الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 280/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 280/الكتب

بتاريخ: 14 - 11 - 1938

1 - سياسة الغد

للأستاذ مريت بك بطرس غالي

2 - التصوف الإسلامي

للدكتور زكي مبارك

كتابان قيمان لأستاذين جليلين أولهما ابتكار في السياسة والآخر ابتكار في الأدب. ومن يمن الطالع وحسن التوفيق أن (مطبعة الرسالة) قد افتتحت جهادها في خدمة الثقافة بطبع هذين الكتابين. وقد تلقت الأندية السياسية والصحافة اليومية كتاب الأستاذ مريت بك بما هو أهله من التنويه والتقدير والبحث، وستجد الصحف الأدبية والمقامات العلمية في كتاب الدكتور مبارك كشفاً جديداً لناحية مجهولة من أدبنا العربي يستوجب التسجيل والشكر. وإنا نكتفي اليوم بنشر مقدمتي الكتابين بياناً لغرض الكاتبين وتمهيداً لما سنكتبه عنهما في عدد قادم.

- 1 -

قال الأستاذ مريت بك:

من عادة الكتاب في الشئون العامة أن يستهلوا حديثهم بأن يصبغوا أحوال بلادهم بألوان سوداء قاتمة، كي يتخذوا من ذلك وسيلة لإقدامهم على معالجتها؛ وما كنت لأعدل عن هذه العادة لولا أن أحوالنا الحاضرة أضحت تنطق بنفسها عما نحن عليه، وقد شُغل فكرنا جميعاً بعلامات الضعف في النظام السياسي والقومي، ومظاهر التفكك الاقتصادي والاجتماعي. وشاهدنا في السنتين الأخيرتين على الأخص اهتماماً عظيماً بمشاكلنا الداخلية في جرائدنا ومجلاتنا ومحاضراتنا وفي حديث الناس عامة؛ وترجع هذه الظاهرة الجديدة في حياتنا القومية، على ما أظن، إلى أنَا على أثر اكتساب حريتنا الوطنية انتقلنا إلى عصر جديد في تاريخنا، حتى بدأنا نشعر بأن مستقبلنا القومي أصبح الآن في أيدينا، وليس لأحد سوانا أن ينظّمه ويكوّنه. وقد غطت قضية الاستقلال خلال العشرين عاماً الماضية على شئوننا الداخلية إلى حد ما، وصرفتنا عنها بحيث خيل إلينا أنها على درجة من الرقي مقبولة. وكم كانت خيبتنا عظيمة حين عدنا من الشئون الخارجية إلى الشئون الداخلية، فوجدناها في منتهى الضعف والتقهقر

وحالة مصر في الحقيقة لا تدعو إلى الاطمئنان: فأمامنا اضطراب مستمر في الحياة القومية، وأزمة محقّقة في الآداب العامة، ومشاكل اقتصادية واجتماعية قد تصل في القريب العاجل إلى الحد الأقصى من الخطورة. وليست تلك العوامل بخافية على أحد. وقد أوجدت عند بعضنا شيئاً من التشاؤم في المستقبل، وانتشر القلق في صفوف الشعب، من فلاحين يشعرون به ولا يفهمون أسبابه، إلى مثقّفين ومتعلّمين يرون الأخطار في جلاء ويتوقعون تضخّمها في السنوات القادمة. غير أن علامات الضعف والتفكك لا تظهر على صورة واحدة لكل منا، ولم نبحث وراء تلك الدلائل الخطيرة والعديدة عن الأسباب الأصلية التي عملت على تكوينها وظهورها. وكان لعدم تعوّدنا مواجهة تلك الشئون المعقّدة أن أخذنا ندرسها ونتناقش فيها منفصلاً بعضها عن بعض، ولم نفطن إلى وحدة الحياة القومية وإن بدت مختلفة المظاهر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً

زد على ذلك أن عدم الاستقرار السياسي والإداري يجعل الوزارات التي تتوالى على كراسي الحكم غير قادرة على أن تعد برنامجاً للإصلاح والتقدم، وتواصل تنفيذه منسِّقة بين مختلف التدابير الحكومية وغير الحكومية. حتى أن سرعة التقلب السياسي وكثرة المشاكل الوطنية وتعقّدها تبعد برجال السياسة والإدارة عن الأغراض البعيدة التي كان يجب عليهم ألا يفارقوها أبداً، وتجرهم نحو المجالات الحزبية والمسائل الوقتية أو الثانوية؛ فتظهر تلك المجادلات وهذه المسائل بمظهر هام جداً كلما قربت وضاق الوقت عن حلها، مما يؤدي إلى قرارات غير محكمة وحلول غير كاملة، فتبقى سياسة الدولة عديمة التواصل كثيرة التردد والتقلب

وليس الغرض من هذا البحث أن ندرس جميع المسائل التي تواجه الدولة المصرية في الوقت الحاضر، ولا أن نستعرضها واحدة بعد أخرى ونقترح حلاً وتدبيراً لكل منها؛ بل الغرض أن نلقي نظرة إجمالية على كافة مظاهر النشاط القومي مع التدقيق في العوامل الأساسية التي أدّت إلى تضخم مشاكلنا ومصاعبنا ثم نرسم بعض الخطط العامة التي يحسن العمل على مقتضاها لمعالجة هذه الأخطار. وإلى جانب ذلك نبيّن حاجتنا الحيوية إلى الوحدة والتناسق والتواصل في سياسة الحكومة لتكفل تقدّم الأمة سياسيَّاً وقومياً، وتضمن علاج ما يمكن علاجه من أحوالنا الاقتصادية والاجتماعية

وإذا كانت سماء مصر ملبّدة بغيوم الأخطار الخارجية والمصاعب الداخلية، فجدير بنا ألا نرهب هذا أو نخشاه، ولنطمئن على كل حال إلى ما في قلوب المصرين من عزم وشهامة وإخلاص في خدمة الوطن. ولقد اتفق أول عهد مليكنا المحبوب مع شروق شمس الاستقلال الوطني الذي قضى الشعب المصري قروناً يتطلع إليه، فأصبح عهد (فاروق الأول) حلقة اتصال بين مفاخر مصر القديمة وآمال مصر الحديثة، والله نسأل أن يهدينا سبيل التقدم والفلاح.

- 2 -

وقال الدكتور زكي مبارك:

الحمد لله الذي هدانا لها، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله

أما بعد فهذا كتاب التصوف الإسلامي، وهو كتاب شغلت به نفسي نحو تسع سنين، وأنفقت في تأليفه من الجهد والعافية ما أنفقت، في أعوام لو ابتلي بمثلها أصبر الصابرين وأشجع الشجعان لألقى السيف وطوى اللواء، فقد كنت في حرب مع الناس ومع الزمان، ويا ويح من ابتلته المقادير بإفك الناس وغدر الزمان!

ولكن الله عز شأنه لم يخلق الشر إلا لحكمة عالية، فقد قويت عزيمتي بفضل ما عانيت في حياتي من ضروب الاضطهاد، واستطعت أن أقيم الدليل على أن الظلم قد يعجز عن تقويض عزائم الرجال.

وهل كان من هواي أن أسرف على نفسي مثل الذي أسرفت فأقضي عشرين سنة في الحياة الجامعية بين القاهرة وباريس كانت كلها نضالاً في نضال؟

هل كان من هواي أن تخلو حياتي من الهدوء والطمأنينة فلا أُصبح ولا أُمسي إلا في عراك وكفاح؟

هل كان من هواي أن انتهي إلى ما انتهيت إليه فلا يكون لي من نعيم الحياة إلا ما أُصوره بقلمي من حين إلى حين لأوهم نفسي أني أعايش الأحياء؟

تباركت يا ربي وتعاليت! فلولا لطفك وتوفيقك لما استطعت بفضل الجد أن ألقي أهل زماني بالاستطالة والكبرياء.

ومن هم أهل زماني؟

هم الكسالى الظرفاء الذين حرمهم الله نعمة البلاه بأقذاء العيون تحت أضواء المصابيح.

ينقسم هذا الكتاب إلى قسمين: التصوف في الأدب، والتصوف في الأخلاق.

وقد كان هذا الموضوع فيما يظهر غامضاً أشد الغُموض، فقد طلب مجلس الأساتذة بكلية الآداب أن نقدم له مذكرة نشرح بها الغرض من هذا الكتاب ليقبل أو يرفض جعله موضوع رسالة لامتحان الدكتوراه. وقد أجبنا يومئذ بأننا نريد أن نبين كيف استطاع التصوف أن يخلق فنّاً في الأدب ومذهباً في الأخلاق، وهو موضوع يستحق الدرس بلا جدال.

وكان مجلس الأساتذة على حق، فقد كنا في حيرة مظلمة الأرجاء، وكنا لا ندري كيف نتوجه، وكل ما كنا نملك حينذاك هو الإطلاع على العناصر وتصور ما لها من أهمية لو وضعت في نظام واضح مقبول.

ولكن السبيل إلى ذلك كان في غاية من العسر والصعوبة، فقد كنا جمعنا ألوفاً من الجذاذات لا ندري كيف نربط بعضها ببعض، وكيف نسوي منها رسالة للدكتوراه في الفلسفة تستوفي الشرائط الجامعية.

وتجسم الخطر حين نظر المؤلف فرآه يخترق المصاعب وحده بلا هادٍ ولا معين، فقد كان ظفر بإجازة الدكتوراه قبل ذلك مرتين، مرة من الجامعة المصرية ومرة من جامعة باريس، وكان ذلك كافياً لأن ينصرف عنه الأساتذة ويتركوه يكتب ما يشاء كيف شاء.

ولكن أولئك الأساتذة الذين اعتمدوا على كفايته العلمية لم يتركوه بلا حساب، فقد تدخلوا في تصميم الرسالة وخرّبوها بأيديهم مرتين، فخرج منها كتاب نشر منذ سنين هو كتاب (المدائح النبوية في الأدب العربي)

والشر قد يكون باباً من الخير في بعض الأحيان.

نوقش هذا الكتاب بجلسة علنية في مساء اليوم الرابع من أبريل سنة 1937

ناقشته لجنة عنيفة قهرت المؤلف على التواضع، وهو خلقٌ لم يعرفه من قبل، واقترحت أن يحذف أشياء وأن يضيف أشياء.

وقد رجع المؤلف إلى الكتاب فنظر فيه من جديد وأضاف إليه طائفة من الفصول في الأدب والأخلاق، وحرر بعض الهوامش التي تحدد ما كان يحتاج إلى تحديد في بعض المواطن، وانتفع بإقامته في العراق فتعقب الصلات بين التصوف والتشييع، وقد أعانه ذلك على إمداد كتابه بحيوية جديدة سيرى القارئ شواهدها وهو ينتقل من بحث إلى بحث.

هذا، وقد يجد القارئ ما يثيره في مواضع كثيرة من هذا الكتاب، فإن وجد ما يشوكه ويؤذيه فليرجع إلى ما شاكه وآذاه بالدرس والتأمل مرة أو مرتين أو مرات ليوافق أو يعترض على هدىً وبصيرة. وليتذكر أن الدراسات الفلسفية لا تقوى ولا تجود إلا أن سِلمتْ سلامةً تامةً من الرياء وتخوف العواقب

والمؤلف يرجو أن يتذكر القارئ أيضاً أن الصوفية كانوا من أقطاب الحرية الفِكريةُ، فمحاربة هذه الحرية باسم الغيرة عليهم خطأ لا يقع فيه رجلٌ حصيف

وفي ختام هذه الكلمة الوجيزة أدعو الله تباركت أسماؤه أن يُسْبِغ على هذا العمل الخالص لوجهه الكريم حُلة القبول، إنه قريب مجيبٌ.

زكي مبارك