الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 27/صفي الدين الحلي

مجلة الرسالة/العدد 27/صفي الدين الحلي

بتاريخ: 08 - 01 - 1934

677 - 750هـ

(شاعر أتى بما أخجل زهر النجوم في السماء، كما قد أزرى بزهر الربيع في الأرض)

هكذا يصف (ابن شاكر) صاحب فوات الوفيات بلبل الحلة وحماة والقاهرة: صفي الدين. وكأنه إذ يفاخر به الطبيعة في جمال أرضها وسمائها على ما حوى ذلك الجمال من نور وشذا وألوان وسحر، يريد أن يسجل لنا باعترافه دليلا دامغا على أولئك الذين يزعمون أن الأدبالعربي قد أخذته الصيحة يوم حطم التتار عرش المستعصم في بغداد!

نعم هناك أناس يعتقدون أن الأدبالعربي بعد سقوط بغداد قد أجدبت أرضه وهوت نجومه، فأصبح لا ينتج إلا دنئ النبات، ولا يستضئ إلا بخافت الذبالة، وإنه قد ظل عن منابع الوحي فانزوى تحت قبة ذلك العصر المظلم المغمور الذي يسمونه عصر المغول والأتراك أو عصر الدول المتتابعة، ولكن هذا الزعم مبني على نظرية مخطئة ذاعت في مبدأ دراسة الأدب، ثم أخذت معاول الآراء الحديثة تهدمها من كل جانب، وهي التي كانوا يعبرون عنها بقولهم الأدبظل السياسة، فحيثما ولت السياسة وجهها تبعها خيالها، وكلما ألم بها سقم تقاسمته مع خدينها، ولهذا جعلوا عصور الأدبمن حيث القوة والضعف مطابقة التقسيم لعصور السياسة، كأن الأدبشخص قابع تحت عرش الملك يحين أجله إذا انقض عليه العرش فهشم أضلاعه!

لم يمت الأدببعد أن ماتت بغداد، وإنما ألجأته السياسة فقط إلى الفرار من مجال الفوضى والوهن، فهام على وجه قليلا، ثم ألقى العصا في معاقل حصينة يستطيع فيها أن ينصب رايته وينشر بساطه بعد ذلك اللغب والإعياء. كانت هذه المعاقل منبثة في الأقطار العربية ولكنها ترجع جميعا إلى ثلاثة مراكز قوية: مصر كما تمثلها القاهرة، والشام كما تمثلها حماة، وجزيرة العراق كما تمثلها ماردين. وبين هذه المراكز ظل الأدبالعربي يتنقل طليقا حيا معلنا عن نفسه بأفذاذ نوابغ لا يقل بعضهم عن أعلام العصر العباسي في ريعان شبابه، ومن هؤلاء أبن نباتة المصري وصلاح الدين الصفدي، وابن حجة الحموي، وعلاء الدين بن الأثير، وصفي الدين الحلي الذي نتكلم اليوم عنه من حيث هو شاعر.

نشأ صفي الدين بالحلة من مدن العراق مهد الوحي الشعري الغامر شاعرا بفطرته: يحب الشعر ويطرب لما فيه من موسيقى وانسجام، فأكب على حفظ كثير من مقطوعاته وهو لم يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم كثير من مقطوعاته وهو لم يزل بعد غلاما غض الإهاب، وأخذ ينظم من أمثاله ما توحيه خواطره وميوله في غير تصنع أو كلفة كما يقول هو عن نفسه (كنت قبل أن أشب عن الطوق، وأعلم ما دواعي الشوق، بهجا بالشعر نظما وحفظا، متقنا علومه معنى ولفظا، وامقا بسبك القريض، كارها للكسب بالتقريض) فكانت هذه الفطرة أول عامل في إيجاد تلك القوة الشعرية النابغة، وأكبر مؤثر في توجيه نفسه بعد إلى التفني بالعواطف الصادقة الطبيعية المتصلة بأعماق النفس ورغبات الحياة. ثم اجتمع له عامل آخر شحذ هذه الفطرة وعاونها على السير في اتجاهها وهو ولادته من أسرة راقية ذات قدم في المجد نفخت فيه من روح العظمة فجعلته يهتف بمآثرها ويغرد بمفاخرها، وربته كما ينشأ ولد النبلاء آخذا بقسط وافر من الثقافة العربية السائدة في ذلك الوقت، أو بالأحرى من الثقافة العباسية، لأن تراث الفكر العباسي كان لا يزال هو المثل الرفيع الذي يحتذيه كل من أراد أن يرتوي من مناهل العلم والأدب بالرغم مما أصابه من القضاء السياسي. وإلى هذين العاملين كان هناك سبب ثالث ساعد كثيرا في بناء ذلك الصرح الشعري الباذخ وهو ما ألجأته الحياة إليه من التنقل بين عواصم البلاد العربية: فقد فارق الحلة وهي مسقط رأسه حول عام سبعمائة من الهجرة إلى (ماردين) اكبر قلاع الجزيرة حيث نزل على صاحبها الملك المنصور نجم الدين غازي ثم أبنه الملك الصالح، وهما من أمراء البيت الأرتقي الخاضع لسيادة مصر في عهد السلاطين، ورحل بعد ذلك حول عام 727 إلى مصر نفسها فنزل بالملك الناصر قلاوون، ثم عاد إلى حماة بالشام فاتصل بالسلطان المؤيد عماد الدين الأيوبي وهو المؤرخ الشهير بأبي الفداء وابنه الأفضل، وقد كانا واليين من قبل سلطان مصر أيضا، وذهب إلى الحجاز مرارا لأداء فريضة الحج والزيارة، فكان لهذه الرحلات آثار قوية في إحياء شعره واستغلال قريحته وفي تنمية ثقافته ومقدرته الأدبية. وإذا كان الرجل قد اجتمع له نقاء الغاية ورقي الأسرة وملاءمة البيئة فماذا تنتظر من إلا أن يكون شاعرا فحلا يرفع منار الأدبويحتل له من الخلود مكانا؟!

هكذا كانت دواعي الشعر مهيأة لصفي الدين، فأخذ يصعد إلى قمته حتى أشرف على الغاية وصار أمير الشعر بلا منازع في أقطار الشرق ما عدا مصر التي كانت معتزة إذ ذاك بأميرها الذي لا يباري وهو: (ابن نباتة)، ولما كان العصر الذي نشأ فيه الحلي هو الوارث لآثار الفكر العباسي بالعراق، وثمرات العصر الأيوبي بمصر، فقد ظهرت طوابع هذين العهدين في شعره، واصبح مرآة حاكية لصورتيهما، ونستطيع على ضوء هذا الحكم أن نعرف الخصائص التي تميز بها شعره من ناحية الأسلوب وناحية المعاني.

أما أسلوبه فقد كان على نمط كبار الشعراء العباسيين في العصر الثاني متين الديباجة شديد الأسر مصوغا من الألفاظ القوية الرنانة المألوفة التداول، إذ كان يواجه كثيرا من عنايته إلى الناحية اللفظية، ويأبى إلا أن يعارض المتنبئ والطغرائي والحمداني وأضرابهم من الفحول، فلا يقصر خطوه عن مداهم ولا يقع دون علاهم. وقد احتذى مع ذلك طريقة القاضي الفاضل التي نشرها بمصر وسرت منها إلى الأدبالعربي جميعه، فملأ شعره بالطباق والجناس والتورية والاقتباس وغيرها من أنواع الصناعة البديعة حتى كاد أسلوبه يعد مثلا كاملا لهذه الطريقة، وأوشك كل محسن بديعي على كثرة فروع هذه الأنواع أن يأخذ حظه من شعره.

ومن الحق أن نقرر أن هذه الظاهرة كانت تعد في ذلك العصر من الأمثلة العليا للشعر، بحيث تقاس منزلة الشاعر بقدرته على تطبيقها واستخدامها في كلامه وخلق المناسبات لها كلما استطاع، كما يتضح لنا ذلك من كتب النقد التي ألفت حينذاك، كخزانة الأدبلابن حجة الحموي، والوافي للصفدي وغيرها، ولهذا لا يجوز لنا أن ننظر إلى تلك الصناعة نظرة فتور أو سخط، بل على العكس ينبغي أن نحكم على كل شاعر بروح عصره ونقيسه بمقياس زمانه لئلا نصدم القديم بالجديد، ونخلط الماضي بالحاضر. وعلى هذه القاعدة يمكننا أن نحكم لصفي الدين بأنه شاعر قدير مفتن استطاع أن يتلاعب بالألفاظ في مجال البديع بمهارة يفوق بها كثيرا من نابهي الشعراء الذين عاصروه أو سبقوه، بل أن الباحث العصري قد لا يملك نفسه أحيانا من الإعجاب بهذه الصناعة التي ينعى عليها لما يبدو له من لطف التقابل والتطابق واللمح والإيماء في معان منسجمة وخيال منتظم. وإذا شئت فانظر إلى قوله:

وما ذاك إلا أن يوم وداعنا ... وقد غفلت عين القريب على رغم

ضممت ضني جسمي إلى ضعف خصرها ... لجنسية كانت له علة الضم

ربيبة خدر يجرح اللحظ خدها ... فوجنتها تدمى وألحاظها تدمى إذا ابتسمت والفاحم الجعد مسبل ... تضل وتهدي من ظلام ومن ظلم

تغزلت فيها بالغزال فأعرضت ... وقالت لعمري هذه غاية الذم

وكم قد بذلت النفس أطلب وصلها ... وخاطرت فيها بالنفيس على علم

فلم تلد الدنيا لنا غير ليلة ... نعمت بها ثم استمرت على العقم!

وقد بلغ من قدرته وتجليته في هذه الحلبة أنه ألف قصيدة طويلة عدتها مائة وخمسون بيتا تشتمل على مثل هذا العدد من أنواع البديع المختلفة كأنها كتاب علمي وضع لضبط هذا الفن بالقاعدة والمثال، ومع ذلك فهي قطعة أدبية قيمة تجمع بين الغزل الرقيق والمدح الرائع والاستعطاف والوصف في سياق مخاطبة الرسول (ص) الذي يتوسل إليه الشاعر بعد مرض عضال شفاه الله منه! ومن أبياتها هذه الأربعة التي جمع فيها أنواع التوشيح والمقابلة واللف والنشر والتذييل والالتفات:

هم أرضعوني ثدي الوصل حافلة ... فكيف يحسن منها حال منفطم؟

كان الرضا بدنوي من خواطرهم ... فصار سخطي لبعدي عن جوارهم

وجدي حنيني أنيني فكرتي ولهي ... منهم إليهم عليهم فيهمُ بهمِ

لله لذة عيش بالحبيب مضت ... فلم تدم لي وغير الله لم يدم!

ومع أن صفي الدين عارض كثيراً من الشعراء في العصرين الجاهلي والأموي، وشاهد كثيرا من مظاهر حياتهم في البادية أثناء رحلاته الطويلة، فإننا لم نره يتناول الأوصاف الجاهلية الغربية أو يختار غير الشائع في عصره من الألفاظ السهلة الجارية على الألسن الفصيحة، متأثرا في ذلك شعراء العصر الأيوبي في مصر، وأن كان لم ينزل معهم إلى الذوق الشعبي العام، فكأنه وقف وسطا بين الأسلوب القديم الغامض، والأسلوب الحديث الواضح، ومن أجل موقفه هذا رماه أحد النقاد في عصره بسهم حاد إذ عاب عليه ضعف شعره من الوجهة اللغوية وقلة استخدامه للألفاظ الغربية، فأخذ يرد عليه بهذا البيان القوي الحاسم:

إنما الحيزبون والدردبيس ... والطخا والنقاخ والعلطبيس

والحراجيح والشقحطب والصع ... قب والعنقفير والعنتريس

لغة تنفر المسامع منها ... حين تروى وتشمئز النفوس وقبيح أن يذكر النافر الوح ... شي منها ويترك المأنوس

أين قولي: هذا كئيب قديم ... ومقالي: عقبقل قد موس؟

لم نجد شاديا يغني: (قفا نب ... ك) على العود إذ تدار الكؤوس

لا ولا من شدا (أقيموا بني أم ... ي) إذا ما أديرت الخندريس

خلي للأصمعي جوب الفيافي ... في نشاف تخف منه الرءوس

إنما هذه القلوب حديد ... ولذيذ الألفاظ مغناطيس

فهذه دعاية ثائرة للتجديد تدل على أن شاعرنا لم يكن يحب التقليد الأعمى للأقدمين، وإنما يرى من الواجب أن تتحول اللغة إلى أشكال شتى بحسب ما يقتضيه العصر ما دامت محافظة على قواعدها الأساسية، وقد ذكرنا أن هذه الدعوة ليست إلا صدى لمذهب الشعر المصري سرى في بلاد الشرق العربي حين كان منضويا تحت لواء مصر السياسي والاجتماعي في عهد الأيوبيين والسلاطين.

(يتبع)

ضياء الريس