مجلة الرسالة/العدد 275/خاطر
→ التاريخ في سير أبطاله | مجلة الرسالة - العدد 275 خاطر [[مؤلف:|]] |
بين اللغة والأدب والتاريخ ← |
بتاريخ: 10 - 10 - 1938 |
رفائيل
الدنيا ذات الطهر والسحر
(مهداة إلى لجنة إنهاض اللغة العربية)
للآنسة الفاضلة ف. ن
كنت أود لو أن الصديقة التي قضيت معها ساعات القيلولة من كل يوم طيلة أيام الربيع الماضي، تحكي هذا الذي أريد أن أحكيه عنها وعني، فلقد كانت حافلة بموضوع الحديث، مشوقة للبحث فيه، هيَّابة لذكراه، إذا ما أقدمت على طرقه فكأنها تقدم على طرق حديث من عند الله. . . وما كانت لتنساه، ولم يكن لها مجال لتنساه وأنا معها ليلَ نهار!
- رفائيل أيضاً؟.
- أيضاً رفائيل!.
هكذا كانت تبتدرني كلما لقيتني في فناء المدرسة أو في ناحية من نواحيها، متأبطة كتاب رفائيل، وهكذا كنت أرد عليها وأردف بابتسامة تفهم معناها الذي في قلبي. . ثم أسير عنها، فإذا بها تتبعني. كأني أحمل قوة من السحر تجذبها من غير أن تدري! وأدرك ناحية هادئة اعتدتها فأحتل مكاناً لي فيها كفلته خالياً كثرة جلوسي هناك، فإذا بها قربي. . وأتجاهل ما تريد فأصمت عنها وهي ترتقب حركة مني، حتى إذا وثقت من إصراري على الصمت صاحت بي وقد نفد صبرها (افتحي!) فأبتسم. . وأفتح. . . ونقرأ الكتاب الذي أعجز عن عدّ المرات التي قرأناه فيها وكأننا نقرأ لأول مرة. وتستوقفنا المعاني الرائعة فتفلت من صدرينا آهات خافتة هي التأثر، وهى الإعجاب، وهي صدى الروعة في النفس وفعلها في الشعور! ونغرق في السحر الذي يفيض من قلبينا حتى يغمرنا، ونذهب في سكرة لذيذة لا نصحو منها إلا على صوت الجرس، معلناً انتهاء ساعات الفراغ، فينال من لعناتنا ما ينال ونحن في حنق عليه!
هكذا بدأت أيام إعجابها الأولى بالكتاب، ثم سارت - هذه الأيام - في طليعة أيام بعدها، حفرت لها في قلبينا أثراً بعيداً لن تمحوه الحوادث مهما جارت!. . تلك كانت ساعات القيلولة في الربيع الماضي، عندما تجد أثر النعاس اللذيذ في كل جفن، على الرغم من توسط الشمس قبة السماء بهيجة ساطعة؛ وعندما تلمس روح الهدوء في كل حي، كأن الكل شعراء يحلمون!
هكذا كان حَفَلها بالكتاب عظيماً وأنا أطلعها عليه للمرات الأول. على أنها لا تفهم العربية الفصحى جيداً، فكنت أتناول عميق المعاني بالإفصاح والطلوع بها إلى سطح معرفتها باللغة - وفي هذا ما فيه من تشويه - فلا تتمالك نفسها من أن تقول والدهشة تملأ فاها (أهذا السحر في العربية؟) فأجيب (بل وفي قلم الزيات أيضاً!)
ما كانت تدري أن في العربية سحراً، وقد شبت جاهلة بها. وهي وإن كانت عربية فيها دم فارسي إلا أنها تجيد الفرنسية قبل كل لغة (هكذا شاءت إدارة المدارس الفرنسية، وهكذا خضعت حكومات البلاد العربية لهذه الإرادة القاسية!)
لقد عرفتها قبل أن أعرفها (برفائيل) بثلاثة اعوام، أطلعتها فيها على كثير مما جادت به القرائح والأقلام العربية فأعجبت بالكل وذهلت برفائيل! ولم يكن هذا الإعجاب الطاغي، أو هذا (الذهول) ليغمط حق سائر الكتب التي اطلعت عليها. فلكل طريقته وأسلوبه ورائع معانيه، إنما في (رفائيل) روح لا توجد في سواه، روح عالية سماوية ليس فيها من نزعات الأرض واحدة!
- ماذا؟ أصديق جديد؟
قالت عندما رأت (رفائيل) في يدي لأول مرة. . كلمتان اعتادت أن تقولهما كلما رأت في يدي كتاباً جديداً. .
قلت: لا، بل معلم مجيد، بل عالم سماوي ليس فيه خبث ولا دنس. أنه (رفائيل) روح من السماء كما كانت في السماء. .
كنت أود لو أن الصديقة التي قضيت معها الساعات الغارقة في الإعجاب، المتسامية بروحينا عن عالم وضيع إلى دنيا ليس فيها حياة إلاَّ الطهر والسحر. . كنت أود لو أنها تحكي هذا الذي حكيته، إلاَّ أنها بعيدة. . وإلاَّ أنَّ هذا الخاطر هاج فيّ ولا أظنه هاج فيها، وذلك لنظري إلى الكتاب لا كنظرتها فقط إنما هناك عوامل أخرى، تخلق فيّّ نظرةً أخرى، تقيم الخشوع في نفسي كلما ذكرت شيئاً من الكتاب أو قرأت فيه شيئاً. .
أنا عندما أقرأ مأساة رائعة أبكي ويعتصر الألم قلبي فألازمه أياماً. . وعندما أقرأ صفحة في البطولة، تهيج في نفسي عوامل الشعور بالقوة في الروح وفي الجسم وفي الأماني، وفي كياني كله. ولكني عندما أقرأ (رفائيل) أحسُّ عالماً جديداً في داخلي، وعالماً جديداً حوالي!
سواء علي أوثق القراء بما أقول أم لم يثقوا، فحسبي أني أصف خاطراً في نفسي أهاجته خواطر في نفوس الغير. . سواء علي أوثق القراء من أني لم ألقَ تهذيباً في البيت أو في المدرسة من أمي أو من مدرَّساتي، أو من أية ناحية من نواحي الحياة بقدر ما ألقي في صفحة. . بل في بضع جمل من رفائيل!. سواء أوثق القراء أم أبوا فأني أقول هذا للحقيقة لا للدعاية - وهل يحتاج مثل رفائيل للدعائية؟
كل ما في نفسي من غرائزها البشرية الرديئة، كل ما فيّ من أثرة وحسد وبغضاء ونزوات دنيئة، كلها تموت وتتلاشى إذا ما قرأت في رفائيل صفحة. . وأعود لا أرى في الدنيا وفي قلبي إلا المعاني الجميلة، الدنيا الطاهرة التي في رفائيل. . وأعود لا أرى الحبَّ إلا عذرياً نقياً كحب رفائيل. . ولا أرى الصداقة إلا بريئة من كل شائبة كصداقته. ولا أرى العفة في كل عاطفة إلا عفته، ولا الدنيا الصادقة إلا دنياه؛ ولا الحياة الزاخرة بوجدان حي إلا حياته. ولا أرى المثل الصادق للتهذيب الذي يدخل النفس من حيث لا تشعر فينقيها ويجلو محاسن ربها فيها، ويهيئها لعالم كل مادته ومعناه وجدان طاهر وعاطفة بلا شائبة، ذلك التهذيب اللين الجارف في غير قسوة ولا تشديد، إلا في كلمات يلقيها رفائيل في الحس فتمهد الدرب، في غير صعوبة، إلى أعماقه. . وفي جمل رائعة يصف فيها حبه وحياته وآلام قلبه فتحس جلده على تحمل آلام اليأس الذي ما كان ليراه يأساً. . وصبره على حرمانه الذي يجد فيه كل المتع، ويلقى فيه من السعادة ما يحمله على الهزء بأسباب لذاذات الناس أجمعين، لذاذات فانية تشمئز من أصحابها. .
كذا يجب أن يكتب الكاتب، وكذا يجب أن يقولوا للناس كباراً وناشئة. . إذ ذاك يكونون قد عرفوا عظم مسؤولياتهم تجاه الجمهور القارئ. وإذ ذاك يكف النقاد عن صيحتهم: (اتقوا الله فيما تكتبون فان عليكم تبعة الأثر الذي تتركونه في النفوس. .) كذلك فليكتب الكتاب، وإذ ذاك يقال عنهم إنهم مخلصون جد مخلصين، وإذ ذاك يكونون أصحاب رسالات في الإصلاح والتهذيب لكل جيل وكل جنس وكل روح: هذا كتاب للتهذيب!. لعل صاحبه يوم كتبه لم يقصد به إلى هذا، إنما كذلك كانت نفسه، وقد أراد به التعبير عنها ووصف ما خالجها فجاءت هذه الصفحات الرائعة من حياة الوجدان والقلب. وإنما قصد به إلى هذا مترجم تلك الصفحات وناقلها إلى أمته أصدق نقل في أروع أسلوب وأعف حديث. . وأي بلاغة في القول المهذب أعظم من قول رفائيل في معنى (كان حبنا ينمو كل يوم دون أن تمسسه يد النقصان أو الفناء، لأننا كنا لا نقطف ثماره بل ندعها حية يانعة تنمو وتنمو!.) وأي معنى أروع في تهذيب العاطفة من غضبة الشاعر على حبيبته يوم أظهرت له تحسرها على شبابه وأيامه تنطوي بهذا الحرمان في حبها، تلك الغضبة التي تشتد وتحتد، حتى يترك القارئ وفي نفسه أنه لا يذوق لذة فانية من حب مهما تيسر له ذلك، لأن الحب هو لك الذي في قلب رفائيل وحبيبته ليس إلا.
هذا خاطر في النفس أهاجته خواطر في نفوس الناس. . وأن النفس من رفائيل لعوالم، وأن أثر الصفحة منه في الروح كتب. . وأثر الجملة أحلام، وأثر الكتاب تهذيب وصقل وبلاغة قول، وسلامة منطق!. ولا يفكر في ترجمة رفائيل إلا ذو نفس كنفس رفائيل! فهل يشكرها الجمهور على هذه الخدمة الصادقة، أم يشكر ربها الذي براها؟!
وبعد فأن في صدر الساعات الدافئة من الربيع الذي مات، أثراً من آهات خافتة كانت صدى الروعة في النفس، وعمل (رفائيل) في الحس؛ حملتها نفس (الربيع الذي مات) إلى جنة الخلد. . إلى رفائيل!. .
(البصرة)
الآنسة
ف. ن