الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 280/كلمة أخيرة

مجلة الرسالة/العدد 280/كلمة أخيرة

بتاريخ: 14 - 11 - 1938


بين العقاد والرافعي

وبيني وبين الرافعيين

للأستاذ سيد قطب

من بين الرسائل التي تلقيتها في أثناء كتابة هذه الفصول رسالة يقول فيها كاتبها الأديب (صلاح الدين الصدفي) بعد كلام كثير:

(. . . ونحن يا سيدي من سكان الريف الذين كثيراً ما يتأثرون بالآراء المتداولة، والأشعات المفتعلة، وقد كنا نعتقد أن العقاد كاتب سياسي من الطراز الأول، ولكنا نفضل عليه في الكتابة الأدبية آخرين، أسهل منه في الفهم، وأعرف لدى الجماهير، ثم تابعنا كلماتك فاستطعت أن تشوقنا إلى قراءة مؤلفاته النثرية على ضوء جديد، ولكنا إلى أمد قريب كنا لا نميل إلى الاعتراف بشاعرية العقاد، فإن كان شاعراً فهو شاعر الفلسفة والتأمل لا شاعر العاطفة، وإذا سلمنا أن له في شعر العواطف شيئاً، فما كنا نصدق أنه شاعر غزل. وأخيراً انكشفت عنا هذه الحجب التي بثتها فينا دعايات مغرضة، وإذا بنا نفهم أن العقاد هو كل أولئك، وأنه ممتاز في جميع مناحي الشعر، متفوق في كل هذه الاحساسات، وأسفنا على ضياع زمن طويل، لم نتنبه فيه إلى خصوبة هذا الإنتاج الوفير. . .)

هذه الرسالة جماع ما ورد إلي في رسائل متفرقة، وفي هذه الفقرات القصيرة ما يبرر البسط والتوسع الذي عالجت به (غزل العقاد) خاصة، وإن كنت أحس أن في القول متسعاً وأن غزل العقاد وشعره عامة، يصلح لدراسات مستفيضة، ولشروح وتآليف تجعل منه - كما يستحق - مذهباً قائماً، معروف المعالم، واضح السمات.

وشعر العقاد فن خصب، صالح للدراسة على أنماط مختلفة من الطرق والأوضاع، فتستطيع أن تدرس فنونه كل فن على حدة كما صنعت في (غزل العقاد) وتستطيع أن تدرس اتجاهاته وتلتمس لها أمثلة من مختلف فنونه، كما صنعت في محاضرتي عام 1934 عن (وحي الأربعين). وحيثما اتجهت في الدراسة وجدت مادة جديدة، وذخيرة فنية، لأن العقاد صاحب طبيعة وصاحب فلسفة معينة في الحياة.

وقد اخترت أن أعرض (غزل العقاد) لأن الغزل عامة، وعند العقاد خاصة، معرض لجميع القوى النفسية التي تجيش بالشعر، وتحفز للتعبير، وفيه تستطيع أن تدرس نظرة الشاعر للكون والحياة وأغراضهما الأصيلة وآمالهما الخالدة، وتقف على رأيه في المثل العليا والأخلاق والفضائل، وتميز إحساسه بالمرأة والفنون والجمال، على نحو ما رأى القراء في الفصول السابقة.

ثم لقد كان هناك دافع آخر لاختيار الغزل فلقد كان حديثي عن الرافعي في غزله أو ما كتبه هو على أنه غزل، وكان أمامي لإثبات رأيي في كلا الرجلين طريقان: الأول أن أعرض ما قاله الرافعي في هذا الباب وأفنده، وهذا عمل أعتقد أن لا غناء فيه ولا جدوى منه لي ولا للقراء، فقد قرأت كل ما كتبه الرافعي في هذا الباب، فإذا هو خواء مقفر من كل عاطفة وإحساس، فإذا أنا عرضته، فإنما أعرض قطعة من صحاري النفوس ليس فيها ندى ولا حياة، ولن يصبر القراء معي - إذا أنا صبرت على قطع هذا القفار الموحش المتشابه الأرجاء. وبحسبي وحسبهم ما استعرضه من مثل هي نماذج لكل ما هناك

والثاني - وقد اخترته - أن أعرض غزل العقاد، فأكشف عن هذا العالم الحي المائج المضطرب بشتى الانفعالات والاتجاهات ثم يخلص بنا القول فيه إلى أن كل ما تجده هنا لا تجده عند الرافعي، لأن العقاد والرافعي مختلفان متناقضان

ولقد شاءت الظروف أن يكون العنوان: (بين العقاد والرافعي) فتوجد رابطة بين اسمي هذين الرجلين، لا وجود لها في أدبهما ولا اتجاههما ولا في شيء مما يصح فيه التشابه والارتباط

والواقع لقد كان في هذا الجمع بينهما ظلم لكيلهما: فأما العقاد فمظلوم - ولاشك - أن يقرن أسمه إلى أسم الرافعي، وبينهما هذه الهوة السحيقة الفاصلة، الهوة التي تفصل بين الصورة الفنية ترمز إلى معنى وتكاد تجيش بالحياة، وتهمس بالنطق والتعبير والنقوش التي نراها على أبواب المساجد ونوافذها: خطوطاً متعرجة أو مستقيمة ودوائر ومثلثات ومربعات كلها من عمل المسطرة والبركار، ولا شيء وراءها غير المهارة في اللعب والتزويق

فعشاق الصور الفنية محال أن يلتفتوا إلى هذا العبث على أبواب المساجد وأمثالها من شغل (الأربسكة) المعروف عند النجارين، مهما بلغ التفنن في نقوشه وألوانه، وعشاق (الأربسكة) لا يتطلعون إلى فهم الصور الفنية بحال من الأحوال

والرافعي كذلك مظلوم - ولاشك - أن يقرن أسمه إلى أسم العقاد؛ فيطالبه النقاد حينئذ بالحياة والحركة والعمق، أو يطالبونه برأي معين في مسائل الحياة الكبرى وفي نواحي الإحساس والشعور، والرجل في عالم آخر غير هذا كله، عالم الأخشاب المنقوشة والشرفات المزركشة، والأصباغ والألوان. ومازلت كلما عدت إلى قراءة شيء من كتابة الرافعي، يمتد بي الخيال إلى (البهلوان) الذي (يتقصع) في مشيته ويضع يده في خاصرته، ويأبى أن يسير في الطريق بخطوات سهلة كما خلقه الله!

أما شأن الرافعيين معي، فشأن الرافعي مع العقاد سواء بسواء. كنت أعرض لهم الحياة المائجة الهائجة، فيعرضون لي النصوص والألفاظ؛ وكنت أحاول أن أفتح أبصارهم وأفتق إحساسهم، وأفهمهم أن في الدنيا شيئاً غير التعبير المزوق، وغير اللفتات الذهنية القريبة، والمعاني اللولبية، والجمل المنثنية المترقصة، فيأبوا إلا أن يعودوا إلى هذا العبث العابث في لف ودوران

ولست على استعداد أن استعيد ما قلت وقالوا، فقد أنفقوا - على ما يظهر - كل رصيدهم في هذه الكلمات المكرورة المعادة التي كتبوها، وما هذا بعجيب، فما لهم رصيد سوى بضع جمل وبضعة تعبيرات، وما كان لهذا العالم المصنوع الذي يعيشون فيه، ولا ينفذون منه أبداً إلى ضجة الحياة، أن يكون له رصيد مذخور سوى الخواء والإقفار

ولكنني أريد أن أعرض لبعض ما قاله مندوبهم الأخير، وأعاد به ما قالوه واحداً بعد الآخر في جهد وإعياء شديد

لقد أخذ يردد نغمة العوام في الموتى والأحياء، ويعتمد على شعور هؤلاء العوام في تقدير موقفي وأنا أتحدث عن العقاد الحي، وموقفهم وهم ينافحون عن الرافعي الذي مات

والمسألة - في ظاهرها - كما يقولون، ولكن الواقع غير ذلك، فأنا في دفاعي عن العقاد أمجد وأشرف من دفاعهم عن الرافعي، إذا كان مناط الحكم في هذا ما يناله كلانا من ربح أو خسارة، على النحو الذي يفهمونه هم من الربح والخسارة

فماذا يكلفهم الدفاع عن الرافعي؟ إنه لا يكلفهم شيئاً، بل على العكس يكسبهم حسن الأحدوثة - لدفاعهم عن رجل ميت - عند عوام القراء والأدباء في هذا البلد وهم بحمد الله كثيرون؛ ويكسبهم - كما يريدون - سمعة الدفاع عن الدين، وأتباعه بالملايين في مصر والبلاد العربية؛ ويكسبهم محبة الأسلوبيين والعاجزين عن التحليق في الأجواء الفنية العالية، وهؤلاء يكونون تسعين في المائة من القراء بل من الأدباء، ولا يتعرضون لخطر واحد مما يتعرض له أنصار العقاد

أما الدفاع عن العقاد فيكلفني التعرض لغضب الكثيرين من ذوي النفوذ في هذه الوزارة وفي كل وزارة، ومن بينهم كثير من رؤسائي في وزارة المعارف نفسها، لأن العقاد رجل لم تبق له قولة الحق صديقاً من السياسيين، وكثير ممن يظهرون صداقته يكنون له غير ذلك لأنهم ينفسون عليه شموخه واعتداده بنفسه وتعاليه على الضرورات

ويكلفني خصومة الأدباء من المدرسة القديمة والحديثة على السواء. فأما أولئك فسبب سخطهم معروف، وأما هؤلاء فلأنهم ينفسون على العقاد أن يعطيه ناقد بعض ما يستحق من تقدير، ومن لا يعرف هذه الحقيقة فأنا - وقد أتاحت لي الظروف الإطلاع على داخلية كثير من الصحف والأدباء - أعرف ذلك وأعرف أن الكلمات التي يقدر فيها العقاد لا تجد طريقها سهلاً للظهور في الصحف على اختلاف أهوائها ونزعاتها السياسية، واختلاف المشرفين عليها من الأدباء وغير الأدباء

ويكلفني خصومة كثير من ناقصي الرجولة - وهم أعداء العقاد الطبيعيون - وكثير من ناقصي الثقافة الذين لا يفهمون العقاد فيحملونه تبعة عدم فهمه ولا يكلفون أنفسهم عناء الدرس والثقافة. وكثير من مغلقي الطباع الذين يستغلقون أمام كل أدب حي. وكثير وكثير ممن يؤلفون أكثرية القراء في هذا البلد المنكوب. . .

وقد يفهم هؤلاء النفعيون أن للعقاد الآن نفوذاً ننتفع به؛ فلهؤلاء أقول: إن للعقاد نفوذاً نعم، ولكنه لا يستخدمه في قضاء المصالح وتنفيذ الأغراض، إنما يحتفظ به لنفسه في إبداء آرائه، واستقلال شخصيته، وتحطيم من يستحق التحطيم وبناء من يستحق البناء

وذلك بغض النظر عن طبيعتي الخاصة في الانتفاع بنفوذ الأصدقاء، ذلك الانتفاع الذي يبدو غير مفهوم، حينما كنت أناصر العقاد وهو خصم الوزارات القائمة، وأوقع على ما أكتبه بإمضائي الصريح، في أحرج الأوقات فخرافة الموتى والأحياء لا يرددها هؤلاء، إلا كما يرددها الأميون والعوام

وقد استكثر مندوبهم الأخير أن أقول: إن العقاد انتصر على الوفد وعنده عدة المال وعدة الحكم وعدة الماضي الوطني وكل عدة تؤهل للنجاح.

والذين يعيشون في ظلام الجحور يحق لهم أن يعجبوا لهذا الكلام. أما الذي وقف على صنوف محاربة الوفد للعقاد وهو في إبان سطوته، وعرفوا أنها لم تقف عند الخصومة الشريفة في سلاح ولا وسيلة، والذي يذكر الظروف التي خرج العقاد فيها على الوفد وما تلاها، فإنما يعلم أنني اقتصدت في هذا المقال!

الذي يعلم أن هذه الخصومة وصلت إلى حد محاربة العقاد في اللقمة، فلم تكتف بمحاربة الصحف التي يعمل فيها حتى يكف عن الكتابة الشهور الطوال، بل كانت تدفع لأصحاب المكتبات مئات الجنيهات حتى لا تبيع كتاباً للعقاد، وأي كتاب؟ إنه كتاب سعد زغلول الزعيم الأول لهؤلاء الخصوم؟

والذي يعلم أن هذه الخصومة هاجت وماجت لأن العقاد ألقى محاضرة من محطة الإذاعة الحكومية - على عهد الوزارة الصديقة - ولأن هناك مبلغاً يدفع قيمة لهذه المحاضرة، فأما أن تكف المحطة عن محاضرات العقاد وإما أن تعاقبها الحكومة بإهمال تحصيل الضريبة!

والذي يعلم أن هذه الخصومة كانت تلجأ إلى أصدقاء العقاد لتتخذ منهم جواسيس عليه وتدفع لهم ثمن هذه الجاسوسية علاوات وترقيات ومكافآت، فلم يسلم من هذا الأغراء إلا القليلون من خواص العقاد!

الذي يعلم هذا وساوه، ويعلم أن العقاد خرج والوفد في عنفوان قوته الأدبية والمادية، وجرؤ على ما لم يجرؤ عليه إنسان قبل، فحطم قداسة الأصنام، ولقح هذا الجسم الضخم بجراثيم الفناء التي ظلت تعمل عملها حتى خرّ بعد ذلك في الميدان

الذي يعلم كل ذلك لا يستكثر ما قلت، إلا أن يكون كصاحبنا يعيش في صومعة لا ينفذ إليها الضياء

وحكاية الدين والأدب، التي لج فيها، وجعلها محور الحديث، وقد تهكمت عليها من قبل، لأنها لا تناقش بغير التهكم، فأريد أن أفهم إذا نحن سرنا على هذه القاعدة العجيبة، وأسقطنا من حسابنا الأدب غير الديني في الأدب العربي كله، ماذا يبقى لنا بعد ذلك من هذا التراث الضخم؟ اللهم إلا قصيدة البردة وبانت سعاد وبعض الأدعية والأوراد!

وصاحبنا أستاذ الكيمياء في كلية الطب - هكذا كتب أخيراً ليهددنا بعلمه الغزير وينكر علينا علمية التفكير وعلمية الأفكار، ويشرح خواص الذهب الوارد في بيت الرافعي. ومع هذا يطاوعه علمه أن يقول: إن الكيمياويين يصفون الذهب بأنه فلز نبيل، والذي وصل إليه علمي القليل أن هؤلاء الكيمياويين يصفون الذهب بأنه فلز بليد لأنه لا يتفاعل مع الأكسجين ولا مع كثير من الأحماض، ويصفون معدنا كالحديد مثلاً بأنه فلز نشيط لسرعة تفاعله، لأن مدار وصفهم للفلزات قائم على أساس التفاعل لا الثمن، ولا ادري من أين أتى صاحبنا بهذا القول الفريد!

ولست أعني بهذا أن أناقش الكلام الطويل العريض الذي فسر به أبيات الرافعي، فسواء كان الذهب نبيلاً أو خسيساً، فسيبقى شعر الرافعي وأدبه كله يدور حول الصور الذهنية الكابية ويتيه في القفر الجامد اليباب

وبعد فقد رأى الناس مما كتبه هؤلاء وما كتبه الرافعي قبلهم، أنه ليس من اليسير عليهم فهم العقاد، وأنه ليس من مصلحة العقاد أن يفهموه، فما هم بمستطيعين فهمه حتى يسف هو ويقفر ويمسخ خلفاً غير هذا الخلق الباسق الجبار.

ولقد اطمأن العقاد إلى مكانه من الشهرة ومقامه من الخلود، فما يعنيه أن يثلبه ألف رافعي، وما ينقصه أن يقول فيه هؤلاء الرافعيون.

وفي نهاية هذا البحث أجد لزاماً على أن أشكر للرسالة وصاحبها إفساح هذا المجال، وأرجو أن أكون قد أفدت القراء بقدر ما استغرقت من فراغ. والسلام.

حلوان

سيد قطب