولكن كيف ولم؟ من يعرف؟ فان يديه القادرتين قبضتا على الوجود والبشرية، ونشرتا في حقولنا الغبار، وجعلتا الأهواء والظلام والأنوار. فهو يعرف ما يعمل. وهذا يكفي فالكون تحت إمرته ويده، وليس لنا سوى اليوم الذي نعيش فيه

إن جريمتنا هي أننا بشر، فينا فضول المعرفة.

ولكن الجهل والخضوع هما قانونا هذا الوجود.

بيرون! إن هذه الكلمات قاسية عليك.

ولكن لم التراجع أمام الحقيقة؟

إن شرفك أمام الإله هو أنك صوغ يديه، فاشعر واخضع في سجنك المقدس

أنت ذرة محمولة، تموج في هذا النظام العالمي، فتمم إرادته بطاعتك، لأنك مخلوق بارادته، وحياتك تمجد هذا الوجود الذي تموت فيه، حيث مصيرك.

أواه بعيداً عن الاتهام. قبل ذلك الرسف الذي تحاول تحطيمه، واهبط من صفوف الآلهة التي تذهب جرأتك، فالكل جيد، والكل جميل، والكل عظيم في مكانه. ففي ناظر خالق الوجود نحوي الحشرة عالماً بنفسها

- 4 -

ولكنك تقول إن هذا القانون يثير عداءك، ولا يعدو في نظرك عن هوى غريب، وشرك نصب ليكبو العقل في كل خطوة يخطوها.

لنعترف بذلك يا بيرون دون أن نحاكمه.

ما أشبهني بك. فعقلي انغمر في الظلمات، ولكن ليس علي أن أشرح لك حقيقة العالم، فالذي أبدع الوجود يلقنك الدرس الوافي.

كنت كلما سبرت عمق الهوة ضعت في فيافيها.

وفي هذه الدنيا لم أر سوى الألم يرتبط بالألم، والنهار يتبع سير النهار، والشقاء يلازم ظل الشقاء، والإنسان السخيف بطبيعته، اللامتناهي بنذوره، إله زل من عليائه، يفكر في سمائه.

حرم مجده القديم، فاحتفظ من مقدراته الضائعة بالذكرى

وغور ميوله السحيق يتنبأ عن عظمته المقبلة.

إذا علا أو سفل، فالإنسان سر عميق.

مقيد في سجن الحواس، على هذه الأرض. أسير يشعر بان له قلباً ولد يتنشق نسيم الحرية.

فياله تعساً يتعلل بالأماني.

ويريد سبر غور العالم، بناظريه الضعيفين

ويود أن يعشق دائماً لولا أن ما يحب سريع الفناء.

كل فان يشبه طريد جنة دعن، عندما طرده الإله من الجنة السماوية، فلمح بنظره الحدود المشؤومة التي تحيط به، فجلس باكياً على الأبواب المغلقة دونه. سمع من بعيد، من المسكن الإلهي زفرة الحب الخالدة، ونغمات السعادة، وأغاني الملائكة المقدسة، تصل إلى أحضان الإله لتمجد فضائله، فهبط من السماء، ثم أطلق نظراته من عنانها، فوقعت على مصيره المؤلم. . .

- 5 -

يا لبؤس من يسمع أناشيد عالم يهواه وهو ناء في منفى الحياة السحيق!

يرى الطبيعة تناضل خمر الخلود التي ارتشفها

يتأرجح كالحلم، عندما يرى الحقيقة ضيقة في مكانها، والمستحيل واسعاً في فضائه، والروح مثقلاً بالميول لا يجد مأوى يغرف منه حباً وعلوماً أبداً. والرجل في محيط الجبال والنور، ظمآن، لا يروي غله، فيكسر بالأحلام، كي تعذب رقدته، ويعود إلى نفسه إذا ما فاجأته يقظته

- 6 -

وا أسفاه! ما كانت أخرتك؟ وما هي مقدراتي؟

فقد شربت مثلك، كأس الشك مترعة

وعيناي كعينيك، فتحتا الأجفان دون أن تنظرا!

فعبثاً فتشت عن كلمة الوجود. طلبت أسبابه من الطبيعة. سألت أخرته من كل مخلوق. واستفهمت من القلم حتى ألم. فرجع طرفي كليلاً، ونظري حسيراً، قبل رؤية قرار هوة العالم

كشفت غطاء الأزمان التي هرعت، وأرجعت الأجيال التي مرت، ماراُ بالبحار، مردداً أقوال الفلاسفة، ولكن العالم بقى أمامي، كما هو أمام علماء اللاهوت (كتاباً مغلقاً)

ولأتبين كنه الطبيعة كنت أفر بروحي إلى أحضانها وخيل إلي أني أجد معنى لهه اللغة الغامضة، فدرست القوانين التي تدور حبها، أجرام السموات، فان نيوتن يعتمد عيني في سهولها المنيرة. تأملت بقايا رفات العواهل، ورأيت رومة متدثرة في ظلمات قبورها المقدسة، والقديسين وقد أقضت مضاجعهم. وزنت بيدي رفات الأبطال، وطلبت منه معنى الخلود الذي يأمله كل البشر، ولكن لم أجد في هذا الغبار الفاني معنى الخلود

ماذا أقول؟

لازمت سرير الموتى، لتفتش نظراتي عن معناه في العيون المحتضرة

وعلى هذه الذرى التي توجتها الثلوج مدى الدهر

وفوق هذه الأمواج التي خططتها عواصف الرياح

ناديت دون مجيب

اقتحمت عثار الأحجار وظننت كالعرافة أن الطبيعة بمشاهدها النادرة سترمي إلينا بإحدى عجائبها، فأحببت أن أغمر نفسي في هذه الرغبات الصامتة التي تتوالى

ولكني، في سكوتي وهياجي، فتشت عبثاً عن كنه هذا السر العظيم، فرأيت في كل مكان إلهاً لا أفقهه. رأيت الشر أثر الخير دون خبرة، ودون هدف يسيران كالصدفة، رأيت في كل مكان الشر يختار، فجدفت بحق السماء دون معرفة، فرن صوتي ولاحق السماء كالصدى المدوي، ولكنه لم يرهب القدر، ولم يغضب المصير

(البقية في العدد القادم)

حسين تفكجي