مجلة الرسالة/العدد 276/من مشاكل التاريخ
→ جورجياس أو البيان | مجلة الرسالة - العدد 276 من مشاكل التاريخ [[مؤلف:|]] |
على ذكر مؤتمر القاهرة ← |
بتاريخ: 17 - 10 - 1938 |
مكتبة الإسكندرية
تأسيسها ورواية إحراقها
للأستاذ خليل جمعة الطوال
(بقية المنشور في العدد الماضي)
قال الأستاذ الشيخ عبد الوهاب النجار: ولكن متى علمنا أن عبد اللطيف البغدادي الذي كان قبل أبي الفرج بزمن قليل قد ذكر أن عمرو بن العاص أحرق مكتبة الإسكندرية كانت التبعة عليه دون أبي الفرج لاحتمال أن يكون أبو الفرج قد أخذ هذه المقالة عن عبد اللطيف البغدادي الذي رمى بهذه الجملة بغير سلطان أتاه. ولم يقل لنا من أي تاريخ أخذ ولا من أي مصدر استقى. والظاهر أنه حين علم بأنه كان في هذا الكان مكتبة عفى الزمان على أثرها، افترض أن الذي دمرها إنما هو عمرو بن العاص، وربما شجعه على ذلك أقوال العامة أو نحو ذلك فظن الأمر حقيقة واقعة. . .
وقال الدكتور (غوستاف ليبون) نقلا عن (لودفيك لالان) الذي ناقش مسألة إحراق مكتبة الإسكندرية مناقشة علمية مختصرة: إن أول مؤلف ذكر حريق العرب لهذه المكتبة هو عبد اللطيف الطبيب العربي البغدادي الذي توفي سنة1231 م أي بعد 591 سنة من وقوع تلك الحادثة. أما من خصوص حريق مكتبة الإسكندرية المزعوم فإنه همجية وعداوة للمدنية، منافية لأخلاق العرب على خط مستقيم، حتى إنه يمكن أن يسأل الإنسان نفسه كيف أن قصة كهذه قبلها منذ زمن طويل كثيرون ممن يعتد بعلمهم؟ وقد كذب العلماء هذه القصة في زمننا مرات كثيرة فلا نرى حاجة في العودة إلى تكذيبها، ولا أسهل من الاستشهاد على ذلك بإيراد أقوال كثيرة جلية تثبت أن المسيحيين كانوا أعدموا الكتب الوثنية التي بالإسكندرية، قبل العرب بزمن طويل وكسروا كل التماثيل أيضاً. ويفهم من ذلك أنه لم يكن بالإسكندرية بعد ما يحرق.
وأما أبو الفرج الملطي فقد نقل روايته عن جمال الدين القفطي وكان قد توفى قبله بنحو أربعين سنة تقريباً في حلب أي عام 646 هـ وقد ذكرها هذا في نسخة خطية في د الكتب المصرية مكتوبة سنة 1197 م من كتاب له أسمه تاريخ الحكماء وإليك نص روايته:
(وعاش (يحيى النحوي) إلى أن فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية، ودخل على عمرو وقد عرف موضعه من العلم واعتقاده وما جرى له مع النصارى فأكرمه عمرو ورأى له موضعاً وسمع كلامه في أبطال التتليث فأعجبه، وسمع كلامه أيضاً في انقضاء الدهر ففتن به وشاهد من حججه المنطقية وسمع من ألفاظه الفلسفية التي لم يكن العرب بها أنسة ما هاله. وكان عمرو عاقلاً حسن الاستماع صحيح الفكر فلازمه وكاد لا يفارقه، ثم قال له يحيى يوما (إنك قد أحطت بحواصل الإسكندرية وختمت على كل الأجناس الموصوفة الموجودة بها، فأما مالك به انتفاع فلا أعارضك فيه، وأما ما لا ينفع لكم منه فنحن أولى به، فأمر بالإفراج عنه) فقال عمرو: (وما الذي تحتاج إليه؟) قال: كتب الحكمة في الخزائن الملوكية، وقد أوقعت الحوطة عليها، ونحن محتاجون إليها، ولا نفع لكم بها. فقال له: (ومن جميع هذه الكتب وما قصتها؟) فقال له يحي: (إن بطلوماوس فيلاذلفوس من ملوك الإسكندرية لما ملك حبب إليه العلم والعلماء وفحص عن كتب العلم وأمر بجمعها وأفرد لها خزائن فجمعت وولي أمرها رجلا يدعى بابن مرة (زميرة) وتقدم إليه بالاجتهاد في جمعها وتحصيلها والمبالغة في أثمانها وترغيب تجارها ففعل واجتمع له من ذلك في مدة خمسون ألف كتاب ومائة وعشرون كتاباً
(ولما علم الملك باجتماعهما وتحقق عدتها قال لزميرة، أترى بقي في الأرض من كتب العلم ما لم يكن عندنا؟ فقال له زميرة (قد بقي في الدنيا شيء في السند والهند وفارس وجرجان، والأرمان وبابل والموصل وعند الروم. فعجب الملك من ذلك وقال له: دم على التحصيل. فلم يزل على ذلك إلى أن مات، وهذه الكتب لم تزل محروسة محفوظة يراعيها كل من يلبي الأمر من الملوك وأتباعهم إلى وقتنا هذا). فاستكثر عمرو ما ذكره يحيى وعجب منه وقال له (لا يمكنني أن آمر بأمر إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب). وكتب إلى عمر وعرفه بقول يحيى الذي ذكر واستأذنه ما الذي يصنعه فيها فورد عليه كتاب عمر يقول فيه (وأما الكتب التي ذكرتها فأن كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله تعالى فلا حاجة إليها فتقدم بإعدامها) فشرع عمرو بن العاص في تفريقها على حمامات الإسكندرية وأحرقها في مواقدها وذكرت عدة الحمامات يومئذ وأنسيتها فذكروا أنها استنفدت في مدة ستة أشهر فاسمع ما جرى واعجب)
هذه هي الرواية التي نقلها أبو الفرج عن القفطي فيما بعد فتداولتها الألسن على علاتها، وروج لها الشعوبيون على أنها حقيقة لا غبار للشك عليها. وقد دحضها كل من جبون، ولوبون، وبطلر، وسيدُّيو، وشبلي النعمان
ولقد أعجبنا في دحض هذه الفرية دفاع الدكتور حسن إبراهيم حسن إذ يقول: (ومما يدل على اختلاق رواية أبي الفرج ومن تقدمه ما ذكره بطلر، إذ حلل هذه الرواية تحليلا لا يسع القارئ إلا أن يحكم ببراءة عمرو بن العاص مما نسب إليه، والاعتراف بأن مكتبة الإسكندرية لا بد أن تكون قد فنيت قبل الفتح الإسلامي بمدة طويلة؛ فذكر نقلا عن (اميانوس مارسينوس) أن السبعمائة الألف مجلد التي كانت تحتوي عليها مكتبة الإسكندرية قد أتلفت إتلافا تاماً حين حوصر (يوليوس) قيصر الروم بالإسكندرية كما تقدم، وممن أيَّد هذا الرأي أورازيوس حيث أعتقد أيضاً أن هذه المكتبة قد دمرت في حريق يوليوس المذكور
وأضاف (بطلر): (ومن سوء الحظ أن مثل جواب عمر قد ورد أيضاً بخصوص إحراق الكتب في فارس). وقد علق الأستاذ (بري) بقوله: (إن شعور المسلمين نحو كتب الوثنين الفرس يختلف اختلافاً تاماً عن شعورهم نحو كتب النصارى إذ كانوا يكرهون أن يتعرضوا لما فيه اسم الله)
وإذا سلمنا جدلا بأن احتراق مكتبة الإسكندرية قد حصل فعلا كما رواه أبو الفرج الذي ذكر أن الكتب قد وضعت في سلات وزعت على الأربعة آلاف حمام، وأنها ظلت تسخن مياهها ستة شهور، فإن هذا الخبر على ما يظهر لنا عبارة عن أكاذيب وأضاليل لا حقيقة لها أصلا، إذ لو قصد تدمير هذه الكتب حقيقة لأمر بإحراقها في الحال، ولم يكن عمرو بالرجل الساذج الذي يضع هذه الكتب تحت رحمة أصحاب الحمامات، فلا يصعب بذلك على (يوحنا) أو أي إنسان سواه أن يستولي على قدر عظيم منها بثمن بخس، ولدى يوحنا وغيره من عشاق الكتب ما يكفي لتحقيق هذه الأمنية وهي انتشال عدد كبير منها من مخالب النيران. على أن ما جاء برواية أبي الفرج من أن هذه الكتب كفت الحمامات ستة أشهر مما يثير الدهشة والاستغراب في نفوسنا لأنه لو قدر لكل حمام مائة مجلد في اليوم على الأقل (وعددها أربعة آلاف حمام) لبلغ هذا العدد الذي أحرق في ذلك الوقت (72 , 000 , 000) مجلد وهو ضعف عدد مجلدات المكتبة الحقيقي بنحو 103 مرة تقريباً. ويستدل مما ذكر أن السبعمائة الألف مجلد لم تكن لتكفي الأربعة الآلاف حمام ساعة واحدة لا ستة شهور
وزاد على ذلك أستاذنا إسماعيل رأفت بك مؤيداً استبعاد وقوع هذا الأمر بقوله: (إن الكاغد بقطع النظر عن الرق وإن كان يصلح لا يقاد النار، إلا أنه لا يصلح لبقائها متقدة أصلاً)
وقد برهن بطلر على أن يوحنا النحوي الذي ذكره أبو الفرج في روايته لم يكن حياً يرزق وقت فتح الإسكندرية، سنة642 م لأن يوحنا هذا كان قد اشترك مع (ديوسفوروس) و (جايوس) و (ساويرس أسقف إنطاكية) في الكتابة ضد مجمع خلقدونية، ويكون قد عاش في أوائل القرن السابع الميلادي: أي قبل سنة 642 م. ولا بد أن يكون قد مات قبل دخول عمرو الإسكندرية بثلاثين أو أربعين سنة. . . الخ. وختم بطلر كلامه قائلا: لا أزال أقول إن إحراق العرب لتلك المكتبة غير محتمل جداً، لأن العرب لم تدخل الإسكندرية إلا بعد استيلائهم عليها بأحد عشر شهراً. وقد ذكر في عهد الصلح (مادة 4 , 6) أنه يجوز للروم أن يحملوا إلى بلادهم كل أمتعتهم، وفي غضون هذه المدة كان البحر مفتوحاً ولم تكن أمامهم أية صعوبة لحملها إلى بلادهم، وما كان يصعب على يوحنا (بفرض وجوده) وأمثاله أن يقتنوا هذه الكتب قبل أن تقع الإسكندرية نهائياً في أيدي العرب. انتهى كلام الدكتور حسن إبراهيم حسن
هذه هي المصادر والروايات الهامة التي يتعلق بها الشعوبيون في الحط من كرامة الفاروق العاص، وفيما سلف أن فصلناه الكفاية للدلالة على ضعفها وفسادها، وأما بقية الروايات فإنها قد أخذت عنها وتنطوي تحت حكمها
وأما عبارة حاجي خليفة وهي: (ويروي أنهم أحرقوا ما وجدوه من اكتب في فتوحات البلاد) فلا يصح أن تؤخذ حجة على العرب لأنه لم يذكر فيها اسم هذه المكتبة، ولا أشار إليها، ولكنه أراد أن يقول أن المسلمين في أول فتوحهم لم يعتنوا بالعلم لتعلقهم بالوحي وخوفهم من تسلط العلوم الأجنبية عليهم وعلى عقولهم ولقد اعتاد الناس إذ ذاك أن يقاوموا الأديان الجديدة المخالفة لعقائدهم، فلما جاءت المسيحية قاومتها الوثنية مقاومة عنيفة، وأوقعت بأتباعها مرَّ العذاب، وشديد التنكيل، فلما ظهرت هذه عليها كالت لها الصاع صاعين، وبادلتها الشر بمثله، وكان المسيحيون يعتقدون إذ ذاك أن هدم المعابد والهياكل الوطنية شرط لازم لتأييد المسيحية، ولذلك فإن أباطرة الروم عندما تنصروا كان أول ما أمروا به هدم هياكل الأوثان في مصر وإحراقها بما فيها من الكتب. ولما كانت مكتبة الإسكندرية من آثار الوثنيين ومؤلفاتهم، فليس هنالك ما يبرر حرقهم إياها.
ولم يقتصر هذا الأمر على الكتب الوثنية فقط بل تعداه إلى جميع الكتب غير المسيحية، فقد أحرق الكردينال كسيمنس جميع كتب المسلمين في غرناطة وكانت ثمانين ألف مجلد، وأحرق الأسبانيون غيرها عشرات المكاتب الهامة في القرن السادس عشر كرهاً للعرب، وفي القرن الثاني عشر أتلف الصليبيون معظم مكتبة طرابلس، وكذلك يوم أمر ضجيل بإحراق كتب دار العلم فيها وكانت تقدر بأكثر من مائة ألف مجلد.
ونحسب بعد هذا أن قد وفينا الموضوع حقه من البحث، في دحض هذه الفرية الشائنة التي لفقها بعض الشعوبيون على العرب تلفيقاً، وأننا قد بلغنا بالقارئ محجة الإقناع. وسنتقدم في مقال آت لدحض فرية أخرى عن الإسلام لا تقل عن هذه شناعة. وسنواصل نشر هذه البحوث في الرسالة العزيزة حتى يتم طبع كتابنا في الدفاع عن الإسلام، وبذلك نكون قد وضعنا تحت متناول القارئ ما يساعده على مجابهة الخصوم، ونكون قد أدبنا لهذه الأمة العزيزة بعض ما أخذنا على عاتقنا عبئه، وأنجزنا بعض ما سجلته علينا الرسالة العزيزة من الوعود القاطعة.
خليل جمعة الطوال