الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 271/الكتب

مجلة الرسالة/العدد 271/الكتب

بتاريخ: 12 - 09 - 1938


الفلسفة الشرقية

تأليف الدكتور محمد غلاب

للأديب السيد احمد صقر

الدكتور محمد غلاب في طليعة رجالنا الممتازين الذين جمعوا بين الثقافة العربية، والثقافة الغربية؛ وتذوقوا ما جمعوا، وهضموا ما تذوقوا، وأنتجوا مما هضموا نتاجاً شهياً يمتاز بالعمق، وجدة العرض، وغزارة المادة، ورشاقة الأسلوب. ويمتاز الدكتور غلاب من بين هؤلاء الأفذاذ بميله الشديد للفلسفة، ولعل لوظيفته في ذلك أكبر الأثر. فهو أستاذ الفلسفة في كلية أصول الدين إحدى كليات الأزهر. ولقد كان الأزهر إلى عهد غير بعيد يحرم الفلسفة ويقذف المشتغلين بها بالزندقة والمروق، أما اليوم فقد صارت الفلسفة بأنواعها تدرس فيه، ووجد من رجاله من يؤلف فيها كتباً قيمة كهذا الكتاب الذي ألفه الدكتور ليسد ثغرة كانت مفتوحة في الحياة العقلية المصرية؛ إذ أن ثقافتنا قد بلغت في العلوم الطبيعية شأواً يسمح لنا بالوقوف في صفوف الأمم الراقية، ولكنها في العلوم العقلية ليست شيئاً مذكوراً (فلا تزال مصر مقفرة في الفلسفة إقفاراً يندى له جبين الإنسانية خجلا، ولا تزال معارفنا الفلسفية بالقياس إلى أوربا تعد جسما بلا روح أو كائناً أعجم إلى جانب إنسان) لذلك أعتزم الدكتور القيام بهذه المحاولة الخطيرة مسترشداً بنور الحق والواجب ففكر وقدر ثم نظر فألفى الشرق - وهو منبع الحكمة، ومصدر العرفان - مغموط الحق، مطمور المجد، مجحود العظمة، في هذه الناحية، فأراد أن يصحر من مجده، ويظهر من حقه، ويجلو من عظمته بكتاب الفلسفة الشرقية والفلسفة الشرقية ليست كما يصورها (بارتلمي سانت هلير) عديمة النفع (لا تفيدنا دراستها إلا من جهة إرضاء النزعة في الإطلاع دون أن يتصل بنا أمرها كثيراً، فليس علينا أن نصعد إليها لنعرف من نحن ومن أين جئنا) بل هي جمة المنافع، حرية بالبحث والتحليل. والواجب على من أراد دراسة الفلسفة أن يبدأ بها ليكون على بينة من العناصر الأساسية التي تكون منها الجسم المراد درسه من جهة، ولكي يصل أوائل حلقات السلسلة العقلية بأواخرها من جهة ثانية) يقع هذا الكتاب في 550 صفحة من القطع الكبير، وهو مصدر بمقدمة اشتملت على مناهج البحث في العصر الحديث وعلى ما يجب أن يسلكه الفيلسوف في استعراض المذاهب الفلسفية، وما يجب أن يكون عليه من الصفات، وما يجب أن يلاحظ من ترتيب الحوادث بعضها على بعض تبعا لقانون المنطق القويم حتى تكون نتائجه سليمة قويمة، واشتملت فوق ذلك على بحث مشكلتين عويصتين طال فيهما لجاج العلماء. وهما: أصل الفلسفة وهل هي إغريقية مبتدعة أم شرقية متبعة؛ وتسلسل الثقافات بعضها من بعض. أما الكتاب نفسه فقد عرض في تفصيل وتحليل دقيقين للفلسفات المصرية، والهندية، والفارسية، والصينية، والكلدانية، والعبرانية، فدرس في مصر الحياة العقلية منذ نشأتها، وتعقب التفكير وتطوره في عصر ما قبل التاريخ، ثم في عصور: منفيس، ومدينة الشمس، وطيبة، فأبان بإسهاب التطورات التي تعاقبت على آراء المصريين في الألوهية، والنفس والآخرة، والسؤال والميزان، والعقاب والثواب، والأخلاق والآداب، والفنون والعلوم. ولعل من الطريف أن نذكر هنا أن الدكتور قال: عرف المصريون الضمير منذ أقدم عصورهم، ووصفوه وصفا فلسفيا فقال فيه قائلهم: إن قلب الإنسان هو إلهه الخاص، وإن قلبي قد رضى عن كل ما عملته وكل من رضى قلبه عن عمله التحق بمرتبة الآلهة)

ثم أنتقل الدكتور إلى الهند فتناول فيها أربعة عشر مذهبا بين ديني وفلسفي بتحليل ونقد لو أننا حاولنا تعقبهما لطال بنا الكلام ولكنا نكتفي بالإشارة إلى مدارسة (ساسكيهيا) التي وجد فيها المنطق قبل أن يوجد أرسطو بأمد بعيد، ولم يذر الحديث عن الهند حتى قرر (أن الفلسفة بجميع أقسامها قد أزهرت فيها إزهارا فائقا، وأن اليونان مدينة لتلك البلاد بكثير من نظرياتها التي يعتقد السطحيون أنها مبتدعة) وحسبك أن تعلم أنهم (وصلوا إلى نظرية الذر أو الجوهر الفرد قبل (يموقريت) و (لوسيب) وأنهم أساتذة (فيثاغورث) أكبر رياضي اليونان على الإطلاق)

وبعد أن فرغ من الهند انتقل إلى الكلام عن الفرس. فدرس الديانات القديمة ومذاهب (زرادشت) و (ماني) و (مزدك) دراسة وافية ممتعة. ثم عرج على الصين فتناول عصر ما قبل التاريخ. ثم العصر المنهجي، حيث درس في عمق مذاهب: (لاهو - تسيه) و (كونفوشيوس) و (مانسيوس) والمدرسة السوفسطائية والمنطق في الفلسفة الصينية إلى غير ذلك من المباحث القيمة. ثم عرض بما يشبه ذلك إلى الفلسفتين: الكلدانية والعبرية، وبالأخيرة ينتهي الكتاب

ولا أخالني بحاجة إلى أن أقول إن الدكتور أجاد العرض وأحسن القول فقرب الفلسفة إلى الناس، بعد طول نفور وشماس، فذلك معروف له من الفصول التي نشرتها الرسالة من الكتاب قبل ظهوره. بيد أني بحاجة إلى أن أقول كلمة صغيرة لا أجد مناصاً من قولها الخاص) كما يسميه ذلك القديم:

ذهب الدكتور إلى أنه هو الذي أثبت بالأدلة القاطعة (سذاجة أرسطو وأذنابه في دعواهم أن الفلسفة نشأت للمرة الأولى في (إيونيا) في القرن السادس قبل المسيح، وأن أول فيلسوف في الدنيا هو (تاليس المليتي) والحق أن هذا الإثبات قديم الميلاد، وليس أدل على ذلك مما قاله الدكتور عن (ديوجين لا إرس) أنه أثبت في كتابه (حياة الفلاسفة): أن الشرق قد سبق الغرب في النظر العقلي وأنه كان أستاذه وملهمه) وقد عاش هذا المؤرخ الإغريقي في القرن الثالث قبل المسيح.

وبعد فهذه كلمة عابرة أردنا بها التعريف بهذا الكتاب العظيم الذي سيكون - إن شاء الله - عظيم الأثر في حياتنا العقلية عامة، وفي نهضتنا الفلسفية خاصة.

السيد احمد صقر