مجلة الرسالة/العدد 270/النظام القضائي في مصر الإسلامية
→ البحث عن غد | مجلة الرسالة - العدد 270 النظام القضائي في مصر الإسلامية [[مؤلف:|]] |
فلسفة الأسماء ← |
بتاريخ: 05 - 09 - 1938 |
للدكتور حسن إبراهيم حسن
أستاذ التاريخ الإسلامي بكلية الآداب
القضاء في أمة من الأمم مظهر من مظاهر تقدمها. ولقد قال لينبول في معرض كلامه عن القضاء في مصر الإسلامية: (إن هذه الروح الاستقلالية عند القاضي الذي كان يُضرَبُ بالسياط إذا ما خالف الأوامر العالية كانت رمزاً لما كان يعامل به غيرُه ممن هم في مرتبته وفي مركزه. ولقد ساد الظلم في هذا العصر وتفشت الرشوة في سائر الأعمال الإدارية، ودخلت البلاد تحت حكم طائفة من الولاة وعمال الخراج ممن جمعوا الأموال كرهاً وعسفاً في عصر لم يكن القاضي ليؤتمن فيه على الشريعة الغراء. هذا فضلا عما كان هنالك من رشوة متفشية وتهديدات مصوبة إلى هذا القاضي
(وربما كانت الشريعة الإسلامية محدودة المادة، وقد يكون القاضي متطرفاً في اعتقاده. غير أنه كان على الأقل على نصيب من العلم والمعرفة، وله خبرة اكتسبها من اشتغاله بالتشريع الإسلامي، كما أنه اشتهر لدى الجمهور بالاستقامة وسمو الخلق، ولما كان لمركزه من أهمية ولشخصه من كبير نفوذ لم يكن يجري عليه ما كان يجري على غيره من العمال، بل ظل القاضي في كثير من الأحيان يشغل منصبه في عهد ولاة عدة، بل كثيراً ما أعيد إلى منصبه إذا ما تولى الحكم أو وال جديد
(ولم يكن هناك أسرع من القاضي في تقديم الاستقالة إذا تدخل في أحكامه الشرعية متدخل. وقد بلغ من محبة الناس للقضاة أن أصبح الولاة يفكرون ملياً إذا حدثتهم أنفسهم بالإقدام على عزلهم حتى لا يعرضوا أنفسهم لكراهة الجمهور التي قد يجرها إليهم أي تدخل من جانبهم في السلطة القضائية. وفي الحق لم يعدَ الوالي في العصر العباسي يملك سلطة عزل القضاة. ويظهر أن تعيين القضاة أصبح منذ أيام أبن لهيعة (155 - 164هـ) تصدر به المراسيم من بغداد عادة، كما غدت مسألة تحديد الراتب ودفعه موكولة إلى الخليفة نفسه)
وهذه العبارة التي ذكرها لينبول في جملتها بمثابة وصف موجز لحالة القضاء في هذا العصر. على أنه بالرغم من ذلك فقد أتى بعض قضاء هذا العصر بضروب من الإصلاح بارزة، فعرف توبة أبن نمر الحضرمي (115 - 120هـ) بالاستقامة، وكان يهيب إخوانه ويصلهم بكل ما ملكت يداه حتى وصفه الناس بالتبذير هذا إلى أن توبة كان أول قاض وضع يده على الأحباس (118 هـ) حفظاً لها من التَّوى والثورات وجعل لها ديواناً كبيراً
كذلك كان القاضي غوث بن سلمان الحضري (135 - 140هـ) حسن الأحدوثة وقد عمل على تطهير القضاء من العيوب التي كانت متفشية فيه وأخصها شهادة الزور. ولقد عالج هذا العيب فكان يسأل عن الشهود سراً. فإذا تأكد من استقامتهم وحسن شهادتهم قبل شهادتهم. وقد عرف غوث بالنزاهة والاستقامة، وكان كما قال الكندي (أعلم الناس بمعاني القضاء وسياسة) وأشتهر بالعدل والاعتدال في أحكامه على الرغم من عدم تضلعه في الفقه الإسلامي. يدلّك على ذلك ما كان من كثرة الخصوم على داره بعد وفاة خلفه. وقد بلغ من عدل غوث هذا أنه جعل الخليفة المهدي العباسي وامرأة شكته إليه على قدم المساواة في الحكم. ولما وكّل الخليفة عنه رجلاً، ساوى بين هذا الرجل وبين الخصم في مجلس القضاء
كذلك كان أبو خزيمة إبراهيم بن يزيد (144 - 153هـ) فقيهاً متضلعاً في علم الشريعة. ولقد بلغ من نزاهته أنه كان لا يأخذ عطاءه عن اليوم الذي لم يعمل فيه للقضاء شيئاً. وربما يعجب القارئ لما كان عليه هؤلاء القوم من النزاهة والورع في هذا الوقت، ولقد كان يقضي هذا القاضي يومه بعيدا عن مجلس الحكم إذا رأى التخلف لغسل ثيابه أو لحضور جنازة أو نحو ذلك حتى عبر عن اعتقاده بقوله (إنما أنا عامل للمسلمين، فإذا اشتغلت بشيء غير عملهم فلا يحل لي أخذ مالهم)
ولعل القارئ يعجب كيف يتخلف ذلك القاضي العظيم، وهل كان يوجد في ذلك الوقت من يكفيه مؤونة غسل هذه الثياب؟
ولكن أخلاق القضاة في ذلك الوقت كانت أخلاقا إسلامية متواضعة، وكانوا يقتدون بالرسول ﷺ في تواضعه وتنزهه عن الكبرياء، فلقد أَثِرَ أنه كان يخصف نعله ويرقع ثوبه ويقضي كثيرا في حاجاته بنفسه؛ وهذا العمل في حد ذاته رياضة محبوبة ينزع إليها كثير من العلماء، وهو نوع من الديمقراطية لإرضاء الفقير
وكان أبو عبد الله بن لهيعة (155 - 163هـ) أول قاض ولي من قبل خليفة في العصر العباسي، كما كان أول قاض حضر في إثبات رؤية الهلال. ولقد أتى المفضل بن فضالة (168 - 169، 174 - 177هـ) بكثير من ضروب الإصلاح التي أدخلها على نظام القضاء. وكان كذلك أول من عنى بالسجلات وجعلها تامة وافية، فدوّن فيها السَّحايا والوصايا والديون وأول من أتخذ (صاحب المسائل) ومهمته الوقوف على حقيقة الشهود.
ويظهر أن هذا الإصلاح الأخير إنما كان ظاهرياً فقط، فقد قيل أن هذا الموظف كان يرتشي من بعض الناس ليقرر عدالتهم لدى القاضي. على أن المفضّل فطن إلى ضرر الاستعانة بهذا الموظف، وأضطر أمام الأمر الواقع فعين عشرة رجال للشهادة، ولكن هذا العمل لم يرق في نظر الجمهور لاتخاذ الشهود بهذه القلة، ولأنه عمل جديد لم يسبق إليه أحد من القضاة، فقال رجل يدعى اسحق بن معاذ يقبح رأي القاضي:
سننْتَ لنا الجوْرَ في حكمنِا ... وصّيرت قوماًُ لصوصاً عُدولا
ولم يسمع الناسُ فيما مضى ... بأن العدول عديداً قليلا
وقد نظم لهيعه بن عيسى الأحباس وكانت في أيامه على ما قال هو لأحد أصحابه (سألت الله أن يبلغني الحكم فيها فلم أترك شيئاً منها حتى حكمت فيه وجدّدت الشهادة به) ولا غرو فقد جمع الأموال التي من الأحباس وخصص منها نصيباً لأهل مصر كما أدخل فيها المطوعة الذين كانوا يعمرون المواخير وأجرى عليهم العطاء من الأحباس فكان ذلك أول ما فُرضت فروض القضاة فسنّ الناس هذه السنة بعد لهيعه وسميت (فروض لهيعة) ثم سميت بعد ذلك فروض القاضي وفي ذلك يقول فراس المرادي
لعمري لقد سارت فروض لهيعة ... إلى بلد قد كان يهلك صاحُبهْ
إلى بلد تُقرَى به واليوم والصدى ... تعاوره الروم الطغام تحارُبهْ
رشيد وإضنا والبرلّس كلها ... ودمياط والأشتوم تقوى تغالبه
لهيع: لقد حزت المكارم والثنا ... ومن عند ربي فضله ومواهبه
فقد عمَّرت تلك الثغور بسنة ... تعد إذا عدت هناك مناقبه
على أن لهيعه قد أغضب أهل مصر لما كان من اتخاذه ثلاثين رجلاً من الشهود جعلهم بطانة له، فقال أبو شيب مولى نجيب في صحابه لهيعة شعراً ننقل بعضه لأنه يبين كيف كان يعقد مجلس الحكم في هذا العصر، وأن كنا نرى في هذا الوصف مبالغة قوامها التشهير بهذا القاضي وصحابته:
لازموا المسجد ضلاّ ... لاً من الأمر الرشيد لحوانيت بَنَوْها ... بغناً كلّ عمود
والأحُوا بجباهٍ ... من نطاح الحُصر سودِ
تحت أميالٍ طِوال ... كبراطيل اليهود
وتراهم للوصايا ... وعدالات الشهودِ
في مراء وجدال ... وقيام وقعود
وخشوع وابتهال ... وركوع وسجود
وعلى القسمة أضرى ... من تماسيح الصعيد
هذا حال نظام القضاء في مصر إبان هذا العصر، غير أنه للأسف لم يكن خالياً من عيوب ونقائص جعلته متمشياً في جملته مع تلك الحال السيئة التي سادت البلاد في هذا الوقت. نعم! قد عرف بعض القضاء بسوء السيرة فأساءوا إلى سمعتهم وسمعة كتابهم بما أتوه من أعمال الرشوة؛ على أنه يلوح لنا أن الخلفاء كانوا لهؤلاء وأمثالهم بالمرصاد، فقد ذكر الكندي أن هشام بن عبد الملك الأموي بلغه أن يحيى بن ميمون الحضرمي (105 - 114هـ) لم ينصف يتيما احتكم إليه بعد بلوغه، وحوّل قضيته إلى عريف قومه، وكان اليتيم وقتئذ في حِجره، ثم حبسه حين أتصل به أنه أخذ يشنع عليه ويرميه بعدم إنصافه، وعلم الخليفة بهذا فعظم ذلك عليه وصرفه، وكتب إلى الوليد بن رفاعة عامله على مصر يقول: (أصرف يحيى عما يتولاه من القضاء مذموماً مدحوراً، وتخير لقضاء جندك رجلاً عفيفاً ورعاً تقياً سليما من العيوب لا تأخذه في الله لومة لائم)
حسن إبراهيم حسن