مجلة الرسالة/العدد 276/من أشهر المحاكمات الجنائية
→ مائة صورة من الحياة | مجلة الرسالة - العدد 276 من أشهر المحاكمات الجنائية [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 17 - 10 - 1938 |
محاكمة فرنسوا داميان
الذي حاول قتل الملك لويس الخامس عشر
للكاتب كريجيل -
بقلم الآنسة مفيدة إسماعيل اللبابيدي
ولد (روبرت فرنسوا داميان) في تيوللوي (شمال فرنسا) سنة 1715 من أسرة خاملة كانت تمتهن التزام المزارع، وقد أراد أن يحمل لويس الخامس عشر على عزل وزرائه لغرض لم يكشفه التحقيق، فذهب يوم 5 يناير 1757 إلى فرساي وطعن الملك في خاصرته اليمنى طعنة غير مميتة ولم يستطع الهرب فقبض عليه وحوكم وعذب ثم أعدم على صورة بشعة جداً
والمهم في هذه المحاكمة أنها تكشف لنا عن طريق التعذيب في القرون الوسطى توصلاً لاستلال الاعتراف بالجريمة من المجرم وما يصاحبها من إجراءات عدت زماناً إحدى طرق التحقيق القانونية فصبغت وجه الإنسانية بحمرة من الخجل لا تمحى
في الخامس من شهر يناير سنة 1757 وفي الساعة الخامسة من مسائه، روع باريس خبر ذعر له أبناء الشعب والأشراف على السواء: ألا وهو جرح الملك المحبوب لويس الخامس عشر في فرساي من يد رجل يدعى داميان حسن الحظ أن قبض عليه في الحال
وعندما انتشر خبر الجريمة توجه الأمراء والضباط والسفراء برغم البرد القارس نحو فرساي، وفي بضع ساعات كان طريق فرساي مغطى بالكراسي والمركبات وجميع أصناف العجلات على ما يروى أحد مؤرخي هذا العصر
ولفائدة التحقيق أوقفت امرأة داميان وابنته اللتان زجتا في الحال في (الباستيل) لأنه لابد أن تكونا مطلعتين على نية القاتل السيئة
وفي الثامن عشر من ذلك الشهر وحوالي الساعة الثانية صباحاً اقتيد فرنسوا داميان من فرساي إلى باريس مخفوراً بعدد وافر من الجنود
وكان السجين في داخل عربة لا ضوء لها، فأدخلوه من حاجز السيفر ليمنعوا المتف عنه ثم أودعوه القصر في برج (مونتكوميري) تحت رقابة من الحرس الفرنسي يجري تبديلهم كل أربع وعشرين ساعة
ثم في الصباح ذهب مفوضا الشرطة (سه فرت وباسكيه) والرئيس الأول والرئيس (موله) ليحققوا معه، وقد دام هذا التحقيق من الساعة الحادية عشرة صباحاً إلى الساعة الخامسة بعد الظهر، وكان أحد طهاة الملك مكلفاً بإعداد طعام داميان وكان هذا لا يخرج من البرج مطلقاً
وكان فوبير من كبار الجراحين في ذلك العصر، لا يترك السجين الذي كان يقاسي الآلام الممضة من ساقيه اللتين كويتا فوراً بعد توقيفه بسيخ أحمى حتى احمر
أما الملك الذي شفي سريعاً من جرحه فقد أرسل 300000 ليرة إلى قس باريس لتوزيعها على فقراء رعيتهم فداء عن نفسه
كان سجين داميان مستديراً وقطره لا يزيد على اثنتي عشرة قدما، وكان الهواء لا يدخله إلا من فتحه ضيقة ذات صفين من القضبان الحديدية مفتوحة في حائط سمكه خمس عشرة قدما، وكان الضوء يمر من خلال الأوراق المزيتة
وكان السجين محصوراً في نوع من الصداري التي لا تترك له الحرية في أقل حركة
بلغ هذا التضييق الملك فوجده مفرطاً لأنه في الحقيقة لم يؤخذ تدبير ضد متهم أكثر تضييقا وأقل رأفة مما أخذ ضد داميان، فبعث الملك طبيبه الأول الدكتور (سه ناك) فزار داميان ثم أمر أن يترك للسجين بعض الحرية وأن يعامل بشيء من الإنسانية
وكانت الدعوى تسير ولكن ببطء، فقد زج في الباستيل ستون أو ثمانون شخصاً اتهموا بأنهم كانوا على علن بنية داميان المجرمة، ثم أطلق سراحهم من السجن تدريجياً. ولما حضر داميان أمام محكمة تورنل في 17 آذار، دافع بأنه ما كان يرغب إلا في إنذار الملك وحمله على عزل وزرائه
وفي الحادي والعشرين من ذلك الشهر أرسل إليه الكاهن (كه رمت) خوري كنيسة القديس بولص ليعظه حتى يحمله على قول الحقيقة
وفي السادس والعشرين من الشهر المذكور اجتمعت المحكمة الكبرى المؤلفة من أمراء البيت المالك والدوقات والرؤساء والقضاة والمستشارين. وكان المحامون جلوساً في أمكنتهم، وجيء بالمجرم فأجلسوه في قفص الاتهام ولم يكن يظهر عليه أنه (محروم) ولا ظهر عليه أمام هذا المجلس أقل اضطراب بل كان يتظاهر، بالهدوء وعظمة النفس ثم استعجلوه بتسمية شركائه في الجريمة، فأجاب: إنك تتكلم جيداً يا سيدي باسكيه ولكن هأنذا أمام الصليب ليس لديَّ ما أعترف به
وحينئذ فتحت الجلسة فقرئ تقرير النائب العام الذي يتلخص في طلب إدانة داميان بجريمة محاولة قتل الملك فأحيل للعذاب طبق ما هو مقرر
وفي الساعة السابعة مساء أصدرت المحكمة الحكم الآتي على روبرت فرنسوا داميان:
إن المحكمة بحضور عدد وافر من الأمراء والقضاة نظرت في التهمة الموجهة ضد روبرت فرنسوا داميان، وهي تعلن إليه بناء على اعترافه بأنه مجرم بالاعتداء على صاحب الجلالة الملك بصفته الإلهية البشرية وكونه الرئيس الأول، تلك الجناية الفظيعة الشنعاء الموجهة ضد شخص الملك، وللتكفير عن فعلته يحكم عليه:
1 - بأن يقاد عارياً إلا من قميص، ممسكاً بمشعل من الشمع الملتهب يوزن ليبرتين إلى أمام الباب الرسمي لكنيسة باريس، وهناك يركع ويعترف جهاراً بأنه اقدم على ارتكاب جريمة قتل الملك، تلك الفعلة الشنعاء الممقوتة، وأنه جرح الملك بضربة سكين في خاصرته اليمنى، وأنه قد تاب وأناب فيطلب العفو من الله ومن الملك ومن العدالة
2 - بأن يساق إلى محل الإعدام ويرفع على صقالة ثم يسحب ثدياه ولحم ذراعيه وفخذيه ورجليه بكلاليب، أما يده اليمنى فيمسك بها السكين التي حاول بها قتل الملك وتحرق بالنار والكبريت، وأما الأقسام التي جز لحمها فيصب عليها الرصاص الذائب والزيت الحامي وصمغ البطم الحار والشمع والكبريت ممزوجة جميعها معاً
3 - بأن يشد بدنه أربعة أحصنة وتقطع أطرافه ثم تحرق بالنار حتى تصير رماد تذرى في الهواء
4 - بأن تصادر جميع أرزاق المحكوم عليه وأملاكه في أي مكان كانت لحساب الملك
5 - تأمر المحكمة بأنه قبل هذه الإجراءات يحال المجرم داميان إلى التحقيق العادي وغير العادي (التعذيب) ليقر بشركائه في الجريمة
6 - وتأمر أيضاً بتدمير البيت الذي ولد فيه المجرم داميان، أما الذي يملك هذا البيت فيعوض عنه، على ألا يحق له في المستقبل أن يقيم مكانه بناء آخر
وبينما كانت المحكمة تقرأ الحكم كانت الاستعدادات لتنفيذ الحكم قائمة في محل الإعدام
وفي الثامن والعشرين من الشهر صباحاً أخرج داميان من سجنه وسيق إلى غرفة في الطبقة السفلى من (الاوتيل ده فيل) محمولا على أيدي الشرطة في نوع من الحقائب اللينة التي تصنع من جلد بعض الحيوانات والتي لا تسمح لغير الرأس بالظهور، ثم أخرج منها وأركع وتلى عليه الحكم، وقد لوحظ أنه كان مصغياً بانتباه إليه، ثم انفرد به خوري كنيسة القديس بولس في وسط المكان بضع دقائق انسحب بعدها الخوري وشرب داميان جرعة من الخمر وضع بعدها في الحقيبة المذكورة مرة أخرى ونقل إلى غرفة التعذيب حيث هناك المحققون مفوضا الشرطة، والرئيسان موله وموبو، والمستشارون رولان وباسكيه وسه فهر، فجرى استنطاقه من جديد.
وحينئذ أحاط به منفذو الحكم وألبسه الجلاد الخف وحين ضغط على الزاوية الأولى أجبرته على الصراخ الشديد، فأقر بأن الموسيو (غوتيه) وكيل عضو في البرلمان والمسيو (له متر) الذي كان يسكن في شارع الماسونيين هما اللذان دفعاه إلى الجريمة. فصدر الأمر في التو بتوقيف هذين الشخصين.
وعندما ضغط على الزاويتين الثانية والثالثة صاح من جديد صيحة ألم، وفي الرابعة طلب العفو. ولما وصل المتهمان الجديدان (غوتيه) و (له متر) واجهوهما بداميان فرجع عن إقراره عنهما. فأعيد إلى العذاب ثانية وضغطوا على الزاوية الخامسة والسادسة والسابعة والثامنة من الخف، وهنا أعلن الأطباء الجراحون بأن المجرم لم يعد في طاقته تحمل تجربة جديدة، وقد دام التعذيب ساعتين وربع الساعة.
ولما دقت ساعة القصر الرابعة تقدم (جيرائيل سانسون) من المسيو (غه ره) والمسيو (مارسيللي) وقال لهما إن ساعة التنفيذ قد حانت. ومع أنه تكلم بصوت خافت فقد سمعه (داميان) الذي دمدم بصوت مخنوق (نعم بعد قليل يخيم الليل) وبعد فترة قال: (أواه، غداً يكون نهاراً لهم).
وحينما وصل (داميان) إلى أسفل الصقالة طلب أن يكلم مفوضي الشرطة فحمل إلى (الأوتيل ده فيل) حيث استدرك من جديد الاتهام ضد (غوتيه) ثم أوصى المسيو (باسكيه) بزوجته وابنته.
وفي الساعة الخامسة أنزلوه إلى الميدان ورفعوه فوق الصقالة ثم نزلوا وربطوا كل طرف من أطرافه بمجر حصان، وكان لكل حصان مساعد يمسك بلجامه، وآخر وراءه يمسك سوطاً، ووقف الجلاد وأعطى الإشارة، وعندها وثبت الأحصنة الأربعة بقوة شديدة وفي اتجاه مختلف فسقط أحدها، ولكن جسم الشقي لم يتقطع، فأعادت الأحصنة الكرة ثلاث مرات وفي المرات الثلاث كانت تتقهقر أمام صلابة الجسم.
ولهول المنظر أغمي على الخوري، وكان المتفرجين في ذهول وذعر عميقين، ثم تعالت الأصوات من كل جانب بصورة مرعبة.
وعندها صعد الجراح (بوير) إلى (الأوتيل ده فيل) وطلب إلى مفوضي الشرطة أن يضربوا المحكوم عليه بالساطور على مفاصله فصدعوا بالأمر.
وأخيراً فصلت الأطراف وخرجت من جميع الصدور تنهدات عميقة وتنفسات حارة.
ولكن الواقعة لم تنته، فجمعت الأطراف الأربعة والجذع وجمعوا كومة من الحطب، ثم ارتفع اللهيب فيها.
حلب
مفيدة إسماعيل اللبابيدي