الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 271/للأدب والتاريخ

مجلة الرسالة/العدد 271/للأدب والتاريخ

بتاريخ: 12 - 09 - 1938


مصطفى صادق الرافعي

1880 - 1937

للأستاذ محمد سعيد العريان

- 38 -

1 - (. . . وأنا على كل أحوالي إنما انظر إلى الجمال كما أستنشي العطر يكون متضوعا في الهواء: لا أنا أستطيع أن أمسه ولا أحد يستطيع أن يقول أخذت مني. ثم لا تدفعني إليه إلا فطرة الشعر والإحساس الروحاني، دون فطرة الشر والحيوانية، ومتى أحسست جمال المرأة أحسست فيه بمعنى اكبر من المرأة، اكبر منها غير انه هو منها!)

2 - (. . . ولكنه عاشق ينير العشق بين يديه؛ فكأنه هو وحبيبته تحت أعين الناس: ما نطمع إلا أن تراه وما يطمع إلا أن يراها ولاشيء غير ذلك؛ ثم لا يزال حسنها عليه ولا يزال هواه اليها، وليس إلا هذا

(والذي هو اعجب أن ليس في حبه شيء نهائي فلا هجر ولا وصل، ينساك بعد ساعة ولكنك أبدا باقية بكل جمالك في نفسه. والصغائر التي تبكي الناس وتتلذع في قلوبهم كالنار ليجعلوها كبيرة في همهم ويطفئوها وينتهوا منها ككل شهوات الحب، تبكيه هو أيضاً وتعتلج في قلبه، ولكنها تظل عنده صغائر ولا يعرفها إلا صغائر؛ وهذا هو تجبره على جبار الحب!)

(هو الرافعي)

الجمال البائس

وهذا حب جديد وليلى جديدة، ولكنه حب كما وصف الرافعي؛ فما هو إلا سمو بالنفس فوق نوازع البشرية إلى غيب السماوات يتنور في عوالمها الخفية نور الإنسانية في حقائقها العالية

كان ذلك في صيف سنة 1935، وكان الرافعي يصطاف في سيدي بشر؛ ثم كان يقصد إلى الإسكندرية أحيانا ليلقى صديقه السياسي الأديب الأستاذ حافظ. . .؛ فان بينهما لصلات من الود ترجع إلى نحو عشرين سنة، منذ كان الأستاذ حافظ محاميا في طنطا.

وكان صديقه يقضي أجازته في الاسكندرية، مشغولا بكتاب يهم أن يصدره في شأن من شئون الإسلام أوحى إليه بموضوعه فترة غير قصيرة من تاريخه السياسي قضاها في بلاد الحجاز، وكان الرافعي يعاونه في إنشاء كتابه. . .

وكانا يتواعدان على اللقاء في ملهى من ملاهي الإسكندرية على شاطئ البحر، حيث تتهيأ لهما الفرصة من هدوء المكان في النهار وقلة إقبال الناس عليه، لما هما فيه من عمل

في هذا الملهى كانت تعمل فرقة الراقصة المشهورة (ببا) فيعج كل مساء بمن يفد إليه من طلاب اللهو والهوى، ليفرغ للرافعي وصاحبه في النهار يداولان الرأي في شئون الأدب والدين والفلسفة. وشتان ليله ونهاره!

وكثر تردد الرافعي وصاحبه على هذا الملهى حتى ألفهما المكان وألفا ما فيه، وألفهما فيمن أَلِف فتاة من راقصات الفرقة، هي الإيطالية الحسناء (بـ. . .) فما كان بينها وبين الرافعي إلا نظرة وجوابها ثم كانت قصة حب. . .

وجلس الرافعي إليها يتحدثان ذات نهار، وكشفت له عن صدرها وكشف لها، فكان بينهما حديث طويل، شهده الأستاذ حافظ من بدايته إلى منتهاه، ثم ترك الرافعي لهواه وتركته صاحبته. . .

وذاق الرافعي مرة أخرى لوعة الحب وبرجاء الهوى، وكانت محبوبته الأخيرة راقصة من بنات الهوى تعمل في مسرح هزلي من مسارح الصيف المتنقلة بين شواطئ الإسكندرية. . .!

تلك هي صاحبة (الجمال البائس)

وانتهت اشهر الصيف وعاد الرافعي إلى طنطا وعادت الفرقة الراقصة إلى القاهرة، وشت ما بين الحبيبين!

ولقيت الرافعي بعدها فحدثني حديثه والكلمات ترتعش على شفتيه وفي عينيه بريق عجيب؛ ثم تهدج ورق صوته وهو يقول: (مسكينة! يا ليتني أستطيع أن ابلغ ما في نفسها لأعلم ما تشكر من حظها وما تنكر. . . ليس موضعها هناك، ولكنه القدر!)

ولقيته في القاهرة ذات مساء، وقد فرغ من مقالات (الجمال البائس) فدعاني أن اصحبه إلى الملهى الذي تعمل فيه ليراها من بعيد، وأرسل من يطلب له تذكرتين عند الشاب من أبناء عمومته يعمل في (دار الهلال) وأبطأ عليه الرسول فلم ينتظر، فنهض ونهضت معه واتخذ طريقه إلى (عماد الدين). .

ووقف بالباب ينظر الصور ويقرأ الإعلان وهو يسألني: (أين اسمها؟ وأين صورتها؟ وأين. . . وأين هي!)

وطالت وقفته وهو ينظر إلى صورتها في إطار كبير إلى جانب الباب يضم صورتها إلى صور شتى من راقصات الفرقة ما منهن إلا لها جمال وفتنة، ولكن عينيه كانتا تنظران إلى صورة واحدة، إلى صورتها!

ثم تحول عن الباب مسرعا عجلان وهو يجمجم بكلام لا يبين

وقال لي وقد أسرعت إليه حتى حاذيته: (أيليق أن ندخل إلى هذا المكان؟ أتراه من المروءة؟ وددت لو رأيتها ولكن. .)

وانتهينا إلى قهوة (بول لور) فجلس وجلست، ومضى يتحدث عن السحر والشعر وفتنة الجمال؛ فما هي إلا لحظة ثم مرت بنا منحدرة من شارع فؤاد إلى شارع سليمان باشا، فأتبعها عينيه من نافذة إلى نافذة حتى توارت في مزدحم الناس ثم عاد إلى نجواه وشكواه. . .

وجلس مرة يتحدث إلى صديقه الأستاذ حسن مظهر محرر (اللطائف) عن ذات (الجمال البائس) فأهدى إليه صورتها؛ فما زالت هذه الصورة معه إلى أخريات أيامه لا تفارقه.

ولقد كان يحسن الظن بعلمها وفهمها، حتى ليحسبها من قراء الرسالة فتفهم ما كتب من مقالات الجمال البائس لتعرف موضعها من نفسه!

وكان لا ينفك يسأل: (أتراها علمت؟ أتراها قرأت. . .؟)

وما أحسبه لقي صاحبا من أصحابه إلا تحدث إليه عن صاحبة الجمال البائس. . .

جلست منذ قريب إلى الأستاذ توفيق الحكيم نتحدث عن الرافعي ونذكر من خبره فقص علىَّ، قال: (كان الرافعي يجلس على هذا الكرسي، من هذه الغرفة، وكان ذلك قبل منعاه بأشهر قليلة؛ ومضى الحديث بيني وبينه حتى جاء ذكر صاحبة الجمال البائس؛ فأخذ الرافعي يصفها لي وصفا لا أجد أبلغ منه ولا أجمل من صاحبته، وطاوعه القول على تصويرها كما هي في نفسه؛ فما كانت عندي بما وصف إلا امرأة قد أجتمع لها من ألوان الجمال وفنون الحسن وسحر الأنوثة ما لم يجتمع مثله لامرأة؛ وتمثلت صورتها لعيني كما أراد أن يصف؛ فلما بلغ آخر الحديث عنها، قدم إلى صورتها في ورقة لأرى بعيني مصداق ما سمعت. . .

قال الأستاذ توفيق الحكيم: (ونظرت إلى الصورة التي صورها لي حديث الرافعي والى الصورة التي في الورقة، فكأنما استيقظت من حلم جميلّ. . . يرحمه الله لقد كان شاعرا. . .)

كذلك كان سلطانها في نفسه وأثرها في خياله!

وكانت نشأة هذه الفتاة في طنطا لأول عهدها بالرقص، وكانت تعمل مع فرقة قروية أقامت (خيمتها) في طنطا بضع سنين؛ ولم يكن الرافعي يعلم ذلك حتى عرفتها في فرقة (بيا) ورأيت صورتها؛ فلما أخبرته به أغمض عينيه وراح في فكر عميق. . . أتراه كان ينظم شعرا لم يجهر به ولم يسمعه أحد؟

والعجيب أن الرافعي وهو في غمرة هذا الحب الجديد لم ينس صاحبته (فلانة) ولم يفتر حبه لها، بل أحسبه كان أكثر ذكرا لها وحنينا إليها مما كان، وكأنما كان قلبه في غفوة فأيقظه الحب الجديد ورده إلى ما كان من ماضيه

لقد كان قلب الرافعي عجيبا في قلوب العشاق؟ ليت من يستطيع أن يكشف عن أعماقه!

طنطا

محمد سعيد العريان