مجلة الرسالة/العدد 276/مائة صورة من الحياة
→ غزل العقاد | مجلة الرسالة - العدد 276 مائة صورة من الحياة [[مؤلف:|]] |
من أشهر المحاكمات الجنائية ← |
بتاريخ: 17 - 10 - 1938 |
للأستاذ علي الطنطاوي
9 - قارئ
كنت عند صديق لي يبيع الصحف والمجلات أجوز به كل يوم، فجاءه رجل محترم، عليه سيما الوقار ومعه نسخة من مجلة الرسالة فقال له:
- لقد أخذت هذه المجلة أمس من عندك، وقد بدا لي فيها، أفلا تحب أن تأخذ قرشاً وتعطيني بها الرواية؟ فنظر فيها البائع فإذا هي جديدة سالمة، ولم ير في طلب الرجل شيئاً فقبل وأعطاه الرواية فأخذها شاكراً. فلما كان من الغد عاد والرواية معه فقال:
- هذه هي مجلة الرواية التي أخذتها منك أمس، أفتأخذ قرشاً وتعطيني (الدنيا)؟
- قال: نعم، وأخذ القرش والرواية وأعطاه الدنيا، فمضى شاكراً. فلما كان من الغد عاد فقال له:
- أتحب أن تأخذ هذه المجلة وتعطيني بها (الحرب العظمى) وعدداً من جريدة يومية؟
- قال: نعم وأعطاه. . . فلما كان غد عاد فقال:
- أتشتري مني (الحرب العظمى) بنصف ثمنها؟
- قال: نعم، وأعطاه (نصف فرنك) فأخذه ومضى شاكراً فقلت لصديقي البائع:
- لقد شهدت من صبرك على هذا الرجل عجباً؟ أفلا طردته أو أنبته واسترحت منه؟
- قال: ومن أبيع إذا طردت مثل هذا؟ إن أمثال هذا هم (القراء) في هذا البلد، أفتعجب بعدُ أن كان يباع من مجلة (كذا) مثلا خمسون عدداً في دمشق كلها؟
10 - أمام
رأيت في سينما روكسي، رجلاً بلحية وقفطان، ولكنه حاسر الرأس، غير مرتد رداء، ولا متخذ جبة، فعجبت منه وجعلت ألحظه، وأنكر مكانه من السينما، حتى إذا انقضى التمثيل وخرجنا رأيته يدخل غرفة (المدير) فيلبث فيها دقائق ثم يخرج منها شيخاً بعمة وجبة. . . فسألت رجلاً كان معي:
- ماذا يكون هذا الشيخ؟ فضحك وقال:
- ألا تعرفه؟
- قلت: لا
- قال: هذا من خطيئات النظام الحزبي. . . كان تاجراً، فاشتغل بالسياسة وأقبل عليها حتى أدبرت عنه الدنيا، وخسر رأس ماله كله فابتغوا له عملا يعيش منه، فكان عمله مراقب (الأفلام السينمائية) ولكن وظيفة هذا العمل قليلة، ففتشوا عن وظيفة أخرى ترفدها، فجعلوه إماماً في مسجد (كذا) وعزلوا إمامه الشيخ الصالح، فمن أجل ذلك كان بعمة وجبة وكان في السينما. . .
- قلت: عاش النظام الحزبي. . .
11 - مشعبذ
سمعت الكثير من أحاديثه - وأخبار (علمه اللدني) - وقدرته على استحضار الجنّ، وكشف السرقات واستحضار المغيبات، وبراعته في (عالم الحرف) وأسرار العدد، فأحبت أن أراه. . . كما يحب المرء أن يرى حيواناً عجيباً، أو تحفه نادرة. . . وسألت صديقاً لي أن يجمعني به، فأخذني إلى داره في (برج أبي حيدر) فدخل بي دهليزاً مستطيلاً يفضي إلى غرفة في داخلها غرفة - مفروشة بالطنافس. . . في جوانبها مئات من الكتب الصوفية والروحانية - وفي وسطها مجمرة يحرق فيها البخور فتمتلئ به الدار، والشيخ جالس أمامها وقد وضع في عنقه سبحة طويلة أخبرني صديقي الذي جاء بي، أن فيها ألف حبَّة، في كل حبة منها حرف يدعي به ملك من ملوك الجان فلا يلبث أن يحضر ملبياً طائعاً، وعلى رأس الشيخ عمة ضخمة أحسبها تزن خمسة أرطال. . . فلم يقم لنا حين دخلنا وإنما مدَّ يده لنقبلها، فعجبت من فعله وتلكأت، فهمس صاحبي في أذني، أن قبلها وإلا رأيت من القوم ما تكره. . . فنظرت في وجوه القوم فإذا هي قد اربدَّت، وإذا عيونهم محمرَّة، فآثرت السلامة وقبلت يده الطاهرة وجلست. . .
وشرع القوم يعرضون على الشيخ قصصهم - كما كانت تعرض القصص والحاجات على الملوك والأمراء، وهو يعد ويؤمل. . . والقصص شتى والحاجات متباينات، فهذا الرجل له قريب أصابته آفة في بطنه أجمع الأطباء على أن شفاءها (عملية) جراحية، فخاف المريض منها وبعثه يرجو الشيخ الخلاص من هذه (العملية) فوعده أنه سيجريها له وهو نائم فلا يفيق من منامه إلا وقد صرف الله عنه ما يحس به، فدعا له الرجل ودس في يده ما تيسر. . . وهذا رجل له امرأة عاقر فهو يسأل الشيخ أن يجعلها ولوداً. . . وهذا آخر سرق ماله كله وعجز الشرط عن معرفة السارق، فهو يطلب من الشيخ كشف السارقين. . . وأمثال ذلك، وهم ينصرفون واحداً إثر واحد، حتى لم يبق أحد. . . فمال علينا يحدثنا. . فكان من حديثه إلينا أنه وقع على النسخة الفريدة من كتاب (أسرار الحرف) تلك التي فتش عنها (العلماء) القرون الطوال فلم يسقطوا لها على أثر. . . فكانت له مفتاحاً لكل باب، فإذا أراد أن يأتي بأموال (بنك فرنسا) مثلا لم يحتج إلا إلى حروف يكتبها في ورقة ويلقيها في البحر، ظهر يوم الاثنين، أو فجر يوم الأربعاء، وإذا شاء أن يصطاد سمكا، كتب حروفاً على الشبكة فأقبلت إليها الأسماك والحيتان حتى لا يبقى في البحر حوت
قلت: فلم يا سيدي لا تأتون بأموال فرنسا وإنكلترا وهم أعداء الله وأعداء رسوله؟
قال: لم يؤذن لنا في ذلك، ولكني سأكون مفتياً للجيش الفرنسي فأجعله كله من جنود الله!
ومرت على هذه المقابلة الطريفة سنون، لقيت بعدها ذلك الصديق، فقلت:
- ما فعل الله بصاحبنا الشيخ؟
- قال: ذهب المسكين يصطاف، فمنوا عليه بدار في (دمر) منفردة. فلم يبت فيها إلا ليالي حتى نزل عليه اللصوص فلم يدعوا له شيئاً. . . وبقى هو وأسرته بلا فراش!
- قلت: أولم يستطع أن يعرفهم؟ أما كان يكشف السرقات ويظهر المخبئات؟
- قال: مسكين، إنه يرتزق. . . أفتريد له الموت جوعاً؟
دمشق
علي الطنطاوي